تكشف معارك "داعش" والفصائل المسلحة الأخرى في سوريا مرة أخرى ان التشدد يقتل صاحبه أيضاً، وان الإيغال في إغلاق النوافذ والأبواب امام الحلول السلمية لا يقرّب من النهاية المرجوة
علي عبادي
تكشف معارك "داعش" والفصائل المسلحة الأخرى في سوريا مرة أخرى ان التشدد يقتل صاحبه أيضاً، وان الإيغال في إغلاق النوافذ والأبواب امام الحلول السلمية لا يقرّب من النهاية المرجوة بقدر ما يفتح أبواباً للإستنزاف الى ما لا نهاية.
إستمرت المعارضة المسلحة بلعبة القتال وظنت بسذاجة أن حرق جميع جسور الحل، سوى "إسقاط النظام"، يعزز رؤيتها من دون أن تستكشف في الواقع العملي انها تفتقر القدرة على جمع السوريين، كل السوريين، الى برنامج وطني يحظى بمقبولية واسعة. لقد أصبح المشهد المعارض شديد التعقيد: كل فصيل يدّعي أنه على حق وأنه يحمل برنامج الخلاص للشعب السوري، ثم يمضي الى قتال يتأكد يوماً بعد يوم أنه يحمل الموت وكل عناصر المأساة لهذا الشعب.
الخطاب المتشدد يورث تقاتلاً
ضاع "العقل السياسي" للمعارضة المسلحة، هذا إن كان له من وجود. العقل المسلح، معطوفاً على نوازع انتقامية تتوعد بسحق فئات من الشعب السوري بدعوى أنها من "الشبيحة"، فتح الباب واسعاً أمام نمو ظواهر عبثية لا تجيد سوى مخاطبة نفسها. الأمر لا يقتصر على "داعش" التي لا ترى الا "دولتها" الممتدة من الشام الى العراق، بل يتصل كذلك بـ"جبهة النصرة" ونظيرتها "الجبهة الاسلامية": فالأولى تنفي حق الشعب في تقرير مصيره عن طريق إحالته الى "أهل الحل والعقد"، وهؤلاء لا وجود لهم في الواقع التاريخي الذي أنتج على الدوام ملوكاً وأمراء وسلاطين يحكمون بأمرهم وباسم الله حصراً! والثانية تنفي "بدعة" الديمقراطية وصندوق الاقتراع وتعِدُ الناس بـ"الإحتكام الى شرع الله"، في تعميم لوصفة لم تنتج الا استبداداً وتحكماً بمصائر البشرية على مدى قرون.
إنه دليل أزمة في أطروحة المعارضة المسلحة التي أخفقت على مدى ثلاث سنوات في وضع برنامج سياسي معقول وواقعي واستسلمت الى أوهام قدرتها على إسقاط النظام في القريب العاجل تارة، والى الحلم بتدخل خارجي يحقق لها ما عجزت عن تحقيقه بقدراتها الذاتية تارة اخرى. ومن المؤسف ان صوت التطرف يعلو ولا يُعلى عليه مستنداً إلى قوى خارجية تراهن على توفير مناخ دولي ملائم لفرض التغيير بالقوة، وإلى مشاريع طموحات فصائلية ومزايدات خطابية واستحضار عصبيات طائفية تسهم في توسيع الشُـقّة بين السوريين. وأصبح أمراً شائعاً لدى هذه الجماعات على اختلافها تفسيرُ السياسي بالطائفي، واعتبارُ كل من يختلف معها "عميلاً" أو "شبّيحاً" لدى "النظام النصيري"، بينما يتناوب هؤلاء وأولئك من المتقاتلين على ذبح بعضهم بعضاً وتعليق الرؤوس في الساحات او دسّها في مقابر جماعية، وكلهم يحتكم الى خلفية عقائدية مشتركة! ومن فرط إفتتانهم بشيطنة بعضهم البعض الآخر اللجوء الى إطلاق اتهامات رنانة: "داعش" تصف خصومها بـ"الصحوات"، تشبيهاً لهم بصحوات أبناء العشائر التي تقاتلها في العراق، وتعلن في خطاب يعجّ بالعجرفة والاستعلاء ان مقاتليها "شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء" بل أنهم "لم يجدوا في ما شربوا أشهى من دماء الصحوات"، مضيفة على لسان الناطق باسمها "ابو محمد العدناني" ان الائتلاف والمجلس الوطني مع هيئة الاركان والمجلس العسكري، طائفة ردة وكفر.. وقد رصدنا مكافأة لكل من يقطف رأساً من رؤوسهم". أما "الجبهة الاسلامية" فلم تجد أفضل من إشاعة ان "داعش" هي وليدة النظام السوري بل إنها تعمل لدى ايران، في نزعة تهدف الى إخراج "داعش" من الحظيرة المذهبية، فتردّ هذه بأن معركتها "مع الرافضة معركة واحدة في العراق والشام واليمن وباقي الجزيرة وخراسان"، ساعية الى تقديم نفسها ممثلة حصرية لأهل السنة في حرب خادعة تأكل من رصيد هؤلاء قبل غيرهم. والتشدد أينما كان ينطبق عليه مَثـَل الحسد: "لله درُّه ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله. كالنار تأكل بعضها، إن لم تجد ما تأكله"!
خيبة الرهان على "المعارضة"
من السهولة بمكان خلق وحش، لكن السيطرة عليه وتوجيهه في اتجاه محدَّد أمر ينطوي على مجازفة، لأن الوحش يفتك بصاحبه في كثير من الأحيان. إن تصعيد الخطاب المذهبي والطائفي يهدف في المقام الأول الى إضفاء شرعية على موقف كل طرف ونزعها في المقابل من كل خصم محتمل. لكن ذلك أسهم بطريق غير مباشرة في تكريس اتجاهات منفصلة عن الواقع السياسي ومنقطعة عن مصلحة الشعب السوري. وارتفاع صوت التطرف يجعل من المُلحّ على كل القوى الخارجية أن تعدّل من مقاربتها للواقع السوري، لأن البديل سيكون مزيداً من الشرذمة للقوى- الأدوات التي جرى الرهان عليها لتطويع النظام في سوريا أو إسقاطه.
لقد كان ثمة رهان على ان ضرب "داعش" سيتيح إنتاج معارضة سورية "معتدلة" تحظى بأوسع اعتراف دولي ومزيدِ دعم ٍخارجي، لكن الرهان لا يبدو في محله حتى الآن. فالتنظيم القاعديّ المنفلت من التنظيم الأم يستشرس في مقاتلة الجماعات الأخرى بهدف إخضاعها لمشروعه وهو لا يتورع عن استخدام كل وسائل الترهيب والفتك من أجل هذه الغاية التي تبدو أولوية المرحلة. وقد أظهر التنظيم قدرة على استيعاب الهجوم الأول الذي تعرض له وتمكن بفعل عوامل عدة داخلية وخارجية (ولا سيما بمساندة من رعاته في الأوساط الدعويّة والمموِلة) من وقف الإنشقاقات في صفوفه ووضع الجماعات المنافسة في موقف دفاعي. ويُعرف عن داعش انغلاقها التنظيمي و"الفكري" وعدم مناقشة أعضائها أوامر القيادة (البيعة على السمع والطاعة) وتعبئتهم على استخدام أقصى الشدة بحق الخصوم، ولذلك لا تتورع عن تنفيذ هجمات انتحارية والتباهي بإعدام بعض الأسرى لديها. أما الجبهة المقابلة فتبدو مفككة الى فصائل ولا تمتلك الإصرار على مواجهة داعش بل تأمل في مهادنتها وتواجه صعوبة في شرعنة القتال.
مراجعة الحسابات الإقليمية
هذا الوضع يدفع بالسعودية، الجهة الإقليمية الراعية للجبهة المواجهة لداعش، الى العمل لمنع تضعضع هذه الجبهة بما قد يؤثر على مسار الحرب الهادفة لتغيير النظام، إضافة الى محاولة منع داعش من تحقيق انتصار على الجماعات الأخرى. وخابت آمال السعودية بتحقيق الفصائل الموالية لها انتصاراً سريعاً على التنظيم القاعديّ، وهي تشعر على الدوام باضطرابٍ من توسع نفوذ هذا التنظيم الذي يلقى تأييداً من اوساط سعودية متشددة، برغم ما يقال عن إفادة الرياض من جهود "داعش" او توظيف بعض الدعم لها ضد خصوم السعودية التقليديين ولا سيما الحكومة السورية والحكومة العراقية. وما يُحكى عن "مرونة" سعودية طرأت مؤخراً حيال مكافحة داعش في العراق او التعامل مع الاوضاع السياسية في لبنان والبحرين قد يكون مرتبطاً بالأخطار التي بدأت تلمسها الرياض من المأزق الذي وصلت اليه في سوريا واحتياجها لضم جهودها الى جهود دول أخرى في المنطقة من اجل محاصرة القاعدة، إضافة الى انها بدأت تتأكد من ان الرهان على فشل أو تفشيل مفاوضات ايران مع الغرب في الملف النووي ليس واقعياً الى حد كبير.
وليست السعودية وحدها من يواجه مأزقاً في استيعاب تداعيات ما يحصل بين داعش وأخواتها. فتركيا بدأت تتحسس مشكلة تمدد القاعدة بمحاذاة حدودها مع سوريا. وإضافة الى حملة الاعتقالات المستجدة التي جرت في مدن تركية عدة في صفوف أفراد على علاقة بالتنظيم عقب الاعلان عن اكتشاف أسلحة مهربة الى سوريا، لفت الأنظار دعوة الرئيس التركي عبدالله غول الى تغيير سياسة بلاده في سوريا قبل أيام من انعقاد مؤتمر جنيف 2 لحل الأزمة السورية. وقال خلال لقاء بدبلوماسيين أتراك إن على تركيا أن تعيد تقييم دبلوماسيتها وسياساتها الأمنية نظراً إلى "الوقائع" في جنوب البلاد. كما شدد الرئيس التركي على أن الوضع الحالي يشكل سيناريو خاسراً لكل دولة ونظام وشعب في المنطقة، وأنه لا توجد حلول سحرية لهذا الوضع. هذا في وقت كان رئيس الوزراء اردوغان يجابه اتهامات لحكومته بتوفير دعم للإرهاب وتأمين مأوى له، قائلا ان "الحكومة التركية لا تدعم لا القاعدة ولا جبهة النصرة، بل على العكس هي ضد كل الجماعات القادمة من خارج سوريا".
أيضاً، واشنطن التي عدّلت بعض خطوط سياستها حيال سوريا، مقدّمة ًالهاجس الأمني، عادت لتتشدد ضد النظام، مهددة باللجوء الى خيارات أخرى في حال فشل جنيف 2. واذا كان هذا التهديد يهدف الى ضمان وقوف الائتلاف المعارض خلف سياستها وحضوره المؤتمر، فإن الادارة الاميركية تحاول إعادة الإمساك بالعصا من الوسط وهي التي تخشى تقدم "داعش" على حساب الجماعات الأخرى في شمال سوريا. وثمة معلومات عن قيام مسؤولي أجهزة أمنية غربية ببحث تطورات الوضع في سوريا مع نظرائهم في المنطقة بهدف تقييم خطر المنظمات المرتبطة بالقاعدة. وسبق لصحيفة نيويورك تايمز أن أشارت قبل أسابيع الى ان ادارة الرئيس الاميركي باراك اوباما تدرس احتمال استخدام طائرات بدون طيار لضرب تنظيم القاعدة في سوريا بعدما تحول هذا البلد الى بؤرة جاذبة للإرهاب من كل حدب وصوب.
ما الذي يعنيه كل ذلك؟
إنه يعني ان الوضع في سوريا سيصبح بعد جنيف 2 قيد التدويل الأمني، ولن يُسمح بتحول هذا البلد، او العراق المجاور، ساحة لتنظيمات عابرة للحدود تهدد أمن الدول الإقليمية او القوى الدولية. وما يجري بين داعش والجماعات المنافسة على الساحة السورية قد يدفع هذه الجماعات الأخيرة الى النزول من أعلى شجرة التعنت السياسي والارتماء في أحضان الغرب بعد تمنع ٍ فرضه تربص داعش بها، كما ستصبح في وضع أضعف لن يسمح لها بالبقاء في وضع رفض حلول سياسية تجمعها بالنظام مثلاً. وإضافة الى ذلك، قد نشهد في المرحلة المقبلة تدخلاً عسكرياً خارجياً بشكل أو آخر من جانب تركيا او الغرب لوقف تمدد القاعدة. وتجارب أفغانستان ومالي وجزئياً اليمن والصومال ليست بعيدة عن نموذج يحكي تكراراً قصة قرار دولي بحرمان هذا التنظيم، الشاهر سيفه على البشرية والمتباهي بشرب الدماء والأنس بالأشلاء، من اكتساب موطئ قدم في أية ساحة.