تقول الرواية الحزينة إن نايفة سمعت عن طريق الصدفة، ذات يوم، ضابطاً كبيراً يسرُ للمدير العام المساعد في «السفير» يومها الزميل ياسر نعمة أن علي قد قتل. فكانت اللحظة التي اقتنعت فيها أنها باتت ثكلى إلى الأبد
26 آذار 1984
كان كلّما مرّ الوقت تفرك يديها لتمسح العرق العالق بين الأصابع. تأخّر علي عن ميعاد وصوله. كان من المفترض أن يصل باكراً لكن هذا الأمر لم يحصل. ما عساه يكون السبب؟ انشغل بالها. حتى هديّة عيد الأم امتنع عن الإفصاح عنها. أراد أن يفاجئها بها ولو متأخراً بضعة أيام. ترى ما قد تكون الهدية؟..
يوسف حاج علي/ جريدة السفير
طردت فكرة الهدية من رأسها. أخذت نفساً عميقاً وعادت تفكّر بالمراهق الذي يشب بسرعة أمامها. لقد ظهر شيء من الوبر فوق شفته العليا. مشروع شارب بدأ بالنمو. أصبح طفلها فجأة رجلاً صغيراً يمشّط شعره بعناية تامة كالشبان الذين يعتنون بشكلهم لجذب الفتيات. ثم بدأ يمنعها من مساعدته خلال الاستحمام تأكيداً على مسافة «الرجولة» التي أراد تثبيتها. صار يحب مرافقة الرجال والمشاركة في جلساتهم «الذكورية». ليت والده ظلّ حياً ليراه. ليت بحر الخليج لم يبتلعه، قالت في نفسها. أخذ البحر عدنان حماده، والد علي، عندما كان يبحث عن لقمة العيش وكان عمر علي تسعة شهور فحسب. التاريخ الذي من المفترض أنه تاريخ للولادة والحياة صار تاريخاً للموت في العائلة الصغيرة. لم تكن تعرف أن مدة الشهور التسعة هذه ستتكرر معها مرة أخرى قبل أن تختتم بمأساة ثانية. سخرية القدر التي يتحدثون عنها. سخريتان في حياة واحدة.
لقد بلغ علي الثالثة عشرة من عمره. ما أجمل هذا الرجل الصغير عندما يبتسم في وجهها ويتصرّف كالكبار. دارت كل هذه الصور أمامها كسيناريو سريع. علي. أين علي؟ لماذا تأخر هكذا؟ نظرت مجدداً في الساعة.
زاد توتّرها. تركت أمينة سر الإدارة حفل الاستقبال الذي كان يقام بذكرى تأسيس «السفير» في الطابق الثالث ونزلت إلى الطابق الثاني لتسأل زميلتها زينب حسون عما أفضت إليه الاتصالات الهاتفية الصعبة. لا شيء. أحسّت بانقباض موجع في قلبها. ما كان يجب أن تسمح له بالذهاب إلى منزل جدّيه في القماطية خلال عطلة الربيع. عاتبت نفسها. الحرب مستمرة وهي تخاف عليه أكثر من أي شيء. كانت دوماً حريصة. لماذا تخلّت عن حرصها في هذه المرّة بالذات؟ عادت تهدئ من روعها وتحدّث نفسها: أنّى لي أن أرفض طلباً يدخل السرور في قلبه المريض، في فصل لطيف مثل الربيع، وهو ابتسامتي الوحيدة؟.
لم يتقدّم المساء إلا وظهر الخبر اليقين: غادر علي القماطية برفقة شخص من البلدة اسمه هشام ناصر الدين. لا هشام وصل إلى بيروت ولا علي فعل.
تغيّر حال نايفة نجار مع اختفاء ولدها في ذلك اليوم بسرعة مهولة. الصبية الثلاثينية المفرطة في الأناقة وفي تنسيق ملابسها، الصبية الاجتماعية، المنفتحة، المحاورة ستختفي إلى غير رجعة. وبعدما كانت علمانية التفكير بدأت تنسحب نحو الدين. في لحظات الضعف الكبير تلجأ النفس الإنسانية لكل شيء. للدين، وللتبصير، وللخرافات. تلجأ إلى العوالم الأخرى التي لا تفهمها الناس. غاصت نايفة في كل ذلك. تهرب إلى هذه العوالم بحثاً عن أجوبة لأسئلتها المفتوحة. تدهور وضعها النفسي نحو الحضيض. كانت ترى الدنيا من خلال عيني علي ولما اختفى ولدها حلّ مكان عينيه لون رمادي لا يقول شيئاً.
غرقت في الضياع، والهواجس، والأوهام. أحرقت الإطارات مع الأمهات الأخريات وكتبت الرسائل الرقيقة للخاطفين ترجوهم عودة ولدها. لكن من لم يسمع صوت ضميره في لحظة الحقيقة هل يسمع حقاً نداء الأم المكلومة بوليدها؟.
حاول الزملاء في «السفير» كثيراً لمعرفة شيء عن علي ورفيقه. نايفة نفسها، بدأت تتصل بالمسؤولين السياسيين وقادة الأحزاب مع زملاء آخرين من دون نتيجة. تلحق المخطوفين الذين حالفهم الحظ وفك أسرهم بحثاً عن خبر يثلج قلبها المختنق. إلى أن وصلت إلى مرحلة قالت إنها ستمارس الخطف في سبيل عودة ولدها.
ومع الوقت، ساء حال نايفة. تخلّت عن كل بهرجات الحياة ومتعها. صارت تهرب من كل ما يحبّه علي ولو كان تفصيلاً صغيراً. كانت كأنها تعاقب نفسها من دون أن تدري. تهرب من الطريق الذي يودي إلى البحر لأن علي يحب البحر. تمنع عن نفسها الطعام الذي يأكله. تتحاشى كل ما يرتبط به. كانت تحترق مثل شمعة تذوب رويداً رويداً. ثم بدأت تسأل نفسها الأسئلة الصعبة: كيف أنزلوه من السيارة؟ كيف كان شعوره؟ هل يقتلون طفلاً؟ هل حقاً يفعلون ذلك؟ هل فكّر لماذا لم تنقذه أمه في تلك اللحظة؟ هل صرخ أريد أمي؟.
تقول الرواية الحزينة إن نايفة سمعت عن طريق الصدفة، ذات يوم، ضابطاً كبيراً يسرُ للمدير العام المساعد في «السفير» يومها الزميل ياسر نعمة أن علي قد قتل. فكانت اللحظة التي اقتنعت فيها أنها باتت ثكلى إلى الأبد. ومع أن نعمة حاول إقناعها بأن هذا الأمر غير محسوم. غير أنها كانت في مكان آخر.
26 كانون الأول 1984
في ذلك المساء البارد وكان قد مر على اختطاف علي تسعة أشهر كاملة، الفترة الزمنية نفسها التي صارت لازمة القصة الحزينة، سهرت نايفة مع العائلة. أمها وشقيقتها من أبيها وأخيها وخالها. أعطت والدتها العجوز التي لا تعرف القراءة والكتابة عدداً من الرسائل كانت بمثابة الوصايا الأخيرة للعيد الذي لم يكتمل بعودة الابن المخطوف. للعذراء ابن يولد ويموت ويقوم، ولنايفة ابن يولد ويضيع في الحياة ولا تعرف شيئاً عنه.
حملت جسدها الهزيل ترفعه كل بضع دقائق إلى الحمام، تشرب جرعة من مادة الديمول السامة، تعطّر نفسها من بعدها كي لا تكشفها الرائحة، وتعود لتتابع السهرة. فعلت ذلك من دون أن تعرق يدها هذه المرة. فعلته بفائض ألمها وما تبقى لديها من إرادة وإدراك. تجرّعت السم ثلاث مرات ثم ألقت تحية المساء على العائلة للمرة الأخيرة قبل أن تختفي في غرفتها. وعندما دخلت شقيقتها رويدة إلى غرفتها كانت معدة نايفة قد ذابت من أثر السم بعدما سبقها قلبها إلى هذا الأمر خلال تسعة شهور من الانتظار المعلّق. وقّعت نايفة رسائلها التي فتحت لاحقاً بأسماء مختلفة. أسماء ارتبطت كلها بالفتى الذي اختطف في ذلك اليوم المشؤوم. أسماء مثل: أم علي المفقود، أم علي المشتت، أم علي المظلوم، وأم علي البريء. كان انتحار نايفة يشبه الأساطير التي تنتهي بطريقة غير متوقعة.
بكت أمهات المخطوفين والمفقودين من القلب في وداعها. كن بحاجة إلى جسدها ليبكين عليه بدلاً من أجساد أحبتهن التي لم تعد. كنَّ بحاجة إلى قبر خشبي يبلّلنه بدموعهن بدلاً من عظام الأقرباء التي لم ترجع. لم تكن نايفة شهيدة القابضات على ألمهن فحسب. كانت شهيدة الحب والشوق والأمومة. قتلت نايفة روحها باسم جميع المنتظرين بلا أمل. انتحرت باسم الوطن الذي كان ينحر وقتها الضعفاء من أبنائه. الوطن الذي ما زال يمعن في نحرهم كل يوم.