اللواء أشرف ريفي في طرابلس اليوم وتدفع المدينة ثمنها. لن تغيّر المعركة شيئاً في التسوية المنتظرة ومواقف الفرقاء وموازين القوى داخل المدينة. كل ما يريده ريفي أن يلتفت الرئيس سعد الحريري إليه
غسان سعود
اللواء أشرف ريفي في طرابلس اليوم وتدفع المدينة ثمنها. لن تغيّر المعركة شيئاً في التسوية المنتظرة ومواقف الفرقاء وموازين القوى داخل المدينة. كل ما يريده ريفي أن يلتفت الرئيس سعد الحريري إليه والى قادة محاوره قبل أن يمضي قدماً في التسوية .
لا يكاد الخبر العاجل الأول عن موافقة الرئيس سعد الحريري على المشاركة في حكومة تضم وزراء حزب الله يُهضم، حتى يصل خبر آخر عن ذهاب رئيس الائتلاف السوري المعارض أحمد الجربا إلى جنيف 2، وعلى جدول أعماله أولوية متواضعة واحدة تتمثّل في تشكيل حكومة انتقالية، مشدداً على «وجوب الحفاظ على أجهزة الجيش والأمن السورية في حال سقوط النظام أو تغييره (...)».
يتناقل المحتشدون بكثافة في أيام العطل، على طول الشاطئ البحريّ لمدينة طرابلس، الخبرين بدلالات تزامنهما وتداخلهما، من دون أن يحتاج أحد إلى مساعدة «مركز الشرق الأوسط الجديد للدراسات» لصاحبه النائب السابق ناصر قنديل لفهم ما يحصل. الصغير قبل الكبير يقول إن السعودية «كوّعت» و«العترا علينا».
تصطفّ على طول الكورنيش «مقاه» جانبية هي عبارة عن «فان» معطّل تحول إلى مطبخ يعدّ الشاي و«النسكافيه» حصراً، تتوزع بينه وبين البحر عشرات الكراسي البلاستيكية تحت «شمسيات» من سعف النخيل التي تقصّفت أوراقها قبل نهاية الصيف المستمر. «خذ نحن، مثلاً. عملنا كل شيء لاقتلاع الجبل (جبل محسن) وعجزنا عن اقتحامه»، يقول أحد الشباب. «يمكننا تدميره فقط في حال قررنا التضحية بتدمير مدينتنا أيضاً جراء قصفه»، يتابع صديقه وجهة نظره. يخلصان إلى أن المحاولة شيء والانتحار شيء آخر، وبهذا المعنى فإن السعودية والائتلاف السوري المعارض وتيار المستقبل حاولوا ولم ينجحوا. يبدي الشابان تفهّماً ويرفضان مقارنة الحريري، في هذا السياق، مع غيره من سياسيي المدينة: «يكفيه شرف المحاولة». على مقربة منهما، يشرح شاب بهدوء أن الخطاب الحريريّ الأخير لن يلقى تأييداً في المدينة، ولن تجوب الشوارع، مثلاً، مسيرات تهليل تطلق أهازيج الرصاص. لكنه لن يجد في المقابل من يطعن فيه أو يحرض عليه سوى مجموعات إسلامية صغيرة: قوى المدينة السياسية الرئيسية المتمثلة في الرئيس نجيب ميقاتي والوزيرين محمد الصفدي وفيصل كرامي ترحّب فعلياً بالعودة الحريرية إلى كنف التفاهم.
من طاولة إلى أخرى تدور الأسئلة جميعها في فلك السؤال الافتراضي لرئيس لجنة الحوار اللبناني ــــ الفلسطيني خلدون الشريف، أول من أمس، عن سبب إضاعة الحريري هذه السنوات الثلاث على لبنان، ما دام سيعود إلى لغة الحوار ومفردات المشاركة، مع العلم بأن غالبية الطرابلسيين لم «يقبضوا»، كما جرت العادة بفضل وقوفهم مع الحريري في السنوات الثلاث الماضية، بل دفعوا تكلفة باهظة، وباللحم الحيّ غالباً.
يملأ باكراً قمر شبه مكتمل السماء الطرابلسية، وتزدحم السيارات في الطريق المؤدي إلى مسرح ثانوية روضة الفيحاء حيث كان المايسترو النمساوي روبير لاهربومار يقود مع السوبرانو كارولين سولاج أوركسترا المعهد الموسيقي العالي في حفل أطلق عليه: «فيينا في طرابلس». يجتمع هنا وجه آخر للمدينة سعت سفيرة النمسا أورسولا فاهرنجر، في ما يشبه المبادرة الشخصية، الى إعادة إظهاره. يعلو صوت الموسيقى الإبداعية طوال نحو ساعتين، في القاعة الممتلئة، فوق أصوات رشقات الرصاص القريبة. كانت فاعليات المدينة المدنية والنائب المستقبلي السابق المولع بالموسيقى، مصطفى علوش، وغالبية التجار ومن يوصفون بالمثقفين هنا، يرون فيينا في مدينتهم ويحلمون، فيما قادة المحاور ممثلين بزياد علوكي يغسلون أياديهم من تصريح الحريري برصاص رشاشاتهم الموجهة إلى جبل محسن وبعض نقاط الجيش اللبناني.
خارج الثانوية، يربط طريق يزدحم بالمطاعم أيضاً الهدوء الموسيقي بالجنون الحربي. لا يمكن التصديق أن المدينة التي تنبض بكل هذه الحياة الإيجابية في هذا الجزء تعيش ذلك الصراع القاتل في جزئها الآخر. لا علاقة للمجموعات الإسلامية بالحرب المستجدة في المدينة، وإن كان عناصرها يشاركون جيرانهم ــــ عفوياً ــــ في إطلاق الرصاص على جبل محسن. أعلن قادة المحاور مسؤوليتهم بوضوح. ماذا حصل هذه المرة؟
كان علوكي، على غرار اللواء أشرف ريفي، ينتظر اتصال الحريري لإعلامه بالتطورات الإقليمية وتفاصيل الضغط الأميركي على السعودية واستشارته في الخيارات المتوافرة. وهو الذي قدم، بحسب قوله، الغالي والنفيس في العامين الماضيين فداءً للحريري ومشروعه السياسي. أول من أمس، أصيب شقيق علوكي برصاص جبل محسن، وفي اليوم نفسه، كانت استخبارات الجيش توقف لنحو نصف ساعة زميله عامر أريش. لا يمكن هؤلاء تصديق لامبالاة الحريري بهم. يمكن الحريري ألا يستشير سمير جعجع في خطواته السياسية، وألا يبالي برأي كتلته النيابية. لكن لا يمكنه التصرف من دون أخذ ريفي و«أشرف الشباب» في الاعتبار. يفترض هؤلاء أنهم يخوضون معركة حياة أو موت، وعدم ضمان الحريري أمنهم قبل الشروع في نقاش أي تسوية سياسية مع خصومهم، هو رفع علني للغطاء عنهم.
أزمة الثقة بالحريري بدأت لدى ريفي عندما وافق الأول على التمديد للعماد جان قهوجي في قيادة الجيش من دون اشتراط التمديد له على رأس المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي. وتدرّجت خيبات ريفي من عدم تسميته لتشكيل الحكومة، وهو ما كان فعلاً ينتظره، مروراً بقبول المستقبل بالفيتو على ترشيحه لحقيبة الداخلية، وصولاً إلى استبعاد اسمه من كل التشكيلات الحكومية المتداولة. يعبّر جلوس علوكي العفويّ سابقاً على كرسي قائد منطقة الشمال في قوى الأمن الداخلي عن حقيقة ما يفكر فيه هؤلاء. لم يصدف أن اتصل صحافي غداة الموقف الحريريّ بريفي ليسمع رأيه، فعمد ريفي إلى إصدار بيان يستنكر فيه «قصف عرسال الأبية»، علماً بأنه لم يصدر بيانات مماثلة حين كانت أراض لبنانية أخرى تتعرض للقصف من الأراضي السورية، كما لم تستدعه الحاجة السياسية والأمنية من قبل إلى نصرة عرسال من طرابلس والانتقام لها عبر فتح معركة مع الجيش ومنطقة جبل محسن. وعليه، لا تهدف بنادق ريفي إلى الضغط على حزب الله أو النظام السوري، بل تأمل التفات الحريري إليها قبل مضيّه في تفاهماته.
يقسّم المطلعون على أوضاع المجموعات المسلحة في طرابلس هؤلاء إلى قسمين: أولاً، «قادة المحاور» ومتفرعاتهم الذين تمكن ريفي، بعد نزاع طويل مع عدة فرقاء، من التفرد بقيادتهم، وهؤلاء سيهدأون بموجب التسوية الحكومية ــــ السياسية بمجرد أن يشركهم الحريري في حساباته، لتحل بذلك مشكلة شمالية كبيرة، لأن هؤلاء، وليس الإسلاميون، كانوا سبب التوتر الرئيسيّ في الشمال منذ أكثر من عامين.
ثانياً، الإسلاميون الذين يتبنّون بغالبيتهم مفردات «القاعدة» وعباراتها في نقاشاتهم. وتطول القائمة هنا من حسام الصباغ الذي حوّل نفسه إلى مرجعية متقدمة بعزوفه عن التدخل في تفاصيل المدينة الصغيرة، مروراً بشادي المولوي وغيره من قادة المجموعات الصغيرة التي وجدت في الدكاكين السورية الكثيرة من يبحث عن توأمة لها في المدن اللبنانية فاتفقت معها، وداعي الإسلام الشهال وعمر بكري فستق وبلال دقماق الذين يحتفلون بأحمد الأسير حين يزور المدينة ويحجّون إلى ساحة الشهداء حين يدعوهم إلى «نصرة الشعب السوريّ»، وصولاً إلى الشيخ بلال بارودي وشريكه سالم الرافعي الذي ينسجم مع أدبيات «داعش» في تبرير خطف الراهبات، ويستنكر إحراق مكتبة السائح ليس لأنه ضد إحراق الكتب، بل لعدم ثبوت «التهمة» على الأب إبراهيم سروج.
ويشير أحد الأمنيين المتابعين لحركة هؤلاء إلى أن من يرفعون أعلام «جبهة النصرة» في تحركاتهم، وكان آخرها الأسبوع الماضي ضد المساجد المحسوبة على «الأحباش» في المدينة، يدورون غالباً في فلك المولوي و«المجموعات الجهادية» التي لا تزال صغيرة جداً في المدينة. وتتوقع المصادر الأمنية أن يقتصر الانتماء العلنيّ إلى «النصرة»، بوصفها ذراع «القاعدة» في المنطقة، على هؤلاء فقط.
ويرى المصدر نفسه أن مصالحة الحريري مع حزب الله ستدفعه إلى الإيعاز لريفي بأن يكتفي بـ«قادة المحاور» الذين يمكن التسوية السياسية أن تستوعبهم ولا مآخذ دولية جدية على نشاطاتهم، ويُخرج من تحت عباءته الإسلاميين، لينضم من يرغب منهم بقيادة الرافعي إلى «الجبهة الإسلامية» التي تمثل الحاضنة الإسلامية لحلفاء الاعتدال السنيّ بمعناه الوهابيّ أو الحريريّ، مع العلم بأن الرافعي واكب باهتمام شديد ولادة «الجبهة»، ويتابع عن كثب طريقة عملها، ولديه عبر علاقاته السعودية والتركية صلات بالنافذين فيها. وعليه، يكون المستقبل قد غسل يديه من كل هؤلاء الذين مثّلوا عصبه الرئيسي في السنوات الثلاث الماضية، من دون أن يتخلى عنهم تماماً.
لا عنوان لمعركة طرابلس اليوم. يقول أحد السياسيين. إنها معركة يتيمة سياسياً؛ هي مجرد صدى لهتاف ريفي بأعلى صوته: أنا هنا، اشملوني وعلّوكي بعطفكم.
جرح «قادة المحاور» كبير
من يعرف اللواء أشرف ريفي وبعض قادة المحاور، وفي مقدمهم عامر أريش وزياد علوكي، يعلم أنهم باتوا منذ عام على الأقل أقرب إلى الإسلاميين منهم إلى السياسيين وتجار الحرب، على صعيد تصديقهم شعاراتهم واستعدادهم للتضحية بحياتهم. لا يأتي ريفي وأريش وعلوكي، وكل هؤلاء الذي يصولون في شوارع مدينتهم حاكمين بأمرهم، من المكان نفسه الذي تأتي منه غالبية الطبقة السياسية. صحيح أن ريفي أثرى، ولم يعد أريش ذلك العامل الفقير في كاراج الحدادة، إلا أن كل هؤلاء لا يزالون ــــ خلافاً للرئيس سعد الحريري مثلاً ــــ يعيشون وسط أهلهم، ويرون جيرانهم يلوّحون لهم بحماسة من نوافذ منازلهم والسيارات، ويسمعون دعاء «الحجات» لهم بالتوفيق، ويسكرون بأسئلة جيرانهم لهم عما سيحصل في المنطقة. يشعر هؤلاء بأن الحريري يضع كرامتهم على المحك: يتركهم وشعاراتهم أمام جيرانهم وأهلهم ونسوتهم وأبنائهم في منتصف الطريق. القضية شخصية بالنسبة إليهم أكثر مما هي كذلك بالنسبة إلى نواب المستقبل ومسؤوليه. كان يمكن الحريري أن يدعو هؤلاء إلى فنجان قهوة في الشانزليزيه، فيخبر أريش المتحلقين في حيّه حوله أن قائد المستقبل استشاره قبل الشروع في التسوية. أقل ما يمكن هؤلاء قوله للحريري أمام وسائل الإعلام إنه «خائن للطائفة السنية». الجرح هنا صادق وكبير.
http://www.al-akhbar.com/node/198975
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه