27-11-2024 04:24 AM بتوقيت القدس المحتلة

خير؟

خير؟

نمضي في شوارعنا بين غابةٍ من صور الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز تقفز إلى العين كيفما استدارت، مضاءة بالأمل مقرونة بـ«الخير». فترى الخير ولا تشعر به، وترى الشكر على دعم الدولة ولا تشعر بالدولة

إعلان ضخم في بيروت يمجد الملك السعوديفي اللحظة الأولى، بدا المشهد سريالياً مع أنه مغدقٌ في الواقعية. في اللحظة الثانية، بقي المشهد سريالياً ولو أنه اكتسى ببعض الفكاهة.

والمشهد هو ملصقٌ دعائي سياسي يملؤه وجه الملك السعودي التسعينيّ، ببروفيل رصين لا يبتسم، بنظّاراتٍ زجاجية وسكسوكة شديدة السواد، محاطاً باللون الأبيض للدلالة على الإشراق والطهارة الكامنين في «ملك الخير»، و«مملكة الخير». وها هي «شكراً» جديدة يبدو وكأننا «نهبّ» لقولها، نحن سكّان الطرق وعابري سبلها. فتضعنا في موقع الامتنان، أكثريتان تتبادلان الكراهية، ينتصر الإعلان لأكثريته ويغيظ أكثريتهم.

سحر مندور / جريدة السفير

شكلياً، نحن الهدف من الحملة الإعلانية، وإلا لخرج مضمونها في بيانٍ سياسي، يشكر ويحيي، ويقف عند حدود نشرات الأخبار. لكننا لسنا فعلياً الهدف من الحملة التي لا تسعى لبيعنا شيئا ولا لدعوتنا إلى فعل أي شيء. نحن، في أفضل الأحوال، متفرّجون. فهو إعلانٌ بصورةٍ ورسالة، يذكّرنا بمرجعية أخرى لا رأي لنا فيها، نتلقى منها ونجيبها بالشكر. ويستدعي الإعلان سلالة التشكرات التي تُرفع على صفحات الصحف الخليجية لبادرةٍ من ملك، أو مكرمةٍ من أمير، ... وهو يصبّ في نهر الاقتصاد الريعي الذي احتفل به لبنان منذ إنهاء الاقتتال الأهلي، كمدخلٍ إلى السلام والعصر. ولا السلام تحقّق ولا العصر واكبناه، مع أنَّنا مستمرون في التلقّي، والشكر.

في أحسن القراءات، يخبرنا الإعلان بأنّنا لسنا وحدنا، وإنما لنا أصدقاء في العالم يحرصون على ما فيه خيرنا. وفي أسوأ القراءات، هو استفزازٌ في يوميات الانقسام، وإشهار «المستقبل» للولاء بعدما أشهر «حزب الله» عدائية تجاه المملكة. وفي وسَط الأمور، هو استخراجٌ تكريميّ لمبادرة «ملك الخير» من بوتقة المواقف اللبنانيّة التي طحنتها سريعاً وجعلت المليارات الثلاثة كلمةً في فم. وفي كل الأحوال، فإن كل من ساهم في الإعلان، منذ ولادته كفكرة وحتى تعليقه على حديد اللوحات الدعائية المنتشرة في البلد، يعرف القصة بأكملها. فيحلّ الإعلان متأخراً، وصلنا منتجاً سبقه معناه إلى التداول والاحتفاء والطحن.

اللافت فعلاً في الإعلان لا يكمن في صراحته السياسية وقد اعتاد اللبنانيون مختلف نكهات «الصراحة» السياسية في شوارعهم، وإنما يكمن في سريالية اللحظة. إذ نمضي في شوارعنا بين غابةٍ من صور الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز تقفز إلى العين كيفما استدارت، مضاءة بالأمل مقرونة بـ«الخير». فترى الخير ولا تشعر به، وترى الشكر على دعم الدولة ولا تشعر فعلياً بالدولة، أكانت مدعومة أو متروكة. تعرف أنها هنا، وتعرف أن قرارها ليس كذلك. وتعرف أنهم وزراء ونواب، لكنك تعرف أيضاً أنهم «إكس ـ ميليشيات» و«بزنس مان» وورثة وعابرو مناصب، فخورون بماضيهم. تقرأ «الخير» وترى وجه الملك، فلا تشعر بالأول ولا تألف الثاني. وهذا وجهٌ من وجوه السريالية، عشناه سابقاً وتندّرنا حوله حتى شبعنا أيام «شكراً قطر»، وحبل الشكر على الجرّار.

الملك السعودي يستقبل رئيس الجمهورية اللبنانية الشهر الماضيوقبل أن تغفو عين المواطن على هذه الصورة، كما غفت عن سابقاتها، تراها تغازل سؤالاً يصب بدوره في سريالية الموقف: كيف يختار «المستقبل» أن يخصّص ميزانيةً لحملةٍ دعائيّة واسعة ترفع الشكر والخير، في الوقت عينه الذي ترفع فيه جموع الشعب ـ على تناقضها الغضب والخوف؟ هل تعدها بما سبق حصوله ولم يغيّر واقعاً وإنما أجّجه؟ وقبل أن تطيل، ترى العين تستقيل من السؤال وتغفو على وقع الحاضر: صورٌ كثيرة تملأ نواحينا، منها ما يؤكد الخير ومنها ما يؤكد النصر، وكلاهما آتٍ لا محالة. تبتسم العين بأسى، وتغفو أملاً بحلمٍ أفضل.

رابط المقال في جريدة السفير : http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionId=2672&ChannelId=64751&ArticleId=970&Author=سحر مندور

 موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه