21-11-2024 11:43 PM بتوقيت القدس المحتلة

الرؤية العلمية لدى الامام الخامنئي: مرتكزات رؤية الإمام الخامنئي للعلم

الرؤية العلمية لدى الامام الخامنئي: مرتكزات رؤية الإمام الخامنئي للعلم

إن الموقع الديني للإمام الخامنئي جعل من البعد الإسلامي للعلم أساساً حاضراً في ثنايا كل خطبه في حضرة أهل العلم، فتحدّث عن موقع الإيمان العميق بما يقول وبما يقوله الإسلام في العلم، وجعل من البعد...

"الرؤية العلمية لدى الإمام الخامنئي"، سلسلة حلقات يغوص فيها الدكتور عبد الله زيعور- مسؤول هيئة التعليم العالي في حزب الله - بتحديد موقع العلم الخاص والمميز من شخص الإمام الخامنئي قبل الثورة وبعدها (مشروع النهضة والاقتدار)، ويُشار إلى أن هذه السلسلة صدرت في كتاب حمل نفس العنوان، عن دار المعارف الحكمية.

                                             الحلقة الثانية

                                   مرتكزات رؤية الإمام الخامنئي للعلم


1 – رسالة الإسلام

الرؤية العلمية عند الإمام الخامنئيإن الموقع الديني للإمام الخامنئي جعل من البعد الإسلامي للعلم أساساً حاضراً في ثنايا كل خطبه في حضرة أهل العلم، فتحدّث عن موقع الإيمان العميق بما يقول وبما يقوله الإسلام في العلم، وجعل من البعد الإسلامي السلاح السحري الذي يصل لقلب الإنسان وعقله، ويولّد فيه تلك الدافعية الكبرى، هذه الدافعية التي كان من شأنها أن تصالح قلب الإنسان مع عقله، فتصبح طاقاته متناسقة وواثبة ضمن مواصفات الفرد الإيجابي في المجتمع، ولذا، كان البعد الإسلامي في كلام الإمام عن العلم رقيقاً وشفافا ينفذ للقلب والوجدان، ويصل بالعلم إلى الهدف المطلوب ضمن سلسلة قناعات الإنسان الفلسفية والروحية وترجمتها العلمية، لتحدث التناغم المطلوب، وينطلق الإنسان الحر الواعد العارف بما يفعل وإلى أين يصل: لمصلحة الناس ولمنعة الأمة ودفاعاً عن الإنسان ولنصرة المستضعفين، وإنقاذ البشرية وصولاً للغاية الأسمى والأنبل ألا وهي رضا الله سبحانه وتعالى، فكلام العلم عند الإمام كان جزءاً من المشروع العقائدي الروحي ومنطلقاً منه وعاملاً لأجله، فتحصيل العلم وجهاد العلم واجب سيسأل عنه القادر عليه وسيثاب بعظيم الثواب من عند الله تعالى من حمله وخدم به، ففي كلام الإسلام عن العلم قال الإمام:

"لقد أضفى الإسلام قدسية على العلم، فالعلم شيء مقدّس والتحصيل العلمي يتميّز بقدسية خاصة. إن العلم يختلف عن باقي الأمور، فهو ليس مجرّد وسيلة لتحقيق الثراء كغيره من الوسائل، مع أنه يحقّق الثراء، ولكن ينبغي الحفاظ على قدسيته.. إن العلم نور، وهذا ما يجب أخذه بعين الاعتبار، وهو أحد شؤون الجامعة الإسلامية".

ويتابع الإمام في نفس الخطبة:

 "إن أحد مصاديق العمل الصالح هو نفس النشاط العلمي الذي تقومون به في الصف، أو العمل الذي تقومون به في المصنع أو في المزرعة. إن نشر العلم وتوفير فرص العمل عبادة كما أن الصلاة وقراءة القرآن عبادة وهذا ليس بالأمر الهين".

ويربط الإمام العلم والتعليم والعمل بالسمو الإنساني المتوجّه إلى رضا الله تعالى فيقول في نفس الخطبة:

"إن الهدف من وراء جعل الثواب على التعليم والعمل هو أن الله تعالى جعل كمال البشرية في العلم والعمل، والمجتمع العاطل عن العمل أو الذي يتكاسل في العلم وكذلك المجتمع الجاهل لا يستطيعان ارتقاء مدارج الكمال البشري، وكلما كان العمل أكثر نفعاً كان الثواب أكثر؛ والثواب هنا، ليس فقط لتعليم القرآن وعلوم الدين، وإنما أيضاً لتعليم الجبر والمثلثات والفيزياء والهندسة، فما دمتم تصنعون من أولاد الناس علماء يفيدون المجتمع بعلمهم، فإن تدريسكم هذا فيه ثواب وأجر، هذا هو منطق الإسلام. إذن، المكسب الأول هو تحصيل الثواب الإلهي، والمكسب الآخر الذي لا يقلّ أهمية هو المساهمة في بناء صرح مستقبل مجتمعكم".

إذن، فالعلم العملي: بحثاً وتدريساً، عند الإمام الخامنئي، هو عبادة كما الصلاة وقراءة القرآن، فالصلاة وقراءة القرآن هما جزء من بناء روحية الإنسان، فيما العمل العلمي هما جزء من بناء روحية المجتمع، وقد جعل الله تعالى في كلا الأمرين ثواباً طالما كان القصد منعة الأمة بفردها ومجتمعها.

ثمّ يحدّد الإمام الخامنئي أي علم نريد؟ وعن أي علم نتحدّث؟ فيقول في الخطبة:

"إن الاختلاف بين نظرة الإسلام والعالم المادي تجاه مسألة العلم هو أننا نريد العلم لسعادة البشر وتكاملهم وتفتّح استعداداتهم واستقرار العدالة التي هي أكبر الأماني البشرية، فيما يراد من العلم أن يكون خادماً لأكثر الناس والمجتمعات ظلماً، ويجب أن يخرج من هذه الوضعية.. إن نظرة الإسلام إلى العلم هي نظرة الشرف والنظافة والبعد عن الهوى والهوس، هي نظرة التوجّه المعنوي، فنحن إنما نريد العلم لأجل هذا، ولهذا ينبغي أن نسعى في هذا المجال، وهذه الرؤية التي تعرّضنا لها يجب أن تكون موجودة في الطالب الجامعي، ومثل هذا العمل ممكن".
الرؤية العلمية عند الإمام الخامنئي

فلم ير الإمام العلم إلا في سبيل الإنسان وكرامة الإنسان وسعادته، العلم المنطلق من القيم الروحية السامية، والذي يتكامل فيها مع سيرة ومسؤولية الإنسان في خلافة الله على الأرض، وتلك المسألة كانت المفصل في الخلاف حول النظرة للعلم مع الغرب الذي ألحق بنفسه عار إدخال العلم وسيلة لقهر الشعوب الأخرى، ومنع التقنية والرفاهية عنها وحصارها بالجهل المقيت طيلة قرون من الزمن، ونراه يؤكّد في خطبة سبقتها حاجة البشرية للعلم والأخلاق مع تقديم أولوية الأخلاق على العلم ليشكّل البيئة الحاضنة نحو "علم إنساني" لا علم تلحق به خطيئة قتل الإنسان لأخيه الإنسان عن طريق التفوّق التقني والاستعلاء العرقي والعنصري المتجلّي في سلوك الغرب، فيقول:

"إن تحصيل العلم والمعنوية، والعلم والإيمان، والعلم والأخلاق، هو ما يفتقر إليه العالم اليوم؛ وإنّ الجامعة الإسلامية توفر العلم مع الإيمان، والعلم مع المعنوية، والعلم مع الأخلاق بلا فصل أحدهما عن الآخر.

إنها تمنح العلم والمعرفة استمداداً من الأخلاق والإيمان.

إنّ الذين يقولون: التناقض بين العلم والدين؛ لم يشاهدوا منطقة نفوذ العلم والدين، فلكل منهما منطقة نفوذ معاً، والمزج بينهما يعني أن يوجّه الإيمان سلاح العلم نحو الجهة المطلوبة؛ لأن سلاح العلم يمكن أن يستهدف الأخيار والأشرار، ولكن الأمر يتوقف على من يمتلك هذا السلاح.

إنه سلاح العلم، وأما الإيمان فهو الذي يسير به في الاتجاه الصحيح.

فلو كان الإيمان يتحكّم بالعلم في الدول الغربية لما اتجه الغرب نحو تصنيع القنبلة الذرية، ثم ما لبث أن وقف أمامها عاجزاً لا يستطيع أن يسيطر عليها، أو يتركها تدمّر العالم.

إنّ هذا لم يكن ليحدث لو كان الإيمان توأماً للعلم.

ولما كانت هناك أصلاً ظاهرة الاستعمار والاستعمار الجديد – الذي هو وليد العلم – ولما عانت الدول والشعوب من التسلّط السيطرة والقهر ونهب الثورات خلال القرنين الماضيين.

إن كل هذه الكوارث تعود إلى مسألة الفصل بين العلم والإيمان.

فما ورد في كلامه يؤكّد أن لا فصل بين الجهتين: العلم والمعرفة تستمد من الأخلاق والإيمان، ومن هذه النقطة ينطلق ليمتّن اللحمة بين العلم والدين، عازياً سبب ادعاء الخلاف من قبل البعض أنهم لا ينظرون إلى المنطقة المشتركة بينهما؛ فالعلم علم الله المودع في الأرض وعلى الإنسان الخوض في غماره واكتشافه وتسخير نتائجه إلى بني آدم وفق ما أمر الله تعالى به، والعلم المودع في الأرض إنما رسالة من الله تعالى لعقل الإنسان لكي يتدبّر، ولكي يزداد اطّلاعاً وسعة أفق وخروج من دوائر الدنيا الضيقة إلى رحاب الإشارات الإلهية التي توقظ القلب والعقل؛ فالعلم باب إلهي فتحه الله تعالى لتتضح طريق معرفته تعالى ولتزداد قلوب العارفين خشية منه...

الرؤية العلمية عند الإمام الخامنئيومن هذا التأسيس يؤكّد الإمام أن العلم سلاح، ولكن الإيمان هو من يقوده إلى الاتجاه الصحيح، وهذا ليس كلاماً نظرياً، وإنما مستمد من التجربة السوداء والمرّة في تاريخ الإنسانية عندما تعب الغرب في حربه المُكلفة تجاه الشرق، فاتجه إلى صناعة القنبلة النووية، ثم عجز عن السيطرة عليها فسبّبت أعظم كوارث البشرية وأكثرها كلفة في الأرواح. فليس هذا العلم الذي يُراد، وليس العلم مطلوباً بحدّ ذاته ترفاً أو وسيلة فتك الإنسان بأخيه الإنسان، بل إن الإمام يطرح شعار التوأمة بين الجهتين والتي تحتاج كل منهما الأخرى لكي تندفع في نفوس البشر، وفي ذلك الطرح مدخل لحلّ المشاكل التي عانت منها الأمم في علاقاتها بين بعضها البعض ولا تزال، ونعني بها مشاكل استعمار الشعوب الغنية ومالكة العلم للشعوب الفقيرة والإمعان في قهرها وسلب ثرواتها، وتحديداً منذ القرنين الماضيين وإلى الآن، وبالطبع فإننا لا نقدّم هذا الحل كخلطة سحرية تحل عبرها قضايا العلاقات البشرية ومشاكل العالم واحد القطبية الأميركية أو متعدّد الأقطاب، ولكن نقدّمه كأساس وأرضية صالحة نبني عليها مفاهيم جديدة مستمدة من القيم الصالحة والمتعارف عليها بين الأمم، وبالطبع على قاعدة ما أتى وبشّر به الأنبياء عليهم السلام وتحديداً أولو العزم منهم.

ثمّ ترقى نظرة الإمام إلى العلم بوصفه كل حركة علمية وثقافية وعملية تنجز لصالح النظام والجمهورية الإسلامية بأنها عبادة، فليس فقط طلب العلم عبادة وإنما كل إنجاز أو مشروع ينطلق من أسس العلم والثقافة والعلم الصالح هو عبادة، ثم يوسّع أفق العبادة والثواب الإلهيين فيقول:

" فلو أنّ المعلّم حالياً في إيران الإسلامية علَّم الطالب كلمة بقصد تقديم خدمة إلى هذه البلاد – التي هي حالياً مهد الإسلام وساحة عظمة الأحكام الإسلامية وإشعاعها – فإن هذه الكلمة حسنة وإن صارت مائة كلمة غدت مائة حسنة، وإن استوعب التعليم ليله ونهاره ملأت الحسنات أوقاته.

إن العامل الذي يعمل في مصنع أو يخطّط أو يشرف أو يقدّم أي مجهود آخر لأجل تطوير إيران الإسلامية – التي هي اليوم ساحة المظاهر المعنوية والإلهية – وتقدّمها وازدهارها، ولكي تستغني عن الأجانب ولا تقلق من ناحية الحظر الاقتصادي الذي تفرضه هذه القوة العظمى أو تلك، فإنّ هذا العامل يحصل في كل لحظة من عمله على حسنة ويكون قد أتى بعبادة، وكل من يتعاون معه في هذا العمل سيشاركه في هذه العبادة دون أن ينقص ثواب العامل الأول. إنّ العطاء الإلهي بهذا الشكل، فأحياناً يشترك عشرة أشخاص بإنجاز عمل واحد لكنّهم يحصلون على عشر حسناتـ لا أن تتقسّم الحسنة الواحدة بينهم، بل إن لكل واحد منهم ثواباً مستقلاً عند الله تعالى. واليوم أيضاً لدولتكم هذه الخصوصية.

قلّما توجد في الدنيا قاعة درس وصالة مصنع أو مختبر أو جامعة يشملها الله برضاه، بل وحتى ساعات استراحة المعلم والعامل – الذي يستريح بقصد أن يكون قادراً على العمل في الغد – يكون مشمولاً برضا الله ".

إن الربط الرائع الذي قدّمه الإمام للعلم والدين على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة إنما أراد به تعزيز المفهوم الإسلامي، بأن معرفة الله تعالى إنما هي عن طريق العلم والخشية من الله تزاد بالعلم السوي الصالح المبني على تغليب قيم الإنسانية العليا في المجتمعات المتباينة بأعراقها وأهدافها، لكن هذا الرابط إنما أراده الإمام ليمتد باتجاه تقدّم البلاد واستعادة الحق والكرامة المسلوبة من المستكبر وبث الأمل في قلوب كل المستضعفين في الأرض، فيقول في خطبة:

"إن العمل والعلم والثقافة وقاعة الدرس والمختبر والجامعة والجو العمّالي والمصنع يمكنه التأثير على التقدّم وبث الأمل في قلوب الشعوب وإذلال العدو وإبعاد المستبدّين في العالم، المتمثّلين بحكومة أميركا، عن أهدافهم الشيطانية يوماً بعد يوم، وهذه هي هدفية العمل، وحالياً ينبغي أن تكون هي الهدف في الجمهورية الإسلامية".

الرؤية العلمية عند الإمام الخامنئيفالإمام يشدّد ويكرّر في العديد من خطبه على الربط بين العلم بالدين لنهضة الأمة، ولكن أيضاً فإن هذا الربط يشمل أيضاً المدى المتوسّط، فالبعيد أن يقدّم الشعب المسلم في إيران النموذج والأمل لخلاص البشرية، فيتساءل في نفس الخطبة قائلاً: "فما هي إيران؟ إن إيران الإسلامية هي اليوم مظهر لخلاص البشرية ونجاتها". وهذا الطموح ليس بالأمر السهل، وهو العارف بأوضاع الجمهورية والحصار الدولي عليها، فيتابع: "مع أننا لا نمتلك علاقات واسعة مع البشرية، فماذا نريد أن نصنع؟ إن القضية تكمن هنا"؛ فالطموح كبير والحصار مستمر منذ ثلاثة عقود علمياً وتقنياً قبل أي شيء آخر، ورغم ذلك عليكم المبادرة وتحقيق هذا الطموح! إنّ التحدّي يكمن هنا، إن من أهم مزايا القائد ألا يضيع البوصلة، وأن يحافظ على الربط بين دقائق الأمور وتفاصيلها مع التوجهات الاستراتيجية، وهو العارف بما يريد والمتحكّم بأوراق القوة لديه يرعاها ويقلّبها ورقة ورقة، فيما رهانه الكبير بعد التوكل على الله تعالى والإخلاص له هو على قلوب الشباب الصافية المفعمة بالحيوية والصدق، وهو يوصي دائماً بأن يتخرّج الشاب من الجامعة، حائزاً قبل الشهادة على مستوى عالٍ من الناحية الدينية والأخلاقية نظراً لخصوصية الطالب الشاب في الاعتبار الإسلامي ولموقعه المميز لدى الإمام الذي يقول عنه: "فأين تجدون أفضل من الجامعة لينهل الطالب علمه منها، وأي القلوب أكثر نورانية من قلوب طلبة الجامعات الفتية؟ إنكم تشاهدون اليوم كم يسعون لإبعاد شبابنا عن الأجواء الدينية...".

في الخلاصة، ثمّة قداسة للعلم وللتحصيل العلمي، وهناك ضرورة للحفاظ على قدسيته والإنفاق على العلم استثمار للأمة، والله تعالى جعل كمال البشرية في العلم والعمل، وكما أن تحصيل علوم القرآن والفقه هي عبادة، فإنّ تحصيل سائر العلوم بنيّة منفعة الأمة والدفاع عنها هو أيضاً عبادة؛ إن المراد من العلم كما رآه الإمام الخامنئي هو سعادة البشرية ورفعة إنسانية الإنسان، ووقف الظلم وتحقيق العدالة في الأرض، فلا فصل بين العلم والدين فثمة أرض مشتركة بينهما، والعلم سلاح للمستضعفين عليهم الأخذ به والجهاد فيه، وإلا فهلاك الأمة ينتظرها في صراع قاس مع الغرب الذي لا يرحم والذي يفتقد الإنسانية لديه، حيث القتل والإبادة ممكنان لديه فيما لو اقتضت ضرورات الاستقرار والمصالح الدولية، إذن، فالعلم حصن وسلاح لا غنى عنه مع الكرامة.

1.1- العلم الحديث والدين: تلازم مسارات الحقيقة والتوحيد:

إن التقدم العلمي المطرد في مراكز الأبحاث في العالم ولا سيما أبان العقود الأخيرة يعزز ويثبت التلاقي الكامل بين الله تعالى والعلم من خلال ما تقدمه نظم الفيزياء الجديدة في التجانس الرائع بين الذرة أصغر مكونات المادة وبين نظام عمل المجموعة الشمسية والمجرات التي يعجز العقل البشري عن تصور حجمها ونطاق امتدادها، وأيضاً من خلال المفهوم الثوري الهائل لفكرة المادة، والكون من خلال العلم الحديث مخلوق وبخلق الكون ولد معه الزمان والمكان وتؤكد الفيزياء الحديثة أن شيئاً ما كان في الأصل موجوداً قبل الانفجار، كما أن التآلف بين العقل البشري والأسرار الموجودة في الكون يحوي لغز الحياة ولغز الحقيقة الكونية، فإعجاز الله في الكون إنما هو موجه للعقل البشري وثمة علاقة بين العلم المكنون والعقل الإنساني، وكما يشبه الفيزيائي الشهير شرودنغر: " إن الكون من دون الإنسان يكون أشبه بمسرحية تمثل في قاعة تخلو مقاعدها من جمهور المشاهدين ".
الرؤية العلمية عند الإمام الخامنئي
إن الجمالية الكامنة في مخلوقات الله وفي النظام الذي لا يمكن للعقل البشري أن يبلغ مداه والتماثل والتناظر في مفاصل الكون، مضافاً إليها كل ما تتفتق عنه صرعات الفيزياء الحديثة، تعزز روح التوافق بين العقل والطبيعة وبين الوجدان والمادة على نحو لم يتأت من ذي قبل، ولسنا نغالي إن قلنا أن وصف الموضوع بكلمات عابرة مختصرة لا يفي الموضوع حقيقته.

والفيزياء تطلق في جنبات الكون رسالة الكمال من جديد، ولكن هذه المرة بمفردات العلم التجريبي وكما قال الفيلسوف الفرنسي جان غيتون: " إن المفهوم الفيزيائي الجديد قد جرد المادة من ذاتيتها وأتاح في الوقت ذاته فرصة الأمل بسبيل فلسفي جديد، سبيل ما بعد المادية منفتح على الانصهار بين المادة والروح والواقع هذا العلم الحديث بمفهومه الانقلابي على مستوى إعادة مكانة العقل فيه، أخذ ينتج مفاهيم جديدة تُسقط الحدود بين الروح والمادة وتعمل للمصالحة بينها، فهو يتحدث عن مفهوم الانفجار العظيم الذي أولد المادة ومعها الزمان والمكان وهذه الصيغة التي يقدمها العلم بأدلة متعددة إنما تعود إلى تطابق روايتي العلم والدين حول نشأة الكون، وبالشكل الإجمالي الذي تتحدث عنه، الكتب السماوية، والأهم في رواية العلم الحديث عن خلق الكون أنها قدمت إلى العقل البشري سبل الكمال في فهم الكون وتفسير أصوله وأرشدت إليها من خلال التوازن التام الظاهر منذ اللحظة الأولى في عملية الخلق وتسلسل أشكال العمل والتطور فيه، ومن خلال ما يسميه علماء الفيزياء اليوم " النزوح السري للمادة نحو النظام " حيث كل ذرة تعلم تماماً ما ستفعله الذرات الأخرى وحيث أن " الحركة العشوائية للمادة " في ظاهرها ليست إلا صورة لنظام أعمق، وما كان يسمونه أهل المادة سابقاً صدفة لم يكن إلا عجزاً عن فهم درجة النظام الرفيعة المستوى.

أما الغوص في أعماق المادة فلا يوصل إلا إلى دخان رياضي احتمالي لا محسوس يفلت من الإطار المادي الأعمى والقاصر للمجموعات، لينطلق إلى مستوى الوعي والفهم المجرد القابع في ذهن الإنسان، وعليه، لا سبيل للمعرفة الفلسفية من خلال المادة كمنطلق وكشراع وحيد، ومن خلال ذلك يستنتج علماء الفيزياء حديثاً أن الروح والمادة هما حقيقة واحدة متكاملة وأن حقيقة الكون لا تدرك من خلال إدراكات الكون المتاحة بماديتها فقط، وأن التماثل في قوانين الفيزياء من الذرة إلى المجرة تستلزم القناعة بوحدة النشأة والمنشئ.

بعد هذا العرض السريع لواقع البحث العلمي في صفحاته الأخيرة وعلى المستوى العالمي: في أوروبا وأميركا وآسيا، يمكننا أن نؤكد إن توجه المجتمع ككل في مسار متناسق موحد لطلب العلم هو بعينه سلوك مسار الحقيقة الإنسانية، ولقد تبين لنا مما سبق أن ميدان عمل الحقيقة العلمية يقود إلى توحيد الله تعالى، فمسار العلم هو التوجه إلى الله تعالى والحقيقة العلمية تؤدي إلى معرفة الله ووحدانيته وعظمته من خلال عظمة الوجود وأسرار المكنونات فيه، وعليه، فعندما تتأكد الحقائق العلمية بالقوانين الصحيحة والمطابقة للواقع وعندما لا يقر الدين " بحقيقة " غير مطابقة للواقع أو بعيدة عن التزامات القانون الأخلاقي، فإن معيار المطابقة للواقع يؤدي إلى نفي كل أشكال التضارب أو التنافي بين اعتبارات كل من الدين والعلم.

وثمة من يذهب بعيداً في تقريب وجهتي عمل العلم والدين فيطلق اسم " العلم الإسلامي " على كل أشكال العلوم الصحيحة التجريبية منها والإنسانية فيقول:

 " إن العلم الذي يشيد بنيانه على الحق وعدم التخريب والإضرار هو " علم إسلامي " وعلينا الإشارة ثم التشديد على وجود عناصر في الإسلام سوف تكون لها أعظم الآثار على الحضارات المنبعثة وفي مقدمتها إصرار الإسلام على عدم الفصل بين الدين والعلم والأخلاق والفلسفة وما المأزق الذي تعاني منه البشرية في عصرنا هذا إلا نتيجة من نتائج الطلاق بين العلم والأخلاق كما الغفلة عن الله وتجاهل موقعه بوصفه حافظاً للمخلوقات.

إن العلم الوحيد الذي يمكن أن يراهن عليه الإنسان المعاصر لنجاته من الانتحار الجماعي هو العلم الذي يستند إلى الله ويستقي من فيض علمه، وهو العلم الذي ينظر إلى القضايا والقواعد الأخلاقية، لا بوصفها اختراعات ذهنية محضة، بل أمثولات ذات آثار واقعية صحيحة ".

نستنتج مما تقدم أن حمل راية العلم والنهوض بالبحث العلمي لدى الإمام الخامنئي، بالإضافة لكونه سبيلاً للأمة نحو النهوض والاقتدار، هو جزء من مسار الأمة نجو التوحيد والمعرفة الحقيقية لله من مظاهر خلقه، ومن هنا يمكننا الإطلالة على البعد العبادي في سلوك درب العلم من وجهة نظره حيث يقرِّب العلم البشرية من الله بإبقائها على تماس مع عظمة جمال وإعجاز مظاهر خلقه، وتماماً على قاعدة الآية الكريمة: " إنما يخشى الله من عباده العلماء ".

2- الاستلهام من مشروع الإمام الراحل الخميني:

في الذكرى الثالثة لرحيل الإمام الخميني (قده) في 2 ذي الحجة 1413 هجرية حدّد الإمام الخامنئي معالم خط الإمام الخميني بأنه السلوك والمنهج الحكومي لإمام الأمة المفسّر لنظام الجمهورية الإسلامية، والمشتمل على الخصوصيات الإحدى عشر. ومما يعنينا في بحثنا بجانبه العلمي، نورد الأسس والمنطلقات التي تحرّك منها الإمام الخامنئي في نظرته لتطوير الأمة علمياً وتقنياً، وفيها إعطاء الأهمية لقدرات الشعوب واعتبارها مبدءًا من المبادئ، فالإمام الخميني كان يعتقد أن التحولات الكبرى في العالم لا تحدث إلا على أيدي الشعوب، وتستطيع الشعوب أن توجد التحوّل في الدنيا وتغير المحيط الذي تعيش فيه.

الرؤية العلمية عند الإمام الخامنئيأكّد الإمام الخامنئي على الحرص والتوجّه الصارم للإمام الخميني لإعادة بناء البلاد وتقديم نموذج عملي للعالم، ولهذه المسألة موضع مهم في نظر الإمام الراحل في الشهور الأخيرة من حياته المباركة، وهو أصرّ على بناء البلاد اقتصادياً وعلى كل المستويات وبلحاظ تأمين الدخل العائد للشعب وللدولة، حتى نتمكن من أن نقدّم نموذجاً عينياً وعملياً من البناء الإسلامي.

أما بالإطلالة على المشهد الاستراتيجي للمنطقة ككل، فإن بعض المؤرخين يعتبر أن هناك حدثين حصلا بعد الإمبراطورية العثمانية: الأول نشوء الكيان الصهيوني، والثاني نشوء الجمهورية الإسلامية في إيران، فمنظومة المنطقة محورها إسرائيل، وإيران عامل مساعد لأميركا وإسرائيل.

من هنا كان الأمر إعطاء إسرائيل أقصى مدى من الاقتدار العلمي والسياسي والإعلامي والعسكري والأمني، وأن يكون لها الوجود المتفوق في المنطقة والوجود المؤثر والوجود الطاغي، أما بقية دول المنطقة فهي دول مساعدة وليس لها وجود أمام إسرائيل، لذلك كان واضحاً تماماً أن تكون الاستراتيجية الغربية بجانب إسرائيل، ومن جهة ثانية منع الحرب على إسرائيل وسلب قدرة الدول العربية على الاستقلال في امتلاك السلاح، أي سلب قدرتهم على أن يكونوا دولاً منتجة لا دولاً علمية وسلب قدرتهم على الاستقلال الاقتصادي والمادي حتى على صعيد الإنتاج، وسلب قدرتهم حتى على إنتاج الأمور الضرورية البسيطة ووضع اليد على منابع الثروة في المنطقة، هذه سياسات الغرب، والتي ردّت عليها الجمهورية الإسلامية في إيران بالدور والمهمة والرؤية والهدف، وقد اعتبر الإمام بكلماته أن المشكلة الرئيسية هي إسرائيل وحدّد مصادر الخطر والتهديد ليس على إيران وحدها، بل على شعوب المنطقة وعلى ثروات المنطقة.

إن المشهد برمّته يوحي بأن المواجهة مع أميركا ليست بالأمر السهل، وأن الأمة مثقلة بجراح التاريخ في استعماره القديم واستعماره الحالي المقنع والذي يستهدف إنتاج نفوس تابعة مستهلكة لا منتجة، إن هذا التحدّي يتطلّب شحذ الهمم والتوجّه بكامل الإصرار والجدّية نحو الأخذ بأسباب القوة، المنطلقة من سلاح العلم والمعرفة، والموصل للتكنولوجيا التي تحقّق هذه القوة وتعطي المنعة والردع للأعداء فيما لو فكّروا بإعادة الجمهورية إلى موقعها السابق في المنظومة الأميركية التي تجعل من إيران وسائر الدول العربية ملحقاً لخدمتها.

بالعودة إلى جذور المرتكز الثاني ذي المعالم الواضحة في المشروع السياسي للإمام الخميني الراحل، فقد حدّد الإمام الخامنئي التناقض الذي تعيشه الأمة في خطاب، جاء فيه:

 "تحتل إيران موقعاً استراتيجياً حساساً على خارجة العالم، وإن بلداً يتمتّع بمثل هذا الموقع الجغرافي والطاقات والمصادر الطبيعية والإنسانية والمعدنية، من شأنه أن يكون من أكثر البلدان تقدّما وثراءً في العالم، إلا أن الحكومات القاجارية والبهلوية كانت تتحول إلى حكومات متخلّفة وعميلة تتسم بالذل والهوان، يتحمّل المسؤولية أولاً الحكّام الفاسدون وغير الأكفّاء بالدرجة الأولى، فهم لم يكونوا يهتمون إلا بحياتهم الشخصية وبما يحفظ استمرار مراكزهم ومصالحهم وقبولهم بإملاءات المستعمر والغربي.

لقد رفض الشعب هذه السياسة وانتفض كحركة الميرزا الشيرازي وآية الله المدرّس، ثم كانت النهضة المظفّرة للإمام الخميني حيث الجمهورية الإسلامية الآن بقدراتها رفعت لواء المعنويات الكبرى عالياً: السعادة والأمان والتقدّم العلمي والاستقلال، وقد ثبت أن ذلك أمر ممكن رغم أن الاستكبار يعتبره ادعاءً مبالغاً فيه، لأنه سوف يبطل فلسفاتهم ويسقط أساليبهم.

فبلوغ ذرى التقدّم العلمي عندنا سوف يفتح الباب واسعاً أمام شعوب العالم للانطلاق نحو الحياة الكريمة والفضلى، والغرب سوف يحبط محاولاتنا، فيما عزمنا وعزم شعبنا هما راسخين ولسوف نواصل المسيرة بكل ثقة بطاقات شبابنا".

إن إحدى ضرورات الأخذ بالعلم والوصول فيه إلى درجات الأمم المنافسة تظهر في كلام الخامنئي في شعوره والأمة كلها معه بالاستفزاز في الكرامة والقدرة لهما، وباستخدام الغرب معايير التفوق والعنصرية والاعتدال ووصم خصومه بالإرهاب والتطرّف في كل مرة يصطدم الغرب بحركات استقلالية استنهاضية تريد شق طريق خارج عن التبعية للاستعمار، فقد دفع الشعب الإيراني غالياً ثمن حريته وكرامته وتعرّض لحصار غير مسبوق في التاريخ جاوز الثلاثين عاماً ولا يزال أمام صمت مريب لكل قوى الديمقراطية في العالم، فمعايير الاعتدال والديمقراطية إنما تطبّق داخل دول الغرب وفي العلاقات بينها، ولكن الأمر يختفي فجأة وتتعطّل كل القيم الإنسانية وتحديداً قيم الحق والعدالة والحرية عندما يبدأ تعاطي الغرب مع دول الاستضعاف، أو عندما تواجه الدول الإسلامية الكيان الصهيوني المزروع أصلاً في قلب العالم الإسلامي كلك، فقد وصف الإمام الخامنئي عنجهية الغرب هذه واستفزازه للأمة بالقول:

"لقد وجّه الغرب العديد من الإهانات لشعب وحكومة إيران، فقد قال أحد الأميركيين يجب استئصال جذور الشعب الإيراني، وقال آخر لاحقاً: إن الإيراني الجيد والمعتدل هو الإيراني الميت، هكذا أهين الشعب وفرضوا عليه الحصار لمدة ثلاثين سنة، وانتهى الحظر لصالح الشعب والحكومة في إيران فيما ذنب هذا الشعب دفاعه عن هويته واستقلاله".

ولعلّ ذكر هذه السطور إنما بغرض الإشارة إلى أن الإمام الخامنئي إنما يريد استثارة الحمية الشخصية والوطنية والإسلامية لتعزّز حافزية الأخذ بالعلم، وشحذ الهمم للانطلاق بالعلم وتوجيه رسالة للغرب ولسائر الأمم إلى موقف المسلمين من العلم وقدرتهم على التعاطي معه بكفاءة عالية وصولاً إلى تقديم نموذج تحثّ به إيران كل الدول المستضعفة أن تحذو حذوها في التحرّر والاستقلال وصناعة القرار الوطني بكل كرامة واقتدار.

3- رسالة الجمهورية الإسلامية والدور المناط بها إنسانياً وعالمياً:

في كلام الإمام الخامنئي في خطبة له بحضور وزير العلوم وأساتذة جامعة طهران حدّد إحدى مرتكزات رؤيته للعلم بالقول: "إن الثورة قامت على أساس العلم"، قاصداً كل العلوم اللازمة لإنجاح الثورة: علوم الدين وعلوم الدنيا، وقد جرى تسخير كل العلوم في اتجاه الهدف الإنساني والعالمي للثورة، نافياً بذلك كل ادعاء لمسافة أو اتهام بأن الثورة تجافي العلم والتطور والتنمية، ولم تكن تلك الادعاءات إلا في إطار الحرب النفسية ضد الثورة ومحاصرتها أمام جمهور الناس عندما أسقط في يد أعدائها وتبيّن لهم أن الثورة ليست انقلاباً على السلطة أو مجموعة من مجازفين أو ضباط يريدون إزاحة أطراف ومصادرة مناصبهم. ثم يتابع الإمام في نفس الخطبة ليحدّد توجّهات الثورة واهتماماتها داخل الجمهورية وخارجها، ويربط بين الأهداف السامية للثورة ومتطلبات ترجمة هذه الأهداف ومواجهة التحدّيات المتحرّكة في الزمان والمكان: "فقضية دولتنا وثورتنا ونظام الجمهورية الإسلامية في عالم اليوم ليس متعلّقاً بدولةٍ أو شعبٍ من بين عدة مئات من الشعوب الأخرى. لا شكّ بأنني في بعض الأحيان أذكر في محضر تجمّع ما أن أرضنا تمثل واحداً في المئة من مجموع دول العالم، وعدد سكاننا يقارب الواحد بالمئة من المجموعة البشرية في هذا العالم؛ ولكن القضية لا تتعلق بقناعتنا بالواحد بالمئة في غيرها من القضايا. فنحن لدينا رسالة. إيران الإسلامية لها رسالة أكبر من هذه الكلمات. لا علاقة للأمر بفتح البلاد والهيمنة أبداً. فلا يرد في خاطر أي إنسان مسلم أن يكون فاتحاً للبلدان؛ بل القضية قضية الرسالة تجاه البشرية. فالبشرية اليوم وكذلك في الأزمنة الماضية تعاني من ابتلاءات كبرى. مثلما أن لكل واحد منا مسؤوليات مشتركة تجاه أسرته ومدينته ووطنه، وإذا كنا نستطيع أن نفعل شيئاً لبلدنا ولم نفعل نكون قد ارتكبنا ذنباً؛ فإذا كنا نستطيع أن نزيل غبار الهم عن وجه شعبنا فقد ارتكبنا معصية؛ ونفس هذه القضية موجودة بشأن البشرية. فلو رأينا أن الناس في العالم يعيشون تحت ظل نظام سياسي باطل وقمعي وكنا قادرين أن نتقدم خطوةً من أجل نجاتهم ولم نفعل فنكون قد أذنبنا. فإذا رأينا أن قسماً مهماً من سكان العالم يعانون من الجوع والفقر والعوز وهم غرضٌ للبلاءات، وكنا قادرين أن نفعل شيئاً ولم نفعل فإن هذا يُعدّ ذنباً. وبهذه النظرة ينبغي أن نتطلع إلى قضايا البشرية وقضايا العالم. إذا كان هذا الأمر هكذا ينبغي أن يكون هناك بلدٌ مقتدر؛ فينبغي أن يكون الشعب والدولة ومؤسسات النظام والبلد قوية ومقتدرة. إذا لم نكن مقتدرين فإن القوى العالمية ستؤثر فينا، ولن يبقى مجالٌ لكي نؤثر حتى في جيراننا أو مواطنينا، فماذا بشأن كل البشر. فيجب الحصول على القدرة. ولا شكّ بأن هذه القدرة ليست في الآلات العسكرية. حتى أنها ليست في القدرة على الإنتاج والتقدّم التكنولوجي.

فما هو مهمٌ بالدرجة الأولى في إيجاد القدرة الوطنية هو بنظري شيئان: أحدهما العلم والثاني الإيمان. فالعلم أساس القدرة؛ سواء اليوم وعلى مر التاريخ؛ وسوف يبقى الأمر كذلك في المستقبل. إن هذا العلم يؤدّي أحياناً إلى ابتكار أو اختراعٍ ما وفي بعض الأحيان لا يكون كذلك. وكذلك المعرفة فإنها أساس الاقتدار؛ وهي تخلق الثورات؛ وتؤدّي إلى الاقتدار العسكري والسياسي. ففي رواية قيل: العلم سلطان من وجده صال به، ومن لم يجده صيل عليه. أي أن للقضية بعدين: إذا كنتم تمتلكون العلم يمكن أن تكون لكم الكلمة العليا واليد العليا –(صال) يعني هذا – وإذا لم تمتلكوا ذلك فلا يوجد حالة برزخية بل صيل عليه، فالذي يمتلك العلم يكون له اليد العليا عليكم؛ وسوف يتدخّل في ثرواتكم وفي مصيركم. وإن كنوز المعارف الإسلامية مليئةٌ بمثل هذه الكلمات...".

الرؤية العلمية عند الإمام الخامنئيلقد كانت ثمرات الثورة الإسلامية أنها كانت شعلة الأمل الحقيقية لتجربة نموذجية ورائدة ينطلق بها المجتمع والدولة نحو نهوض حقيقي بعد حقبات من الظلام والتخلّف، نهوض يسمح لها بقول ما تريد للعالم، ويسمح لها بدعوة العالم إلى دين الله وتقديم التجربة الإسلامية الحقيقية بعد قرون وقرون من العبث والتخلّف، وليس الدافع فقط ما يحقّقه العلم من ثراء وقوة ونفوذ سياسي أفضل في عالم السياسة، وإنما ثمة دافع ديني شرعي يعيش في أعماق كل مسلم لتقديم المثل الحي لدولة العدل الإسلامية، هذه التجربة التي يحلم بها السائرون على نهج الإسلام الحقيقي والتوّاقون لتجسيد مدرسة النبوة وأهل البيت، والتي لم تسمح لها التطورات التاريخية داخل البنية الإسلامية من الظهور والتعبير عن نفسها وتقديم التجربة بالحد الأدنى، إن الوصول إلى هكذا حلم شجاع متوقد لن يكون بالأماني وبرجز الشعر وإنما بالكفاح والعمل استناداً لرؤية علمية تعي العلم سلاحاً وتتعاطى مع العلم كسلطان حاكم، من امتلكه صال به ومن نأى عنه صيل عليه، وليس أبلغ من تعبير "صال به" ليصف الإمام حال الدول المستكبرة كيف تصول وتجول وتتحكّم بمعايير الحق والعدالة وتبث مفاهيم ترفض تعريفها دولياً كمفهوم الإرهاب مخافة أن ينطبق المفهوم على الكيان العنصري الصهيوني وكل ذلك يجري بامتلاك سلاح العلم والتقانة وحرمان الآخرين منه في احتكار ظالم، كثيراً ما ولّد الثورات المتنقلة في العالم، في تأكيد أن العلم وسلاح العلم بمفرده لم يكن يوماً ليجلب السعادة والاستقرار للإنسانية والشواهد أكبر من أن تحصر في هذه السطور.

إيران التي سبق وتحدّث عنها الإمام فيقول: "إن العلاقات الدولية تقوم على الغلبة والقوة، فالقوى الدولية تملي قراراتها على الآخرين استناداً إلى ما تملكه من قوة وسيطرة بعيداً عن العقل والمنطق، وأما جريرة العديد من الحكومات أنها ترضخ لمثل هذه القوة بلا أدنى رفض أو مقاومة، ولذا، أصبح من الشائع أن تقوم الغطرسة على القوة، وخير مثال على ذلك قضية الطاقة النووية ومسألة الشرق الأوسط، إن العلم هو الذي يرقى بالبلدان إلى ذروة القوة والاقتدار واكتساب العلم والمعرفة هو الذي يوصل إلى الاستقلال والكرامة ونبذ التبعية".

ثم يشدّد في موقف آخر على الدور المفصلي للعلم في التحرّر والانطلاق نحو صناعة بلد آمن ومستقبل مشرق فنراه يقول: " فما هو السبيل للحصول على هذه القوة (الاقتصادية والسياسية والنفوذ الثقافي)؟ إن أصل وأساس كل ذلك هو القوة العلمية! إنّ الشعوب التي تتمتّع بالقوة العلمية هي التي تستطيع إيصال صوتها إلى جميع سكان المعمورة، وأن تستحوذ على سياسة أقوى ونفوذ سياسي أفضل في عالم السياسة، ومن هنا ينتعش الاقتصاد، فالمال مصدره القوة كما هو الحال في هذا العصر.

إنّ من الممكن أن يتحوّل إلى ثراء فيرتفع المستوى الاقتصادي.

وهي هي أهمية العلم والمعرفة.

لقد تأخرنا علمياً، ليس فقط خلال مرحلة الخمسين عاماً من الشؤم في العصر البهلوي (حيث جرّدوا هذا الشعب من كل مكتسباته العلمية خلال تلك الفترة، وهي قضية مهمة تحتاج إلى تحليل تاريخي واجتماعي) بل وحتى قبل ذلك.

إنّ الحقبة القاجارية والبهلوية هي مظهر هذا التخلّف العلمي.

ولكننا نبذل قصارى جهدنا اليوم لإصلاح ما فسد.

إن واجب جميع الجامعات هو أن تعمل بجد على سد هذا الفراغ العلمي، وأن ترفع من مستوى أدائها الدراسي قدر الإمكان ".

وفي مطالعة خطب الإمام عن العلم، يتوقف المرء أمام التكرار لأهمية العلم وربطه بالدور المناط بالجمهورية إقليمياً وعالمياً، ويمكننا فهم هذا التكرار تشديداً في ربط توجّه الأمة نحو العلم، وإثارة الأجواء نحو الجهاد العلمي الذي دعا إليه والذي كنا قد بينّاه في الفصول السابقة، فيقول في خطبة أمام رؤساء الجامعات ومؤسسات التعليم العالي ومراكز الأبحاث

 "مع أن الحديث عن العلم أصبح مكرراً، إلا أنه في الوقت نفسه يحتاج إلى التكرار وعلينا أن نتكلّم بملء أفواهنا وبكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، بالقدر الذي يكون كافياً للإيمان بهذه المسألة الضرورية، ونقوم بإنقاذ البلد من المرض المزمن الذي أُبتلي به على مدى العهود المتمادية، ليتجه نحو الاهتمام بالعلم والتركيز على البحث.

بناء على ذلك، فإنّ العلم هو مسألة حياتية بالنسبة لحاضرنا ومستقبلنا، فإذا ما افتقرنا في المجال العلمي، فإنّ أي عمل آخر نقوم به، سوف يكون عقيماً ومن ودون نتيجة.

إنّ طاقتنا البشرية للغور في ميدان العلم، والتقدّم فيه طاقات جيدة، فهي أفضل وأعلى من معدّل الطاقات التي يمتلكها أفراد العالم، وهذا يعتبر من المسلّمات في الوقت الراهن ".

فالرسالة التي تحدّث عنها الإمام والتي استعرضناها في أول الفصل تبدأ إرهاصاتها في إنقاذ البلاد من براثن الجهل والتخلّف، ثم لتنطلق في مراكمة المعرفة والتجربة والبحث العلمي وصولاً إلى التأثير وقيادة الأمة نحو النجاحين اللذين ينتظرانا: نمو وتقدّم في الداخل وتقديم النموذج لسائر الأمم، وصولاً إلى التدخّل لإحقاق الحق الدولي ومنع الباطل الدولي. ثم يعطي الإمام النموذج الحي عن عقبات تحقيق رسالة؛ فرسالة إيران هي اكبر من هذه الكلمات: منع الظلم في العالم، تحقيق العدالة بين الأمم، مساعدة الأمم الضعيفة على النهوض، لأجل ذلك ينبغي أن تكون إيران بلداً مقتدراً، مؤهلاً للقيام بهذا الدور العظيم ولأجل ذلك يتطلب الاقتدار الوطني العلم والإيمان: العلم يؤدّي للثروة والاقتدار السياسي والعسكري... هذا هو تفسير رواية: العلم سلطان، فمن يمتلك العلم يمتلك اليد العليا، وهذه اليد إمّا لكم وإمّا عليكم ولا حالة برزخية، وإذا خسرتم ميدان العلم فستجدون من يتدخل في قراركم وثرواتكم وفي مصيركم... بهذه الكلمات حدّد الإمام أخطر وأوضح المرتكزات التي يؤسّس عليها رؤيته للعلم: العلم معيار الغلبة أو الهزيمة وهو يتحرك بالتكامل مع معيار الإيمان الذي يقود نحو الإرادة ثم كسر الموانع نحو تحقيق النصر من خارج الموازين الوضعية.

ويحذّر الإمام في إحدى الخطب السابقة من الاعتماد على الآخرين في طلب العلم، فيصف العلم بأنه "أساس التقنية المتطورة وتقدّم الحضارة المادّية والمدنية المتعلقة بالمسائل الحياتية، ولو كان همّكم الاعتماد على الآخرين في هذا العلم والقيام بعملية الاستهلاك فسوف لا تتمكنوا من تحقيق أي هدف"؛ فالعلم ليس سلعاً استهلاكية نستوردها، بل على الأمة إيجادها وإلا حرمت منها، وهذا هو تماماً ديدن الغرب في التعاطي مع ملف الطاقة النووية السلمية لإيران: لا يريد الغرب امتلاك إيران لتقنية الطاقة النووية السلمية لكي تبقى محتاجة لهم وأسيرة قرارهم السياسي يعطوها متى رضوا ويحرمونها متى خرجت إيران من منظومتهم السياسية والاقتصادية".


لمشاهدة الحلقة الاولى

الرؤية العلمية عند الإمام الخامنئيالرؤية العلمية عند الإمام الخامنئيالرؤية العلمية عند الإمام الخامنئيالرؤية العلمية عند الإمام الخامنئي
الرابط على موقع التعبئة التربوية