ما حققه العيساوي في صموده المنقطع النظير يجب أن يستفيد منه المفاوض الفلسطيني البائس والعاجز عن تحقيق شيء ايجابي واحد بعد عقدين من المفاوضات العبثية
محمد خضر قرش – القدس
تربطني بالعيسوية ذكريات مسلية وممتعة . فالقرية يحتضنها جبلا المشارف (الزيتون ) والسكوبس من الجهة الشمالية الشرقية كما تحتضن الأم ابنها. فالذي يفصلها عن حيَ واد الجوز الجامعة العبرية التي تشرف بحكم وقوعها بجبل سكوبس على القرية والحي معا.
ففي الفترة من عام 1960- 1963 كنا نذهب بين الفينة والأخرى إلى العيسوية مشيا على الاقدام عبر الطريق البيضا وأرض السمار حيث ندخل إلى القرية برفقة شباب جيران لنا من بيت علاء الدين والدتهم تكنى بأم ابراهيم الداية لها بنت متزوجة رجلا من العيسوية. وبهذه الصفة كنا نذهب الى القرية ونتسلق شجر الزعرور ونقطف منه ما نستطيع من الثمارمتجنبين شوكه القاسي. وكنا حريصين على العودة قبل الساعة السادسة مساء في الصيف حيث كان يحظر على السابلة التحرك بعد الساعة المذكورة لأسباب أمنية.
فالعيسوية كأي قرية تحتضنها جبال وتلال القدس لها سمات وخصائص مميزة. فالطريق إليها لم تكن معبدة ووسيلة الدخول والخروج منها كانت تتم بواسطة حافلتين صغيرتين وعبر استخدام الدواب وهي تنام وتستيقظ باكرا وتعتمد في نمط وروتين حياتها اليومية على القدس في كل شيئ فالحياة فيها بسيطة حيث عدد الدكاكين والمحلات فيها محدود جدا. لكن وضعها تغير بشكل ملموس بعد حرب 1967 سواء لجهة النمو السكاني وخاصة من خارج القرية تحديدا أو تطور البناء العمراني فيها والتي باتت جزءا من القدس بل ومن أبرز أحيائها وقلاعها الوطنية وتحولت اثناء الانتفاضة الأولى إلى خلية نحل ومركزا لطباعة البيانات وتوزيع المنشورات وشكلت بذلك شوكة فولاذية ما زالت مستقرة في حلق الاحتلال لم يستطع سحبها أو ابتلاعها. وبحكم تماسها مع الجامعة العبرية والمشروع الاستيطاني الذي توَج بالنفق الذي حفر في جبل المشارف وربط غرب المدينة بشرقها وبمركز الشرطة الجديد ومقترح الحديقة التي تنوي سلطات الاحتلال اقامتها على الأراضي المشتركة بين العيسوية والطور كل ذلك وغيره ساهم في تأجيج وتصاعد وتيرة مقاومة الاحتلال مما عكس نفسه مباشرة على الروح الوطنية للشباب ،كما أدى إلى زيادة وإتساع حدة التحدي والمواجهة لمشاريع الاحتلال ومخططاته في القدس وعليه لم يكن غريبا على الشاب المناضل سامر العيساوي من الانخراط في مواجهة الاحتلال وتقدم الصفوف بقناعة وايمان راسخين بالقدرة على إفشال ما يخطط له الاحتلال. فقد نما وترعرع في بيئة وحاضنة وطنية لم تفتر أو تهن لها عزيمة أو تلن قناتها التي تمتلأ عنفوانا وعزة وتفتخر بإنتمائها للقدس وفلسطين.
سامر أيقونة الأسرى
بكل شجاعة وجرأة غير مسبوقة تحدى سامر سلطات الاحتلال وسجانيه عبر الإضراب عن الطعام لمدة نحو 278 يوما على الرغم من جسمه النحيل وطاقته المحدودة .فقد وقف شامخا كالطود أمام المحاكم الاحتلالية غير متسلح إلا بإرادة العزيمة والاصراروبالإمعاء الخاوية وبحقه في أرضه ليقول لهم سأسقط شهيدا في القدس والعيسوية ولن أرحل .فهذه بلدي ومسقط رأسي وتاج رأسي لن أغادرها ما دمت حيا ونبضات قلبي لم تتوقف عن الخفقان ودمي يتدفق ويسري في شرايني وعروقي . انتصرت إرادة سامر العيساوي وإستحق وعن جدارة أن يطلق عليه "أيقونة" الأسرى ورمزا للتحدي لا يعرف المهادنة أو التنازل. إرادة العيساوي كانت اكبر من عمره واكبر من المفاوض الفلسطيني الذي ما زال يراوح مكانه منذ 20 عاما.
ما حققه العيساوي في صموده المنقطع النظير يجب أن يستفيد منه المفاوض الفلسطيني البائس والعاجز عن تحقيق شيء ايجابي واحد بعد عقدين من المفاوضات العبثية . على المفاوض الفلسطيني ان يذهب إلى سامر العيساوي الآن ليتعلم منه كيف تجري المفاوضات وكيف تنتزع الحقوق دون تقديم تنازلات ذات شأن.على المفاوض ان يستفيد من تجربته رغم قصر عمره الزمني بالمقارنة بعمر المفاوضين الفلسطينيين.سامر العيساوي لم يذهب إلى الجامعات الاميركية والاوروبية ليتعلم علم السياسة وفن المفاوضات ولم يقرأ كتاب الحياة مفاوضات ولكنه شرب من حليب امه حب هذه الأرض وعشق هوائها وأدرك بحكم المعاناة اليومية أسلوب صون الحقوق وحفظ الكرامة وانتزاع الحرية والقدرة على الصمود. سامر العيساوي ليس لديه فريق تفاوضي يعمل معه ليلا ونهارا ولم يحمل يوما بطاقة VIP ولم يتنقل بحراسة الأجهزة الامنية ولم يتدرب على البرتوكول وأصول ومهارة التفاوض ،فهو تعلم من الشاعر إيليا ابوماضي قوله "وذا الكون جامعة الجامعات وذا الدهر استاذها المعتبر" فقد تعلم ميدانيا كيفية مواجهة الاحتلال وقهره بالإرادة الصلبة متسلحا بالاستعداد الدائم للشهادة لتحقيق النصر . ما فعله سامر العيساوي ذي ال34 ربيعا قضى منها نحو 10 سنوات في السجون الإسرائيلية لم تحققه فصائل فلسطينية مجتمعه ولا قرارات جامعة الدول العربية ولا فريق التفاوض الفلسطيني منذ 20 عاما.
لقد فاوض بنفسه سجانيه ورفض كل عروض السفر والمغادرة إلى اي مكان خارج القدس وفضل البقاء في السجن 8 شهور إضافية مقابل ألا يغادر القدس ومسقط رأسه في العيسوية. منظمة التحرير والسلطة الوطنية والفصائل ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص كلهم مقصرين تجاه المحررين من الأسرى ومن عائلات الشهداء والذين ما زالوا قيد الاعتقال . فلولا الشهداء والأسرى والجرحى والصمود البطولي لسامر ورفاقه، لما أمكن تحقيق أي شيئ .لقد كوفئ المناضل سامر العيساوي تنظيميا نظير صموده وبات عضوا في أعلى هيئة محاسبة وتشريع في التنظيم الذي ينتمي إليه ولم يكن هذا الإجراء الاستثنائي ليتم لولا الصمود غير العادي والموقف الباهر الشجاع وغير المسبوق الذي سجله العيساوي.
وكنا نتمنى ان يسري هذا على كافة المحررين من التنظيمات الأخرى في فلسطين وخارجها والذين يسعون للحصول على الحياة الكريمة مقابل التضحيات الكبيرة التي قدموها للوطن. هناك الكثير مما يجب القيام به تجاه المحررين والجرحى وعائلات الأسرى وعلى القطاع الخاص ان لا يحمَل شعبنا جمايل أو يتمنن علينا ، فكل ارباحه تتحقق من شعب فلسطين وليس من الخارج . هناك عدد محدود جدا من الشركات خصصت صندوق للمسئولية المجتمعية ومنها من أسس جمعية للتنمية المجتمعية إلا ان ذلك لا يكفي ولا يتوافق أو لا يتناسب مع ما قدمه ويقدمه المناضلون الفلسطينييون في السجون والمواجهات . جيل سامر العيساوي أثبت أنه الأقدر والأكفأ والأجدر في تحمل المسئولية وإدارة الصراع ، ونقول بهذه المناسبة لكل القيادات التي هرمت وشابت وهي كثيرة ولم تعد قادرة على مواصلة النضال أن تخلي الساحة ومركز القيادة لجيل العيساوي لإدارة دفة النضال والصراع مع الاحتلال.
كل التحية للمناضل سامر العيساوي الذي سيسجل تاريخ نضال شعبنا أسمه من احرف من نور ، لقد بات أيقونة ورمزا للنضال وللصمود. هنيئا للعيسوية بابنها وهنيئا لفسطين بأيقونة التحدي الجديدة .
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه