إن المكانة الخاصة التي أولاها الإمام الخامنئي للعلم والتي ترجمها حيّة في الجامعات ومراكز الأبحاث، وفي الطفرة العلمية الرائدة التي شهدتها الجمهورية، إنما نشأت في عقله وقلبه وارتكزت بشخصيته الجهادية...
"الرؤية العلمية لدى الإمام الخامنئي"، سلسلة حلقات يغوص فيها الدكتور عبد الله زيعور- مسؤول هيئة التعليم العالي في حزب الله - بتحديد موقع العلم الخاص والمميز من شخص الإمام الخامنئي قبل الثورة وبعدها (مشروع النهضة والاقتدار)، ويُشار إلى أن هذه السلسلة صدرت في كتاب حمل نفس العنوان، عن دار المعارف الحكمية.الحلقة الأولى
قصة الإمام والعلم منذ ما قبل الثورة
إن المكانة الخاصة التي أولاها الإمام الخامنئي للعلم والتي ترجمها حيّة في الجامعات ومراكز الأبحاث، وفي الطفرة العلمية الرائدة التي شهدتها الجمهورية، إنما نشأت في عقله وقلبه وارتكزت بشخصيته الجهادية في دراسته الحوزوية، وخلال مراحل الجهاد قبل الثورة، ولقد عبّر عن ذلك في مناسبات عدة أشار فيها إلى أن أصل الانتماء إلى الإسلام هو انتماء لبيئة العلم والانسياب في فضاءاته، فالمسلم متعلم ولا حجة لعدم النهل من روافد العلم والمعرفة، وقد جاء في خطبة له: "كان الإسلام يوماً ما مركزاً لنشر العلم في العالم، وقد أخذ هذا العلم بالانتشار في صورة سلمية، فوصل إلى جميع الأرجاء وانتفع واستفاد منه الجميع وانتفعوا به".
وخلال مراحل الجهاد وقبل انتصار الثورة انطلق من بيئة الجامعة وتحديداً جامعة طهران مقتنعاً أن قماشة التغيير لا توجد صافية بهية إلا بالجامعة وبين أهل العلم والمعرفة، وأن أهل الانتصار إنما هم طلاب الجامعة، مؤمناً أن ما تقدّمه الجامعة من علوم صحيحة صافية هو منطلق التغيير، ولقد عبّر عن تقديره الشخصي لأهل العلم في مراكز الأبحاث العلمية وأساتذة الجامعات بالقول: "إنني أشعر بالإحترام والتكريم والتواضع في قلبي للعالم وللعلم".
كما عبّر عن حبه الخاص للطلبة وهم من سيكون القيّم على الجامعات وعلى الوظائف العليا والمراكز الحساسة في الأمة، فكانت لقاءاته بالطلاب دورية، وكان يطمح إلى ملتقيات عامة مع العلماء والطلاب والباحثين على مرّ السنة، وقد وصف ذات مرة لقاءاته بالطلاب: "أن الاجتماعات الطلابية من أجمل الاجتماعات بالنسبة لي على الإطلاق" , ولشدة ارتباطه بالجامعة وصفه أحد الباحثين بالقول: إنه جامعي التفكير، فردّ بالقول:
"فرغم أنني لست فرداً جامعياً، لكنني ارتبطت بالجامعة وطلاب الجامعات والجامعيين منذ القدم، وكان لي عمل في جامعة طهران، وعندما كنت آتي إلى الجامعة، كنت أشعر أنني دخلت في أجوائي الخاصة، ولعل هذا ما أدى إلى أن يختار العاملون والمسؤولون عن أمور استقبال الإمام بعد أن تم تأخير مجيئه في مثل هذه الأيام أن يختاروا جامعة طهران كمحل للتحصّن، فلم يكن هذا محض صدفة، بل كان مؤشراً على نوع من الارتباط المعنوي والروحي مع الجامعة، وخصوصاً هذه الجامعة طهران" .
والملفت في علاقة الإمام الخامنئي بالعلم كانت، ورغم انشغالاته بأمور قيادة الأمة ومواجهة تحدّيات وجود الأمة والتي لم تتوقف منذ انطلاقة الثورة، قراءاته الواسعة لكتب العلم الأجنبية منها والوطنية، وعندما يتحدث في فلسفة العلم نراه يحلّق عالياً فيوافق رؤية لعالم ما وينتقد آخر، فيغدو باحثاً مواكباً لحركة العلم الإنساني وقضاياه وإشكالياته، ولربما شكّلت هذه المطالعات أحد روافد الخصوصية التي أظهرها تجاه العلم وضرورة طلب العلم مهما كلّف الأمة من جهاد وتضحيات، وشكّلت هذه الخصوصية عند الإمام حالة فريدة تميز بها عن سائر قادة شعوب العالم، فقلّما دلّنا تاريخ الشعوب على قادة جمعوا بين هموم الأمة الحياتية والوجودية، وهمِّ طلب العلم، ولعلّنا نعيش في هذه الأيام سقوط عتاة من قادة الدول الإسلامية ممن ظلموا ونهبوا ثروات الأمة كيف تكشف الوقائع عن سِيَرهم الذاتية وأملاكهم الخاصة على نحو يقترب من الخيال، فيما الأمة تعيش الفقر المدقع في أسوأ ظروفه.
فكان هذا الأمر سراً من أسرار نجاح الجمهورية في الإمساك بتلابيب العلم والمعرفة نحو نجاح شبيه بالمعجزة عندما نقيس الإنجازات الهائلة في الاكتفاء الذاتي الصناعي والتقني العالي والاستنساخ، والاستنسال وغزو الفضاء وكل ذلك في ظل حصار دولي ظالم يهدف إلى كسر طموحات الجمهورية وإلحاقها بركب الدول التابعة والمحتاجة للغرب وعلى رأسه أميركا، وأخيراً لا آخراً الجهد الجبّار في ميدان الطاقة النووية، وذلك على فترة الثلاثين عاماً التي عاشتها الجمهورية وحتى اليوم.
وبالعلاقة المتوقدة بين سماحته والعلم، شكّل الإمام القدوة والنموذج على المستوى العلمي تحديداً، فكان في أدائه وبقربه من العلم النموذج الذي يقرّب الناس من العلم ويدفعهم لحب العلم انطلاقاً من حبهم للإمام النموذج، فالإمام القريب من شعبه والمُطاع في قراراته الحكيمة التي كانت دائماً تروم المصلحة العليا للأمة كان بحدّ ذاته حالة تدرّس، ويتوقف عندها الناس فيحبون ما يحب، ويكرهون ما يكره، وكل ذلك بدافع الحب له والثقة بما يفعل وما يهوى، فالأمر تماماً على قاعدة كلام الإمام زين العابدين (ع): "كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم". إن نجاح الإمام في اسر قلوب الملايين من الأمة كان أحد الدوافع التي ربطت الأمة بالعلم، وليس لنا أن نقلّل من أهمية هذه النقطة فالعالم الشخصي حاضر في أصعب القرارات لدى البشر، وعندما تقترب المسافة بين شخصين يسهل الحديث والتبادل والتواصل، فيأخذ كل منهما عن الآخر ويؤثّر أحدهما في الآخر، والحواجز النفسية للقبول المتبادل تكون قد سقطت، ولا زالت الأمة كل الأمة تعيش التناقض بين ما تريد وتتطلع وتأمل من المستقبل وبين حكّامهم الغارقين في ليل الدنيا وحطامها نهباً وتجهيلاً وإفقاراً وعمالة، ولقد وعى الغرب تماماً هذه النقطة وعمل عليها باستمرار على إنتاج القيادات الضعيفة في داخلها وفي قراراتها والتابعة تبعية مطلقة له، لقد أحبّ الناس العلم حباً بالإمام الخامنئي، ولسنا في هذا المقام لنبالغ في أن الدافعية الأبرز لثورة الشعب الإيراني تجاه العلم والمعرفة كان منشؤها هذه الناحية، وكانت بلا شك عاملاً من العوامل التي سهّلت تقبّل الشعب للخيار الذي يريده الإمام الثقة العادل والعطوف على رعيته.
الرابط:
http://www.tarbaweya.org/essaydetails.php?eid=7758&cid=525#.Utw7BtL8LIV