23-11-2024 09:08 PM بتوقيت القدس المحتلة

محاكمة أطباء البحرين: قصص "التعذيب" وجزاء الحديث مع وسائل الإعلام

محاكمة أطباء البحرين: قصص

مع تواصل احتجاجات ومظاهرات الربيع العربي وتحوُّل اهتمام وأنظار العالم إلى أماكن أخرى، تبدأ محاكمة مجموعة من الأطباء البحرينيين بسبب ما تقول السلطات إنه "تجاسرهم على الحديث مع وسائل إعلام أجنبية."

كتب روبرت وينغفيلد هيز، مراسل بي بي سي في البحرين:

مع تواصل احتجاجات ومظاهرات الربيع العربي وتحوُّل اهتمام وأنظار العالم إلى أماكن أخرى، تبدأ محاكمة مجموعة من الأطباء البحرينيين بسبب ما تقول السلطات إنه "تجاسرهم على الحديث مع وسائل إعلام أجنبية."

ووسط الاضطرابات العنيفة التي تشهدها كل من ليبيا وسورية، يسهل نسيان ماذا حدث في جزيرة البحرين الصغيرة قبل نحو ثلاثة أشهر خلت.

وهذا النسيان بالتحديد هو ما كان يتمناه المسؤولون عن بطولة العالم لسباق سيارات "الفورميولا 1"، وهو بالتأكيد ما كان يفضِّله أيضا أفراد الأسرة المالكة في البحرين والعديد من أصدقائهم في مجتمع المال والأعمال في الغرب.

هناك في الطابق الثاني والخمسين من برج المكاتب المتلألئ البرَّاق والمطلِّ على وسط العاصمة المنامة، جلست في وقت سابق من الأسبوع الحالي وقد طلب مني محدِّثي أن أنسى الأمر (أي أمر المظاهرات).

هنا يجب علي أن أعترف أنه أقلَّ ما يُقال في أفراد العائلة المالكة في البحرين أنَّهم لطيفون وجذابون.

موعد غداء

وحول مائدة الغداء، والتي ضمَّت ما لذ وطاب من سمك الشبُّوط المشوي وحساء السبانخ المثلَّجة، حدَّثني الشيخ عبد العزيز بن مبارك بلوعة وأسى عن عشقه لنادي ليدز لكرة القدم ولتلك الأيام الماطرة التي كان يقطع فيها شارع إيلاند في سبعينيات القرن الماضي، وكان يومها نادي ليدز واحدا من أعظم النوادي الإنجليزية.

"مع تحويل العالم اليوم أنظاره إلى قضايا وقصص أخرى تبدو أكثر إلحاحا، مثل الأوضاع في كل من سورية وليبيا وغيرهما من البلدان، فإن هنالك ثمَّة خطرا من أن يتمَّ نسيان قضية الأطباء البحرينيين"

أمَّا الاحتجاجات التي عمَّت شوارع البحرين مؤخَّرا، فقد كانت مؤسفة.

لقد مضت الاحتجاجات إلى حد أبعد مما كان يجب أن تمضي إليه، وطالب المتظاهرون بأكثر مما كان ينبغي عليهم أن يطالبوا به. وهكذا غرقت البلاد في جوٍّ من الفوضى العارمة.

لم يكن أمام الملك حمد بن عيسى آل خليفة من خيار سوى التدخُُّل لاستعادة النظام. نعم لقد كانت أحداث العنف مؤسفة، لكن التقارير المتعلقة بها كانت أيضا مبالغ بها، وهنالك الآن ثمَّة حوار حقيقي يجري بين الحكومة والمعارضة.

محاكمة الأطباء

في نهاية لقاء الغداء ذاك، كنت قد بدأت فعلا أصدِّق أن الإعلام الغربي ربَّما كان قد التبس عليه الأمر وفهم الحكاية خطأً. وإلى أن لمع في ذهني أمر أعاد إليَّ فجأة منظر كنت قد شهدته بأم عيني قبل ساعات فقط من اللقاء في صباح ذلك اليوم.

ففي داخل قاعة محكمة عسكرية على مشارف المنامة كنت قد جلست أراقب تلك المجموعة المكوَّنة من 20 طبيبا وهم يسيرون متثاقلي الخطى لدى إدخالهم إلى قفص الاتهام. كانت رؤوسهم حليقة وثيابهم رثَّة متسخة.

البعض منهم لا يزال في ريعان الشباب، بينما بدا آخرون أكبر سنَّا، وقد بدأ الشيب يغزو شعر بعضهم.


روى بعض الأطباء لذويهم قصصا عن معاناتهم في المعتقل.

وبما أن قفص الاتهام لم يتسع لحشر عدد كافٍ من الكراسي داخله، فقد وقف الأطباء الشباب ليفسحوا فرصة الجلوس لزملائهم الأكبر سنَّا.

وجهة نظر الادِّعاء

وهكذا، راقبت ممثلي الادِّعاء العام يطرحون وجهة نظرهم في القضية وعلى مرِّ ساعات ثلاث متواصلة.

لقد زعمت السلطات أن الأطباء العشرين كانوا جزءا من "عصابة شيعيِّة مسلَّحة بسطت سيطرتها على أكبر مستشفيات المنامة، والتي كانوا يستخدمونها كقاعدة لمحاولتهم الإطاحة بالأسرة الحاكمة في الجزيرة."

تقول الحكومة إن أفراد تلك العصابة المزعومة "كانوا ينشرون الإشاعات ويستخدمون سيارات الإسعاف لنقل الأسحلة، بما في ذلك الرشاشات بغية إيصالها إلى المتظاهرين في الشوارع."

ويضيفون بقولهم "كانوا يرفضون أيضا علاج المرضى من الأقلية السنية، كما سرقوا الدم من بنك للدم."

لقد وُجِّهت لهم مجموعة غريبة من التُّهم.

أمَّا الأدلَّة التي سيقت ضدَّهم، فقد اتَّسمت أيضا بالضبابية والغموض. فأوَّل شاهد قدَّمه الادِّعاء كان مسؤولا حكوميا دأب على الإشارة إلى مصادر سريَّة وإلى اعترافات كان قد أدلى بها المتَّهمون.


كان يأمل القائمون على سباق "الفورميولا 1" أن تهدأ جزوة الاحتجاجات في البحرين.

والاعترافات هي دوما شكل مشكوك به من أشكال الأدلِّة.

"بلا خوف"

لقد تكلَّم الأطباء بدون خوف عن الإصابات التي لحقت بالمتظاهرين.

اسأل أي شخص سبق أن خضع للتعذيب، وسيخبرك بأن الكل ينهارون في النهاية.

ومن أكثر السبل فاعلية لجعل الشخص يوقِّع على اعتراف هو ببساطة حرمانه من النوم.

لقد قابلت ذات مرَّة في الصين رجلا اعترف بأنه قتل زوجته، وذلك بعد أن أرغمته الشرطة على البقاء مستيقظا لمدة عشرة أيام متتالية بلياليها.

أمَّا المفارقة الغريبة في اعترافه ذاك فكانت أن زوجته لا تزال حيَّة تُرزق.

إلاَّ أن ما أخبرتنيي به زوجة أحد الأطباءالبحرينيين فقد كان أكثر مدعاة للانزعاج والقلق.

فخلال لقاء قصير خارج المحكمة، أبلغها زوجها أنهم عصبوا عينيه وكبَّلوا يديه وأرغموه على الوقوف لمدة ثلاثة أسابيع.


تأمل الحكومة البحرينية أن ينجح حوارها مع المعارضة بوضع حد للاحتجاجات.

نعم، قد لا يبدو إرغام شخص ما على الوقوف كنوع من أنواع التعذيب، ولذلك يُعتبر مثل هذا الأمر وسيلة فعَّالة للغاية.

لقطات فيديو

ولدى عودتي إلى غرفتي في الفندق، رحت أبحث في أرشيف بي بي سي عن وجود لقطات فيديو يظهر فيها الرجال الذين رأيتهم في الصباح داخل قفص الاتِّهام في المحكمة.

لم يستغرق الأمر منِّي زمنا طويلا، فقد ظهر هؤلاء على قناتي بي بي سي والجزيرة حيث تحدثوا بحماس ودونما خوف، بينما ظهر وراءهم متظاهرون مصابون وهم يُنقلون إلى قسم الإسعاف في المسشتفى.

وفي أحد تسجيلات الفيديو، تحدَّث أحد الأطباء، واسمه علي العكري، بصوت خفيض وهو يغالب دموعه أثناء مناشدته الحكومة التوقُّف عن قتل وإطلاق النار على المتظاهرين.

أمَّا ممثل الادِّعاء العامّ في المحكمة، فقد وصف عل العكري بأنه "الزعيم الرئيسي لمؤامرة الأطبَّاء".

في الواقع، لم يبدُ لي العكري كزعيم عصابة البتَّة. نعم، لقد كان متحمِّسا وغاضبا ومذهولا، لكن أن يكون زعيم انقلاب مناهض للحكومة، فلا.

"جريمة" العكري

يطالب المتظاهرون البحرينيون بالإفراج عن كافة المعتقلين.

وجريمة العكري الحقيقية فهي أنه تحدَّث إلينا، أي نحن وسائل الإعلام الأجنبية. نعم، لقد كانت جريمته هي أنَّه أخبر العالم الخارجي بما كان يحدث داخل المستشفى الذي يعمل به، إذ تكلَّم عن آثار الرصاص والغاز المسيل للدموع، وأظهر بواسطة الأشعة الرصاص عالي السرعة الذي استقرَّ في أجساد المتظاهرين.

لقد جلبت تلك الصور الخزي والعار والسخط الدولي لإمارة البحرين التي كان يُنظر إليها على أنها مثال للمسالمة والتحرر والتطور.

ولهذا السبب تجري معاقبة أولئك الأطباء البحرينيين الآن.

ومع تحويل العالم اليوم أنظاره إلى قضايا وقصص أخرى تبدو أكثر إلحاحا، مثل الأوضاع في كل من سورية وليبيا وغيرهما من البلدان، فإن هنالك ثمَّة خطرا من أن يتمَّ نسيان قضية الأطباء البحرينيين.

وإذا ما تمَّ ذلك، فسوف يُسمح للسلطات البحرينية أن تمضي بهدوء في مقاضاة أولئك الأطباء الذين تجرَّأوا وتحدَّثوا عن الأوضاع في بلادهم دونما رهبة أو خوف.