ثمة عملية تهشيم ممنهجة لعلاقات السعودية مع كثير من الدول والقوى ربطاً بتوقعات غير واقعية بحدوث تغيير جذري في المنطقة ما يبعث على الغرابة
من يصنع القرار في السعودية هذه الأيام؟ سؤال بحجم دولة كانت حتى وقت قريب تعمل وفق آليات واضحة، وعلى أساس أدوار مرسومة بعناية، وكل العاملين في الجهاز الدبلوماسي السعودي في فلك الدولة يسبحون...
فؤاد إبراهيم / جريدة الأخبار
من يراقب أداء السياسة السعودية في السنوات الثلاث الماضية يشعر بضمور كبير لأسماء لامعة في العائلة المالكة، تميّزت سابقاً بحضورها اللافت عبر مواقف ناقدة أو متباينة مع السياسة العامة للحكومة، وساهمت في محطّات مفصلية في درء أخطار قاتلة عن النظام بسبب مواقف كادت تطيحه، بدءاً من النزاع بين سعود وفيصل في ستينيات القرن الماضي مروراً بالخلاف الخفي بين فهد وخالد والدور التسووي الذي لعبه شقيق الأخير، المعروف باسم محمد أبو شرين، وصولاً الى الخلاف بين فهد وعبدالله ثم بين الأخير والإخوة السديريين...
يحكى أيضاً عن تدخّل بعض الأمراء في خلافات النظام مع قادة دول، مثل الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، والرئيس السوري السابق حافظ الاسد، وأمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وسلطان عمان قابوس بن سعيد، والرئيس العراقي السابق صدام حسين.
لا يبدو الأمر كذلك حالياً، فالسياسات السعودية يرسمها فريق من الأمراء الموتورين يدير دفة الدولة من دون تبصّر في العواقب. على مستوى تنسيق المواقف، يتصدّر سعود الفيصل، وزير الخارجية، وبندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات العامة، المشهد، فيما يلعب تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات الأسبق والسفير السابق في واشنطن، دور الناطق الرسمي باسم الحكومة (يردّد على أسماعنا لحناً مقرفاً أنه لا يتحدث باسمها. لن نصدّق ذلك بانتظار ظهوره في الكنيست الاسرائيلي قريباً).
ليست هناك ملفات كثيرة في حوزة هذا الفريق، سوى تلك المتعلّقة بمواصلة الحرب في سوريا، واستكمال عملية إزاحة الإخوان المسلمين من المشهد السياسي في مصر والخليج، والخصومة مع إيران إلى حدّ الاستعداد لشن الحرب عليها. ملفات تندرج كلها في سياق رهانات عمل عليها الفريق نفسه منذ سنوات ولم يخرج منها بأرباح صافية، بل تكاد تنقلب الى مغامرات قاتلة.
يشكو أمراء كبار، يقال إن الملك من بينهم، من ندرة المعلومات التي يحصلون عليها من الجبهة السورية، لأن بندر، بالاتفاق مع الفيصل، ينتقي ما يشاء من المعلومات التي تعزّز مقاربته لهذا الملف. أدرك أمراء معارضون للنهج الجديد التي تتبعه دولتهم في التعاطي مع ملفات المنطقة عموماً ومع ملف العلاقات الاميركية ــ السعودية أن بندر والفيصل أقحما العائلة في مسار لا يمكن التراجع عنه، رغم أن احتمالات الخسارة فيه واردة بل راجحة.
ثمة عملية تهشيم ممنهجة لعلاقات السعودية مع كثير من الدول والقوى ربطاً بتوقعات غير واقعية بحدوث تغيير جذري في المنطقة. ما يبعث على الغرابة أن الآفاق باتت مسدودة أمام السعودية في كسب المعارك التي تخوضها على قاعدة الربح الدائم، ولا تزال تصرّ على أن تصطدم بالحائط مرة تلو أخرى. والسبب أن الحسابات التي تستند اليها غير علمية، بل مجرد أوهام واحتقانات.
حكماء العائلة من كبار السن وأصحاب الخبرة لا يرضيهم الانزلاق بالدولة نحو رهانات مجهولة النتائج، أو تؤول الى خسائر كبرى غير محتملة. أنفقت السعودية مئات المليارات من الدولارات لبناء شبكة علاقات مع دول قريبة وبعيدة، وتبدو اليوم كما لو أنها على استعداد للتفريط بها. وما كانت تحققه بالمال والسياسة الهادئة، تفقده اليوم بالسلاح وتفجير الخلافات والتناقضات الداخلية في هذا البلد وذاك، كما هي حال السياسة السعودية حالياً في ليبيا وتونس والسودان واليمن والعراق وسوريا ولبنان.
