لو استمعوا لمطالبي بالانسحاب من المدينة بعد سقوط قرى غرب العاصي لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه حاليا، لقد دمّرنا أنفسنا بسبب حماقة وتعصب بعض المنتفعين الذين كانوا أول من تمكن من العبور لحظة الهروب الكبير
في العام 1273 قبل الميلاد كانت معركة "تل قادش" التاريخية في ريف القصير بين المصريين والحثيين للسيطرة على آسيا، والتي سميت "حرب قادش الثانية"، لانها قررت مصير العالم حينها لثلاثة قرون. وبعد أكثر من ثلاثة الآف عام ومن "تل قادش" أيضا دخل "حزب الله" الحرب في سوريا لتعود منطقة القصير المنطلق لتغيير الوجه الاستراتيجي للعالم وتغيير وجه المنطقة لأجيال قادمة.
هذه إحدى الخلاصات التي يخرج بها كتاب "معركة قادش الثالثة : أسرار حرب القصير"، للكاتب الصحفي الزميل نضال حمادة، والذي وقّعه في معرض بيروت الدولي للكتاب الأسبوع الماضي.
بوتين لبندر: " سوف نقطع رؤوسهم"
يتميز الكتاب بسرد ذاتي من المؤلف نفسه، الذي يؤكد أنه تابع جزءاً كبيراً من الأحداث بوجوده في الميدان، ويقول :"قدر لي أن أكون في محيط تل النبي مندو أو تل قادش يوم سقوطه بيد المسلحين في 8 نيسان 2013، كنت حينها في بلدة العقربية... كان رجال حزب الله يراقبون سقوط التل ويدركون في قرارة أنفسهم أن دخولهم المعركة أصبح أكثر من ضروري، هذا الدخول أصبح حتمي لبقائهم وإلا الخناق قد أطبق عليهم مع مشاهد سقوط تل قادش بيد المسلحين التكفيريين".
يسوق الكاتب حمادة في كتابه هذا أحد عشر فصلاً يروي فيها أحداثاً كانت تدور بين زاوريب الحرب العسكرية من جهة وزواريب الحرب السياسية وأشكالها المختلفة من جهة أخرى. يمهّد الكاتب في بحث يتمحور حول المجال الاستراتيجي للأزمة السورية، وينقل عن العقيد الركن السابق في الجيش الفرنسي "ألآن كورفيس" أن التحول في موازين القوى العالمية بدأ في العام 2007 في حرب جورجيا عندما تدخلت القوات الروسية ضد حكومة الرئيس الجورجي "سكاشفيلي" بعد مهاجمة الأخير بدافع من أميركا لأوسيتيا الجنوبية ذات الموقع الاستراتيجي الحيوي لروسيا، فتحرك الروس لأول مرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وكانت بداية العودة الروسية قوة عالمية وقالت بذلك للغرب إنها لا يمكن أن تقبل بعد الان أي تخطٍ لمصالحها الحيوية.
وكان "بوتين" في قمة غضبه وكان يصيح عاليا في وجه ساركوزي، الذي توسط لحل الأزمة بين روسيا وأميركا، "سوف أشنق سكاشفيلي كما شنق بوش صدام". ولكن قبل ذلك كانت تداعيات أحداث 11 أيلول 2001 قد سمحت لأميركا أن تصبح في قلب المعادلة الأمنية والاستراتيجية للمنطقة ما أعطى واشنطن رافعة سياسية تحتاجها للبدء في استغلال الموارد النفطية لأسيا الوسطى بعيدا عن النفوذ الروسي. وهذا الوضع خلق تحالف ثلاثي بين روسيا والصين وإيران بانت ملامحه الواضحة في الأزمة السورية.
وفي الزيارة الشهيرة الأولى التي قام بها رئيس الاستخبارات السعودية بندر بن سلطان إلى روسيا لثنيها عن دعم سوريا عرض بندر على بوتين تاريخ التحكم السعودي بالسلفية العالمية المحاربة من أفغانستان حتى سوريا مرورا بالعراق والشيشان وأن السعودية بإمكانها منع هذه القوى من محاربة روسيا في آسيا الوسطى شريطة مساعدتها في تغيير النظام السوري. فاستعاد بوتين مع بندر لغة التهديد وقال له إنه لن يسمح بتدخل عسكري غربي في سوريا وفي حال أتى السلفيون إلى روسيا "سوف نقطع أرجلهم وروؤسهم".
ولكن على ما يبدو لم يتأتَ لبوتين هذه الثقة العالية في قطع أرجل وروؤس السلفيين المحاربين إلا بعد معركة القصير المصيرية، وبعد ثبات الجيش السوري في معركة دامت سنتين ونصف.
الطوق حول "الهرمل" سرّع من تدخل حزب الله :
يقول الكاتب إنه كان يشاهد عن قرب وبأم العين المعركة التي انتهت بسقوط التل بيد المسلحين دون أي تدخل من الطيران الحربي السوري لمنع سقوطه الاستراتيجي. وعلى ما يبدو كان سقوط التل الخطأ الكبير الذي ارتكبته الجماعات المسلحة في ريف القصير، إذ إنه دخل عمق المناطق اللبنانية في منطقة حوض العاصي وأصبح طريق الهرمل – الساحل السوري مقطوعاً بفعل نيران هذه المجموعات، وأضحى الهدف الأساسي من معركة القصير هو الوصول إلى الساحل عبر الشمال اللبناني، ويؤمن طريق السلاح من البحر إلى حمص ودمشق عبر مدينة القصير الاستراتيجية. فضلا عن اكتمال الطوق حول مدينة الهرمل من ثلاث جهات وسيطرة حلفاء هؤلاء المسلحين (عرسال) ناريا على طريق الهرمل – بعلبك ما يهدد حزب الله في عمقه الديمغرافي والاستراتيجي. وكان الخيار الذي لا بد منه أمام قيادة حزب الله استعادة القصير ومركزها لمنع التكفيريين من الوصول إلى حدود الهرمل "خزان" حزب الله الاستراتيجي على الحدود مع سوريا.
وبعد عشرة أيام من سقوط "تل قادش" شنّت قوات الجيش السوري ومقاتلي حزب الله هجوما واسعا على محورين انطلاقا من تل النبي مندو في الغرب ومن بلدة حوش السيد علي باتجاه قرية أبو حوري. وجرت عملية التقدم بحسم سريع وكبير فتم تحرير عدد كبير من القرى في ريف القصير. وشكّلت بلدة سقرجا في الريف الغربي للقصير منذ بداية الأحداث السورية نقطة تمركز قوية للمسلحين وكذلك كانت مركزا لقصف القرى الحدودية اللبنانية. في الهجوم الذي شنّه الجيش السوري وحزب الله واللجان الشعبية سقطت كل القرى المحيطة بسقرجة وأصبحت البلدة شبه محاصرة، فعادت نغمة الوساطات السابقة وكان واضحاً أن المسلحين يريدون كسب الوقت. وبعد أخذ ورد بين المسلحين والجيش السوري وتدخل وساطات لتأمين خروجهم من القرى لم تتوصل إلى اتفاق، فتقدم رتل من الجيش إلى مداخل بلدة عين التنور التي هربوا إليها، وكان فيها تجمع آليات وأربع دبابات وسيارات رباعية الدفع تحمل رشاشات مضادة للطائرات.
مفاوضات عسيرة خلال سير المعارك :
وفي يوم 26 نيسان أصبحت مدينة القصير بين فكي كماشة وسط هذا التقدم السريع والحاسم. فبدأ هجوم حزب الله والجيش السوري على مدينة القصير في شهر أيار بعد أن تمت السيطرة على مجمل القرى الواقعة غرب نهر العاصي والتي تشكل حلقة الوصل بين القصير والشمال اللبناني ما أجبر المسلحين على سحب المئات من حمص للحفاظ على مواقعهم في القصير، فتمكن مقاتلو حزب الله وجنود الجيش السوري من عزل المدينة وإطباق الحصار عليهم. وذلك بعد استقدام تعزيزات من درعا ومن دمشق مستفيدا من انهاك فصائل المسلحين وتشتت استراتيجيتهم بين القصير وحمص. وفي بداية أيار بدأت معركة القصير التي كان فيها نحو 20 فصيلا من المسلحين الذين تمكنوا في البداية من صد الهجوم بعد وصول تعزيزات لهم من مناطق عديدة.
في نهاية شهر أيار 2013، قبل أيام من تحرير القصير استعاد الجيش السوري السيطرة على مطار الضبعة وقسم كبير من جنوب المدينة. وقطع بذلك خطوط الإمداد عن المسلحين الذين تمركزوا في شمال المدينة ووسطها وغربها. ويروي مصدر ميداني كبير للكاتب أن حزب الله كان يريد تجنيب قصف المدنيين بأي شكل، بينما كان هؤلاء الدرع البشري للجماعات المسلحة. وكان هناك اتصال بين الدكتور علي زعيتر والدكتور قاسم الزين مدير المستشفى الميداني لوضع ألية تجنّب المدينة معركة دامية. وكانت الأمور تسير نحو اتفاق للانسحاب يحافظ على وجود المدنيين ويتم نقل الجرحى إلى المستشفيات اللبنانية دون التعرض لهم ويؤمن طريق انسحاب للمسلحين من دون سلاحهم غير أن وصول العقيد عبد الجبار العكيدي عطّل الاتفاق، وعندما شعر بقرب النهاية فرّ مع جماعته قبل يومين من تحرير المدينة، بعد أن خسر نحو 70 من رجاله.
في تلك الأثناء كان المسلحون يقولون إن لديهم 400 جريح وخرج جورج صبرا على الإعلام طالباً من رئيس مجلس النواب اللبناني "نبيه بري" التدخل لإخراجهم. وأتفق أن يؤمّن حزب الله الجرحى، الذي لم يكن عددهم أكثر من 80، إلى لبنان ويسلمهم للصليب الأحمر الدولي على أن تتم عملية الانسحاب بهدوء. وعند الساعة الثانية ليلا بدأت وحدات الاستطلاع في حزب الله تخبر غرفة العمليات أن انسحابا كبيرا يتمّ من القصير من ناحية الشمال نحو قرية البويضة في مخالفة للاتفاق. وخلال الانسحاب الذي اطلقوا عليه "رحلة الموت" استمر 36 ساعة اشتبكوا أكثر من مرة مع الجيش السوري وخسروا نحو 130 مسلحاً.. وبعد أن طلبوا الاستغاثة من حزب الله تمّ تأمين طريقهم للانسحاب وتسليم الجرحى للصليب الأحمر الدولي بأمر مباشر من قيادة حزب الله في بيروت.
أين ذهب مسلحو القصير بعد الهزيمة ؟!:
هذا باختصار شديد لأهم مراحل معركة القصير الشهيرة، والتي توسع فيها الكاتب في تفاصيل واكبها هو بنفسه في الميدان. وبات من الملح طرح سؤال أين ذهب المسلحون بعد هزيمتهم في القصير؟!..
في اتصال معتاد بينه وبين أحد اصدقائه القدامى من سكان القرى اللبنانية المحاذية لريف القصير قال (م.س) أحد قادة المسلحين في حرب القصير:"لو يسمح لنا حزب الله بالعودة إلى القصير حتى نقاتل إلى جانبه هذه المرة بعد الذل والاستغلال الذي نعيشه هنا في جرود عرسال من أهالي هذه المدينة، ومن أهالي القرى والبلدات السورية المواجهة لها في قرى القلمون الدمشقي". ويضيف القائد العسكري السابق في لواء الفاروق في القصير وريفها في حديث مع الصديق اللبناني :"لو استمعوا لمطالبي بالانسحاب من المدينة بعد سقوط قرى غرب العاصي لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه حاليا، لقد دمّرنا أنفسنا بسبب حماقة وتعصب بعض المنتفعين الذين كانوا أول من تمكن من العبور لحظة الهروب الكبير نظرا لإمكانياتهم المادية الكبيرة التي أمنت لهم الهروب كما كانت تؤمن لهم الانشقاقات، بينما بقي المقاتلون في أتون الجحيم ولولا الممرات التي سمح بها حزب الله وكفل امانها لسحقتنا مدفعية الجيش وطائراته عن بكرة أبينا".
نكتفي بهذا القدر من متون الكتاب تاركين لكم فرصة التعرف على تفاصيل شيقة بقدر أكبر، تضم بين دفتيها العديد من الحقائق الميدانية التي رافقها الكاتب عن كثب والتي سوف يسجلها التاريخ للأجيال القادمة.