انتقد السفير السعودي في لبنان علي عواض عسيري أداء دار الفتوى التي «يجب أن تكون صوت الاعتدال السنّي»، معتبراً أن إضعافها لا يخدم لبنان.
لا تصريحات نوّاب تيار المستقبل التي هاجمت المفتي محمد رشيد قباني تفتّ في عضده، ولا «غزوة الخاشقجي» والتجييش ضده أفلحا في تليين مواقفه. هو، حتى منتصف أيلول المقبل، «المفتي الشرعي والوحيد» للجمهورية اللبنانية. بعد هذا التاريخ، قد يصبح التمديد للرجل مطلباً لمن يحاربونه اليوم .
تنتهي في 15 أيلول المقبل ولاية مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني. في الأحوال العادية، يلتئم المجلس الاسلامي الشرعي ويدعو الهيئة الناخبة الى انتخاب مفت جديد. أما في ظل انقسام المجلس الى اثنين، أحدهما منتخب تابع للمفتي والثاني ممددة ولايته موالٍ لتيار المستقبل، فإن الأمور قد تنحو منحى آخر ربما ينتهي بـ... التمديد للمفتي الحالي.
يبدو هذا السيناريو واقعياً للغاية. فأعضاء المجلس التابع لتيار المستقبل يؤكّدون أنهم في 15 أيلول سيمارسون واجبهم بالدعوة الى انتخاب مفت، ويتهمون قبّاني بالسعي الى التمديد عبر المجلس الحالي «غير الموجود أساساً، بحسب قرار مجلس شورى الدولة»، كما يقول عضو المجلس الممدّد له محمد سعيد فواز، فيما ينفي المقربون من المفتي، في المقابل، هذه «التهمة» في شكل قاطع، وينقلون عن الرجل أنه «لن يبقى في منصبه لحظة واحدة بعد انتهاء ولايته»، و«لن يطلب من أحد تمديد ولايته»، لافتين الى أن «أعضاء المجلس الشرعي المنتخب أكدوا رفضهم مبدأَي العزل والتمديد».
المدير العام للاوقاف الاسلامية الشيخ هشام خليفة لا يستبعد، في اتصال مع «الأخبار»، أي احتمال. «كل شيء وارد»، يقول. ويشير الى أن الأشهر المقبلة «ستشهد بالتأكيد تصعيداً سياسياً وقانونياً وشعبياً» من كلا المجلسين، من دون أن يستبعد، أيضاً، احتمال أن يكسر المجلس المؤيد لتيار المستقبل العرف المتداول منذ أيام السلطنة العثمانية بانتخاب مفت من بيروت عبر انتخاب مفتي طرابلس والشمال مالك الشعّار خليفة لقباني.
إلا أن في أروقة دار الافتاء من يرى أن التمديد لقبّاني، على رغم الخلاف المستحكم بينه وبين تيار المستقبل، قد يصبح «ضرورة إقليمية ومحلية»، لافتاً الى أن هناك آلية قانونية تسمح بالتمديد لسيد دار الفتوى ثلاث سنوات. في رأي هؤلاء، لطالما تطلّب انتخاب مفت جديد للجمهورية اللبنانية توافقاً بين الدول الاقليمية، كالسعودية وسوريا ومصر. ويذكّرون بأن قباني بقي قائماً بمقام المفتي سنوات عدة (1989 ــــ 1996) الى ان تم التوافق الاقليمي، وهو ما يبدو بعيد المنال في ظل المناخات العاصفة في المنطقة، وهذا ما سمعه معنيّون من وفد من الأزهر زار بيروت أخيراً، مقترحاً التمديد لقباني.
كذلك فإن انتخاب مفت يتطلّب اتفاقاً بين الأطراف الداخلية في الطائفة السنّية، الأمر غير المتيسر حتى الآن في ظل انقسام الهيئة الناخبة وعدم قدرة أي طرف على تأمين النصاب اللازم لانتخاب مفت. وحتى في حال تم تأمين النصاب للمجلسين الشرعيين، المنتخب والممددة ولايته، أو لأي منهما، فستكون النتيجة انتخاب مفت مستفزّ للطرف الآخر، لأنه «في لبنان لا يوجد حياديون، وغالبية قضاة الشرع يطمعون بالمنصب، ما يؤثر على تعاطيهم في الملفات التي يواجهونها، ويجعلهم تحت تأثير الأطراف السياسية الفاعلة». ولأنه، في انتظار جلاء الصورة الاقليمية أيضاً، «ليس من مصلحة أحد الإتيان بمفت استفزازي، فإن المفارقة في أن الحل قد يكون في التمديد للمفتي الحالي الذي أشاد الوفد الأزهري بسياسته التوافقية».
ويلفت أصحاب هذا الرأي الى أن قباني، الذي شكّل في مرحلة من المراحل غطاءً شرعياً لتيار المستقبل، لعب مع احتدام الاحتقان الطائفي دور «الاطفائي». يعدّد هؤلاء «قطوعات» عدة كان يمكن أن تقود إلى انفجار مذهبي لولا مبادرة المفتي الى تهدئة النفوس، من التعرّض لشيخين من دار الفتوى في منطقة الخندق الغميق وحلق لحيتيهما بداية العام الماضي، وصولاً الى إدانته العمليات الانتحارية التي استهدفت مناطق البيئة الحاضنة لحزب الله. ويسألون: «هل يمكن تخيّل كيف سيكون الوضع لو أن سيد دار الفتوى جارى الخطاب المذهبي السائد؟».
وترى المصادر نفسها أن الانفتاح الحريري الأخير على المشاركة مع حزب الله في حكومة جامعة، معطوفاً على الردّ الصارم الذي أصدره الرئيس سعد الحريري أول من أمس على بيان «جبهة النصرة» واصفاً إياه بـ«المشبوه»، يثبت صوابية «المواقف التوافقية» التي انتهجتها الدار بعيداً عن الانسياق في سياسة التجييش المذهبي. وتميّز هذه المصادر بين مواقف الرئيس الحريري ومواقف النائب فؤاد السنيورة، مشيرة الى «امتعاض الحريري من إدارة السنيورة التي اتخذت طابعاً شخصياً لملف المفتي»، ولافتة الى أن السنيورة يريد «الإتيان بمفتٍ تُويبع (تصغير تابع) ليوصلهم الى 7 أيار آخر».
وترى أن «تواصل الحريري مع مستشاره نادر الحريري ورئيس حرسه عبد العرب والنائب معين المرعبي لإخراج المفتي من جامع الخاشقجي عندما كان محاصراً فيه أثناء تشييع الشهيد محمد الشعّار، كان رسالة إيجابية». وفي السياق الايجابي نفسه، تندرج زيارة المسؤول في تيار المستقبل محمد بركات الى المفتي للاطمئنان اليه بعد «غزوة الخاشقجي». أما زيارة وفد ضم 250 رجل دين من تجمع العلماء المسلمين (المقرّب من حزب الله) لدار الفتوى بعد حادثة الخاشقجي، فتؤكّد مصادر الدار أنها لم تكن «رسالة من حزب الله أو من المفتي ضد خصومه السياسيين»، بل «من باب اللياقات الادبية التي لم يقطعها الحزب ومن يدور في فلكه يوماً، حتى عندما كان الخلاف السياسي بين المفتي وحزب الله في أوجه».
وتعلّق المصادر آمالاً على تعاطي الرئيس المكلّف تمّام سلام مع هذا الملف، في المرحلة المقبلة، «بسعة أفق واستيعاب لكل الاطراف»، على رغم أن للمفتي عتباً كبيراً على سلام الذي هدّد في شهر رمضان الماضي بعدم حضور إفطار أقامته جمعية المقاصد إذا بقيت دعوة قباني الى الافطار قائمة. كذلك فإنه، في أحد واجبات العزاء، غادر المجلس بسرعة فاجأ بها مرافقيه عندما علم أن المفتي كان على وشك الحضور. لكن «ابن المصيطبة»، بحسب المصادر، الذي «كان طوال الفترة الماضية حريصاً على إعطاء كل الفرص لتشكيل حكومة وفاقية، يفترض أن يكون توافقياً وحيادياً في موضوع دار الإفتاء».
من جهتها، تلفت مصادر سلام الى أن الرئيس المكلف تنتظره، بعد تشكيل الحكومة، ملفّات محلية وإقليمية شائكة «لن يكون ملف دار الفتوى من بينها»، لافتة الى أن «رؤساء الحكومات السابقين عرضوا حلولاً لمشكلة دار الفتوى وهو ما سنلتزم به».
قبل نهاية العام الماضي، عرض رئيس تحرير جريدة «اللواء» صلاح سلام، القريب من تيار المستقبل، مبادرة على مفتي الجمهورية، تتضمن نقاطاً عدة منها: مصالحة قباني ورؤساء الحكومات السابقين، التوافق على انتخاب مجلس شرعي جديد، والتزام المفتي بعدم التعاطي في الشأن السياسي. رفضت الدار المبادرة لأنها كانت «فردية وتضمنت الاعتراف بالمجلس الشرعي المنتهية ولايته، وهو ما نرفضه كلياً»، ليبقى الخلاف حول دار الفتوى قائماً، وكل الاحتمالات مفتوحة، في انتظار الموعد الفصل في أيلول المقبل.
الرياض تنتقد أداء دار الفتوى
انتقد السفير السعودي في لبنان علي عواض عسيري أداء دار الفتوى التي «يجب أن تكون صوت الاعتدال السنّي»، معتبراً أن إضعافها لا يخدم لبنان. وسأل عسيري، في حديث إذاعي: «أين هي دار الفتوى؟ ومن الذي أفسد هذه الدار بعدما كانت تعتبر الصوت المعتدل؟». وقال: «أداء دار الفتوى اليوم لم يعد كما كان، وهو يجب أن يعادل دور بكركي. نحن نعرف من هو المتآمر على أداء الدار الفتوى، وحاول أن يؤثر على أدائها الديني والروحي»، محمّلاً «أطرافاً خارجية غير لبنانية مسؤولية ما يجري في دار الفتوى»، وقال: «إن المفتي جيد ومؤهل، ولكن يجب ألا يكون هناك أي صبغة على مؤسسة دار الفتوى نفسها، ويجب المحافظة على مؤسسات الدولة للحفاظ على الدولة. ونحن نطالب بصوت معتدل لمواجهة التطرف».
الهيئة الناخبة
تتألف الهيئة الناخبة الموكلة بانتخاب مفت جديد من نحو 140 عضواً هم رؤساء الحكومات الحالي والسابقون، الوزراء السنّة الحاليون، النواب السنّة الحاليون، المديرون العامون، رؤساء الجمعيات الاسلامية، القضاة العدليون، القضاة الشرعيون، أئمة المساجد، شيوخ القراء، ومعلمو الفتوى. ويتطلب انتخاب المفتي نيله أصوات ثلثي أعضاء الهيئة.