أمريكا اليوم، ليست كما كانت عليه في الأمس القريب، لا بل تكاد تنفصل عنها. فوصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض في تشرين الثاني من العام 2008، ليس مرده أن هذا الرئيس ديموقراطي الإنتماء الحزبي
بقلم: حسن شقير*
أمريكا اليوم، ليست كما كانت عليه في الأمس القريب، لا بل تكاد تنفصل عنها. فوصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض في تشرين الثاني من العام 2008، ليس مرده أن هذا الرئيس ديموقراطي الإنتماء الحزبي، أو أنه أفريقي الأصل، أو أن ما ادعاه البعض أنه إسلامي الجذور والنشأة.. فكل ذلك ليس له أي اعتبار في السياسة والإستراتيجية الأمريكية، إنما مرده إلى أن ذاك التاريخ كان الحد الفاصل الذي افترقت عنده أميركا الأمس عن أمريكا اليوم.
لسنا في وارد العودة إلى الوراء لنحلل وندرس الأسباب التي جعلت هذه الأمبراطورية، تنقلب رأساً على عقب نتيجة خيباتها ونكساتها والتي بدأت بالتكدس من اليوم التالي للحادي عشر من أيلول في العام 2001، مروراً بحروبها الفاشلة واستراتيجياتها الخائبة، والتي انكشفت وانفضحت أكثر فأكثر منذ لحظة الإفتراق تلك، وصولاً إلى يومنا هذا... فلقد أشبعت هذه الأسباب درساً وتحليلاً، ويكاد لا يختلف عليها إثنان في العالم .. فما نحن بصدده اليوم، يكمن في المحاولة في فهم المزايا الجديدة لأميركا الحالية.
في تلزيم السياسة
بعد اتفاقي الكيميائي السوري والنووي الإيراني، وعلى خلاف ما يظنه البعض، فإن أميركا اليوم لم تعد هي التي تضع وتحدد أولويات السياسة وتصيغ الإستراتيجيات الكبرى أو حتى التفصيلية ومسارات الأحداث في المنطقة، وتحديداً في البؤر الأكثر اشتعالاً، إبتداءً من المسألة الفلسطينية ومسار المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، إلى الأزمة السورية وأفاق الحرب عليها، وغيرها من الأزمات. فأميركا في وضعها الراهن، ليست كما كانت في الأمس القريب، والسبب يعود إلى أن هذه الإمبراطورية الآفلة لم تعد بعجزها الحالي قادرةً على توجيه سياسات حلفائها من دول الخليج، وتحديداً المملكة العربية السعودية، وكذلك تركيا والكيان الصهيوني.
وعلى سبيل المثال فإن السعودية أعلنت "إنفصالاً" شكلياً، لا تعارضه أمريكا ولا تتبناه، وربما تدفعها لأن تسير خبط عشواء في انفصال كلي عن منطق الأحداث وتطورها وموازين القوى العالمية الجديدة الذي بدأت تلوح تباشيره في المنطقة والعالمين العربي والاسلامي. وهاهي تركيا – العدالة والتنمية تُركت لمصيرها في ظل إنقلاب سياسة تصفير المشاكل التي كانت تنتهجها، إلى سياسة تصفير النجاحات إن داخلياً أو خارجياً وخصوصاً في الشان السوري والملف الكردي أيضاً.
أما الكيان الصهيوني الذي يعيش عقدة الأمن الذاتي بوسائله الذاتية، يواصل سياسة الإستيطان والتهويد لما تبقى من فلسطين التاريخية، دون أي اعتبار لحسابات الإدارة الأميركية التي تقدم مغريات كبيرة للصهاينة حتى تحقق خرقاً في ملف التفاوض مع الفلسطينيين، من أجل أن تحقق إنجازاً يغطي على عجزها.
لقد بات واضحاً أن الولايات المتحدة الأميركية جعلت من هذا التلزيم السياسي الإلزامي لحلفائها في المنطقة رافعةً يمكن لها أن تخفف من التأثير الأميركي فيما خص الملفات السياسية المتعددة.
في تلزيم الأمن
في استراتيجيته للأمن القومي الشهيرة 2010 أطلق أوباما وعداً بأنه "سيساعد الدول الحليفة على حماية نفسها بنفسها" و "إقامة الشراكات الأمنية بين الحلفاء". ومؤخراً أقرت قمة الكويت لمجلس التعاون الخليجي، زيادة التنسيق الأمني والعسكري بين الأعضاء على صعيد الجيوش تحديداً، وذلك بهدف إقامة نوع من التوازن الإستراتيجي العسكري مع إيران وخصوصاً في مياه الخليج. وذلك في ظل عمليات تسليح أميركية ضخمة تسلمتها دول الخليج مؤخراً.
وتحقق أمريكا من خلال ذلك أمران في غاية الأهمية، الأول يتعلّق بإنعاش الإقتصاد الأميركي من ثمن الأسلحة الباهظ، ومن جهة ثانية تخفف من عبء وتكاليف الحماية المباشرة لدول الخليج أو حتى للكيان الصهيوني.
وعلى الرغم من التوافق الخليجي في قة الكويت، إلا أنهم افترقوا فمنهم من يساير السعودية الممتعضة من اتفاقي أمريكا الكيميائي والنووي، ومنهم من فتح على إيران، وحتى على سوريا من بابها الخلفي.. إضافة إلى ذلك فإن الحديث عن المظلة الأمنية، لا يمكن لها أن تكتمل، إلاّ بُعيد حصول اختراق في موضوع التفاوض مع الكيان الصهيوني، والذي تسعى إليه أمريكا حالياً، وبكل جهدها.
في تلزيم الإرهاب
الولايات المتحدة الأميركية كانت سباقةً في صناعة الإرهاب، وتفريخه في أكثر من مكان في العالم، وذلك بغية ملاحقته في جغرافيات تطمح لأن تكون لها اليد الطولى فيها نظراً لأهميتها الإستراتيجية .. فهي من انشأت القاعدة في أفغانستان وطارت بها إلى العراق وفاليمن وشمال أفريقيا وصولاً إلى دول أسيا الوسطى والقوقاز ومؤخراً إلى سوريا فلبنان ... وذلك كله بغية تنفيذ أجندات محددة في السياسة الأميركية سواء أكانت سياسية أو إقتصادية أو حتى ثقافية.. حيث اعتُمد الإرهاب كعامل حيوي استراتيجي خفي لهذه الدولة .
منذ ذلك الحين وجدت أميركا ومن يدور في فلكهما من دول العالم، ضالتها في الحرب على الإرهاب لتنفيذ أجندة تفضي إلى السيطرة والتفرّد بالقرار الدولي في العالم .. فمن مشروع" الشرق الأوسط الجديد " الذي بشّر به المحافظون الجدد في أمريكا في عهد بوش – الإبن، إلى مشروع "الفوضى الخلاقة" ومشروع "يهودية إسرائيل".. إلى غيرها من مشاريع التفتيت والتجزئة والتي في سبيلها اشعلت ناراً طائفية ومذهبية واتنية مستعرةً في بعض بلدان المنطقة وتستعد الشعالها في بلدان أخرى.. وهذه سياسات اميركية ممنهجة، لا يزال العمل جار بها، رغم أنها أدت إلى"تدمير فكرة السلام العالمي" على حد وصف قائد القوات الأميركية في أفغانستان سابقاً "جون بول جونز" الذي حذر من السياسة الأميركية المعتمدة لمكافحة الإرهاب!
لكن، بعد إفشال الكثير من المشاريع المشار إليها أعلاه، بفعل صلابة محور الممانعة والمقاومة، وبعد أن أضحى الإرهاب عبئاً ثقيلاً على صانعيه، دون أن يحقق ما كان يهدف إليه هؤلاء من تطلعات وأمال، وبعد أن افتضح أمر اعتماد السياسات الأميركية في العالم على الإرهاب كرافعةٍ في تحقيق أهدافها .. وبعد أن حل زمن الأفول الأمريكي ضيفاً ثقيلاً على كاهل السياسة الأمريكية، بدأت هذه الدولة، انتهاج سياسة التخفف والتلزيم ذاتها، فأوكلت إلى المملكة العربية السعودية وقطر تمويل الارهاب في سوريا، وإلى أوروبا تنظيم انتقال الارهاب، وإلى تركيا تأمين عبوره ، وإلى الأردن لكي يكون ميدان تدريبه، وإلى الكيان الصهيوني حتى يكون مشفى ميداني لجرحاه تارةً، وتارةٍ أخرى حتى يكون رأس حربته في مواجهة الدولة السوريةـ كما جرى في القصير والغوطة الشرقية مؤخراً.
لقد تناول كل هؤلاء طرفاً من أطراف الإرهاب، لتبدأ معها رحلة تناتش المغانم دون الحصول عليها.. فانكفأت أمريكا عن الواجهة، واضحت اليوم من المنادين بالقضاء على الإرهاب في سوريا، بعد أن كانت هي حتى الأمس القريب ضابطاً أساسياً لإيقاعه فيها!
أما بقية المُلَزَّمين، فلقد حلّ عليهم زمن التيه الذي لا ينفكون يتخبطون في الإستمرار بأدوارهم تلك، أو حتى إمكانية الرجوع عنها.. وفي كلتا الحالتين، فلقد تفلّت الوحش من عقاله، وها هو يستعد لإلتهام أصحابه الجدد.
*باحث وكاتب سياسي
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه