22-11-2024 03:46 PM بتوقيت القدس المحتلة

التصحّر يضرب لبنان: شحّ الأمطار يغذّي معاناة السكان والمزارعين

التصحّر يضرب لبنان: شحّ الأمطار يغذّي معاناة السكان والمزارعين

يسهل على أبناء المنطقة اللجوء الى «الشيش بلّة», تشمل هذه العادة هتاف أهل البلدة بعبارات: «شيش بلّة، شيش بلّة، ما منروح الاّ تملّي» ثم يطلبون من ربّات المنازل التبرّع، وإذا تجاوبت معهم يردّدون....

يؤكد رئيس مصلحة مياه طرابلس كمال مولود أن معدّلات هطول الأمطار لم تمثّل أكثر من 15% من المعدّل العام، و28% من معدل العام الماضي. بوادر الأزمة لاحت: أسعار مياه الآبار ارتفعت، والمزارعون في مهبّ التصحّر. بعض اللبنانيين يتحضّرون للبدء بصلاة الاستسقاء وتقاليد «رحمة إنزال المطر».
التصحّر يضرب لبنان: شحّ الأمطار يغذّي معاناة السكان والمزارعين
 
عبد الكافي الصمد, داني الأمين / جريدة الأخبار

يبدو أن موسمَي الربيع والصيف المقبلين ينطويان على أزمة مياه. شحّ غير مسبوق في المتساقطات خلال فصل الشتاء يحمل هذا الاستنتاج. «فحل الشتي»، أي كانون الثاني، لم يختلف في شحّه عن باقي أشهر فصل الصيف. تندّر اللبنانيون على زخّات خفيفة خلال الأيام العشرين الأولى من هذا الشهر، لكن بلا طائل. لن يحتاج مراقبو أحوال الطقس إلى إجراء مقارنة بالأرقام بين هذا الموسم والموسم الماضي، فالأمر واضح؛ 45 يوماً من دون مطر. أما الثلوج فلم تكوّن سوى طبقة أولية مع قدوم العاصفة «ألكسا»، وهي الآن في مهبّ الشمس.
 
مظاهر الأزمة بدأت تلوح في الأفق؛ ارتفع الطلب على شراء مياه الآبار وارتفعت أسعارها. الكارثة قد تنزل ألماً شديداً بالمزارعين.
 
أزمة على الأبواب
 
حتى أمس، لم يكن معدل الأمطار المتساقطة في لبنان قد وصل إلى المعدّل السنوي الطبيعي. بحسب الأرصاد الجوية لمطار بيروت الدولي. كان يفترض أن يبلغ هذا المعدّل في بيروت 440 ملم في مثل هذا الوقت من السنة، لكن ما سجّل حتى اليوم يبلغ 237.8 ملم. أما في البقاع الأوسط، فقد بلغ المعدّل 128 ملم، مقابل معدل وسطي للسنوات السابقة بنحو 435 ملم. وفي الشمال، بلغ 340.9 ملم فيما كان يجب أن يبلغ 454 ملم ... وهذا المستوى المتدني ينسحب على كل المناطق اللبنانية شمالاً وجنوباً وبقاعاً.

 حاجتنا إلى هذه المتساقطات ضرورية من أجل تكوين المخزون الجوفي للمياه في لبنان وتزويد المقيمين في لبنان بحاجتهم من مياه الاستعمال ومياه الشرب. هذا المخزون يتكون بفعل تساقط الأمطار والثلوج، ثم يُستخرج بطرق عديدة، سواء من جوف المياه بواسطة الآبار الارتوازية أو من المياه السطحية. وبالتالي، فإن تراجع كمية المتساقطات وتقلّص المساحات المكسوّة بالثلوج وتقلص عدد الطبقات الثلجية، تؤدي إلى تقلّص المخزون الجوفي والسطحي، ما ينعكس سلباً على مستهلكي المياه ويزيد الفجوة بين الموارد المتاحة والحاجات الفعلية.

هذا المستوى من المتساقطات إذا استمرّ بمنحى سلبي خلال شهري شباط وآذار، فإنه سيتحوّل سريعاً إلى أزمة شحّ المياه. فالمياه السطحية لن تكون كافية لتلبية الطلب، وبالتالي سيلجأ المستهلك إلى استبدالها بالآبار الجوفية التي ستنضب بسرعة أيضاً. كل ذلك يحصل، فيما لم يخرج عن أي إدارة رسمية بعد حجم الطلب الإضافي على استهلاك المياه بسبب وجود النازحين السوريين في لبنان. أكثر من مليون سوري نازح يمثّلون نحو 25% من السكان الأصليين، وإذا اعتبرنا أن طرق استهلاك المياه لدى النازحين هي نفسها لدى السكان، فإن الطلب سيزداد بنسبة 25%.

وبحسب دراسة أجراها الخبير في هذا المجال، محمد فوّاز، فإن الطلب الحالي على المياه يبلغ 900 مليون متر مكعب سنوياً، منها 630 مليون متر مكعب يذهب إلى الزراعة. وبما أن كمية المتساقطات تراجعت في فصل الشتاء الحالي بصورة كبيرة، فإن الجميع يرتقب عجزاً كبيراً في توفير المياه، سواء للاستعمال المنزلي ولمياه الشفة ولري المزروعات أيضاً. لا أحد يمكنه تقدير حجم هذا العجز، لكنه بالتأكيد سيضاف إلى العجز الأصلي الذي يعانيه لبنان.
 
تغيّر مناخي
 
«إنها فترة شحّ حقيقي، ونحن نعيش قلقاً حقيقياً هذه الأيام. نأمل تلافي هذا الوضع إذا جرى تعويض النقص الحاصل في تساقط الأمطار خلال ما تبقى من شهر كانون الثاني وفي شهري شباط وآذار المقبلين». بهذه العبارة يعبّر رئيس مصلحة مياه طرابلس كمال مولود عن ارتفاع منسوب القلق من تقلّص المتساقطات في محافظات لبنان. يصف مولود هذه الفترة بأنها «تطور غير مسبوق لجهة التبدل المناخي. لم أرَ مثل هذا القحط في هطول الأمطار منذ دخولي إلى المصلحة قبل 30 سنة».

يعود مولود قليلاً بالذاكرة إلى الوراء، ليشير استناداً إلى سجلات هطول الأمطار السنوية، إلى أنه «مرّ علينا في عام 1999 طقس مشابه لما نشاهده هذه الأيام، لكن انحباس المطر بشكل كامل في شهر كانون الثاني، كما هو حالياً، لم يحصل، إنما كانت تهطل فيه أمطار خفيفة، جرى تعويضها لاحقاً في شهري شباط وآذار».

هذه الظاهرة في رأي مولود «غير طبيعية أبداً، ونحن غير معتادين عليها، فهي فترة استثنائية بكل معنى الكلمة، وهي تعود بلا شك إلى التغيير المناخي الذي بدأت تشهده بلادنا». وكشف أنه «حتى اليوم لم يهطل على مستوى لبنان أكثر من 15% من المعدّل العام للأمطار، و28% من معدل العام الماضي».

يعزو رئيس دائرة التنمية الريفية في مصلحة الزراعة في الشمال غازي الكسار، طقس هذه الأيام إلى عاملين: الأول، وهو طبيعي إذ يشهد لبنان كل عقدين أو ثلاثة سنة قحط وشحّ في مياه الأمطار؛ والثاني يتعلق بتغيّر المناخ.
 
مافيات المياه
 
أما في الجنوب، فقد تبيّن أن آبار تجميع المياه في بلدات مرجعيون وبنت جبيل قد جفّت. تزامن هذا الأمر مع تعطّل محوّل الكهرباء الرئيسي الذي يؤمّن التيار لمحطّة ضخّ المياه من نهر الليطاني الى مشروع الطيبة، ومنه الى أكثر من 20 قرية وبلدة في المنطقة. 45 يوماً تزامن فيه توقف هطول الأمطار مع انقطاع المياه، فانفجر الطلب على شراء المياه من أصحاب الآبار. فجأة ارتفع سعر نقلة المياه الصغيرة إلى 40 ألف ليرة. هذه الكمية «لا تكفي إلا أسبوعاً واحداً، أي أن كل أسرة ستدفع 200 ألف ليرة شهرياً لتغطية حاجاتها من مياه الاستعمال»، يقول حسن حمدان من ميس الجبل. هذا الرجل يؤكد أن «أبناء هذه البلدات كانوا يعتمدون على مياه الأمطار ومياه مشروع الطيبة التي لم تكن تنقطع شتاءً، غير أن ما يحدث اليوم أمر غريب. المزارعون يتوقعون فساد موسمهم الزراعي».

شحّ المياه ليس السبب الرئيسي في تعطّل محول الكهرباء، فبحسب أحد العاملين في مصلحة مياه الليطاني أن «هذه المحطّة تعتمد عليها أكثر من 10 بلدات في المنطقة، وتضطر إلى أن تضخّ أكثر من 8000 متر مكعب يومياً من المياه، وهذا يمثّل ضغطاً كبيراً عليها».

ونتج من تعطّل المحول المذكور اضطرار مؤسسة كهرباء لبنان إلى تأمين كهرباء بديلة للبلدات التي كانت تتغذى من المحطة، وذلك من محوّل بلدة السلطانية. وبطبيعة الحال، أدّى هذا الأمر إلى زيادة ساعات التقنين المخصّصة للمنطقة. ويقول أحمد زهوة، من مجدل سلم، إن «ضعف التيار الكهربائي أدّى الى تعطل العديد من الآلات الكهربائية».
 
صلاة الاستسقاء
 
مشكلة شحّ المتساقطات دفعت الجنوبيين إلى التفكير جدياً بصلاة الاستسقاء والعودة إلى تقاليدهم وعاداتهم لمواجهة حالات القحط. كذلك، بدأ العديد من أبناء بلدة حولا يتحضّرون لحملة «الشيش بلّة» من أجل هطول الأمطار، وهي عادة قديمة جداً اعتادوا ممارستها عند تأخّر هطول الأمطار. تتضمن هذه الحملة جولة لعشرات أبناء البلدة، كباراً وصغاراً في أحياء البلدة، مردّدين عبارات تدعو الى وقف القحط وهطول الأمطار، ثم يقصدون معظم منازل البلدة للحصول على ما تيسّر من التبرّعات لتقديمها للفقراء، وذلك طلباً لرحمة الله من أجل إنزال المطر.

ويرى كبار السن في حولا أن إنجاز صلاة الاستسقاء أمر شاق وصعب يتطلب لجوء جميع أبناء المنطقة مع جميع الخراف والحيوانات الأخرى إلى مكان معيّن تقام فيه الصلاة إلى حين هطول المطر، وذلك بإمامة أحد المراجع المخلصين. لذلك، يسهل على أبناء المنطقة اللجوء الى «الشيش بلّة». تشمل هذه العادة هتاف أهل البلدة بعبارات: «شيش بلّة، شيش بلّة، ما منروح الاّ تملّي» ثم يطلبون من ربّات المنازل التبرّع، وإذا تجاوبت معهم يردّدون: «حطّوا ليفة على ليفة صاحبة البيت نظيفة»، أما في حال عدم التجاوب فيقولون: «حطّوا قمحة على شعيرة صاحبة البيت فقيرة». تتكرّر مسيرة أبناء المنطقة مرّات عدة «حتى يعود الأهالي مبلّلين بالماء بعد هطول المطر».