ما يخرج به المراقب لأداء السياسة الخارجية السعودية هو أن الأخيرة لا تعرف ماذا تريد، وإذا كانت تعرف فإنها لا ريب تخطئ التقدير والطريق، وبمقدمات فاسدة كهذه تتحقق أخس النتائج. على سبيل المثال، اختارت السعودية احتكار ملف المعارضة السورية، فدخلت في خصومة مع تركيا وقطر، مع أنهما الشريكان الوحيدان اللذان يمكن الركون اليهما بسبب رعايتهما لقوى وازنة في المعارضة، وفتحت، عوضاً عن ذلك، قنوات اتصال وتنسيق مع الكيان الاسرائيلي، والنتيجة: خسارة الشراكة والحرب معاً. والأمثلة لا تحصى عن تدهور علاقات السعودية مع دول عربية وأجنبية عديدة لمجرد أنها لا تتفق معها في المقاربة، ولا تريد السير في خط الهلاك الذي تسلكه الرياض وتصرّ على (جرجرة) كل من تحسبه في معسكرها.
بطبيعة الحال، ليس فشل السياسة الخارجية السعودية مقتصراً على المسألة السورية، فالفريق الذي يدير هذا الملف يحصد فشلاً بعد آخر، وهو ما عبّر عنه الكاتب المقرّب من تركي الفيصل سابقاً، والوليد بن طلال حالياً، جمال خاشقجي، في مقالته بعنوان «المواجهة الكبرى المقبلة بين السعودية وإيران» («الحياة» في 14 كانون الأول الماضي)، حين وصف حال الوفد السعودي في صوغ بيان قمة مجلس التعاون الخليجي في الكويت، والذي عبّر، في أحد بنوده، عن رغبة دوله في الانفتاح على إيران وترحيبها بالسياسات الجديدة للشيخ روحاني، بأنه «لم يكن سعيداً وهو يشارك في صياغة هذا البند»، ويعقّب بتفجّع لافت «فالسعودية تعلم أنها ستتحمل وحدها المواجهة المقبلة مع إيران والتي ستكون في سوريا، وستشاركها فيها قطر فقط، في مفارقة عجيبة تعبّر عن مرحلة «السياسة الواقعية» التي ستسود بين دول المجلس في المرحلة المقبلة».
لا يخفي الأمراء، شأن الإعلاميين العاملين في وسائل إعلامهم، مرارة الخسارة نتيجة تخلّي الدول الشقيقة والقريبة عن اعتناق مقاربات آل سعود التي تفضي حكماً الى القطيعة مع الدول، ولا تبطن ما يؤشر الى أرباح...
في ضوء ما سبق نسأل: إلى متى سيبقى فريق بندر ــــ الفيصل وشقيقه تركي يهيمن على المشهد والقرار؟ ألا يوجد جناح رشيد يضطلع بمهمة تغيير وجهة السير، بعد أن بات واضحاً أن اختطاف القرار من قبل هذا الفريق جعل السعودية دولة منبوذة إقليمياً ودولياً؟ وأين عقلاء العائلة المالكة لوقف هذا التدهور في مسيرة الدولة...؟
لقد نجح الملك عبدالله في فترات سابقة في لعب دور إنقاذي قبل أن تغرق سفينة الدولة. لحظنا ذلك في علاقاته مع إيران في عهد الرئيس محمد خاتمي. وكذلك بعد خسارة رهان بندر في حرب تموز 2006، حين قدّم الملك مبادرة امتصاص الاحتقان في لبنان عبر الانفتاح على حزب الله وسوريا وإيران، ولاحقاً بعد العدوان الاسرائيلي على غزّة 2008 ــ 2009 وتوتر العلاقات بين السعودية وقطر وسوريا على خلفية إفشال السعودية مساعي عربية لتشكيل وفد من الجامعة العربية الى مجلس الامن للاحتجاج على العدوان الاسرائيلي. وأيضاً إفشال القمة العربية الطارئة في الدوحة في 16 كانون الثاني 2009 للتباحث في الموضوع نفسه، ما دفع بأمير قطر السابق الشيخ حمد إلى أن ينعى في خطاب الافتتاح أمة العرب لانفراط عقدها وتشتتها، ولكن ما لبث بعد أيام، أي خلال قمة الكويت الاقتصادية في 18 كانون الثاني 2009، أن تنفّس الاحتقان عبر مصالحة تمّت على هامش القمة جمعت الملك عبدالله بعدد من الرؤساء العرب، من بينهم السوري والليبي.
منذ سنتين على الأقل، وعلى خلفية الأزمة السورية وانخراط السعودية فيها بصورة شبه كاملة، بدا كما لو أن هناك من يجهض كل مبادرة يمكن أن تولد لجهة تنفيس الاحتقانات المتراكمة. على العكس، السعودية ترفض اليوم أي مبادرة انفتاح عليها، أو دعوة للحوار، وتضع ذلك في خانة «الخداع»، ولا يرى فريق الموتورين الممثل في بندر وسعود وتركي أن ثمة فائضاً مالياً وبشرياً يمكن استغلاله في إرواء نزعة الانتقام من خصومهم، رغم ما ينطوي عليه من مغامرة بالكيان نفسه.
الاجنحة الأخرى التي يعلو صراخها وقت تقاسم الحصص حين الحديث عن توزيع السلطة داخل العائلة المالكة معنية اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن تقول كلمتها أمام اختطاف إرادة بقية الاجنحة من قبل فريق المغامرين الذي أدمن الخسارة وإن تحطّم المركب بمن فيه.
رابط المقال في جريدة الأخبار:http://www.al-akhbar.com/node/198149