انتقال المواجهة مع المشروع الإمبريالي إلى داخل أسوار الدولة المقاومة في سوريا وتجلي التحالف الصهيو – أميركي – التكفيري، منح مشروع «تشبيك البحار الخمسة» الفرصة التاريخية لإظهاره بديلاً يفرض نفسه
مع بدء الأحداث في سوريا، وبروز مدى مركزية سوريا في مجالها الطبيعي والترابط العضوي بين مكونات الكيان السوري الطبيعي (الأردن، لبنان، فلسطين) والعراق من جهة، وحجم التداخلات والتفاعلات البينية التي فرضتها قوة الواقع التاريخي المحكوم بفضاء جيوسياسي يشمل كل هذا المشرق من جهة أخرى، ترسخت حقيقة «الكينونة المشرقية» ومحورية سوريا ضمنها.
عبد الله بن عمارة/ جريدة الأخبار
إلا أنّه في هذا الخضم من المستويات المتباينة للتنظير لهذه الحقيقة، قليلاً ما يكون التطرق إلى الفكرة التي تقع في صلب هذا النسق، وهي نظرية «تشبيك البحار الخمسة»، التي أطلقها الرئيس السوري بشار الأسد قبل بدء الأحداث في سوريا، والتي لم تحظ ببحوث تدرس كل مضامينها.
ليست الرؤية المشرقية غريبة على الدولة السورية منذ عهد حافظ الأسد، الذي رسّخ الفكرة القومية العربية كإيديولوجية ناظمة لآليات الحكم في الدولة وكهوية جامعة متكئة على البيئة السورية الطبيعة وتراثها الحضاري القديم، والحديث كمنبع للحداثة العربية في إطارها الأدبي واللغوي منذ القرن التاسع عشر كمرحلة ابتدائية محورية في صيرورة انبعاث الذات العربية في العصر الحديث، والتي تعتبر اللغة من أهم مقوماتها، كما في إطارها الإبداعي التنويري في مجالات الثقافة والفنون وبالأخص الصحافة... إلخ.
وحكم سوريا من منطلق وعيه بكينونتها المشرقية ذات المجال الحيوي الطبيعي الذي يتفاعل مع باقي أجزاء المشرق، لكن الرئيس بشار الأسد بلور هذه الرؤية في إطار نظرية استراتيجية، بعدما واجه استحقاقات أكبر وأخطر في سياق هذا التموضع الحتمي لسوريا في مواجهة المشاريع الاستعمارية ككيان مجروح في «هويته القلقة» والممنوع بقوة هذه المشاريع من الانتظام في إطار دولة – أمة في حدود سوريا الطبيعية. تمثل هذا الاستحقاق في التصدي لأقوى هجمة استعمارية تعرفها المنطقة لإعادة رسمها جيوسياسياً بما يخدم مصالح المشروع الإمبريالي الأميركي بدأت باحتلال العراق.
نبع هذا المشروع «الشرق الأوسط الكبير» من قريحة العقل التوسعي الغربي ذي الحمولة الفكرية النابعة من حقل معرفي أساسه الفكر الكولونيالي البريطاني في بداية القرن العشرين المشبع بالرؤية الاستشراقية، المؤطرة ضمن بنية قائمة على الاستعلائية الحضارية والمركزية الغربية، والذي تطور ضمن نفس هذا النسق ليصل إلى ذروته كمفهوم إمبريالي يغذي طموحات العقل الإمبراطوري الأميركي في عهد المحافظين الجدد، والذي لا ينظر إلى هذا المشرق إلا من زاوية تصنفه إلى هويات جزئية متصارعة، إثنية أو دينية أو مذهبية مجردة من أي رافد حضاري قابل للانتظام في إطار دول وطنية حديثة. دعم هذا المشروع كل خطاب ينزع نحو التقوقع داخل الجدران الدوغمائية للطائفة الطامحة إلى الانتظام ضمن كيانات كرتونية والرافضة للآخر المختلف بما يؤسس لمرحلة الاشتباك معه (الفوضى الخلاقة لمايكل ليدن) في ظل هيمنة الكيان الإسرائيلي الوظيفي الذي يصبح وجوده مبرراً، بل وضرورياً وسط كيانات طائفية متصارعة.
وهذا ما يفسر التقاطع المصلحي لكل خطاب طائفي في المنطقة مع الكيان الصهيوني مباشرة (القوى اليمينية الانعزالية في لبنان سابقاً) أو ضمني (القوى التكفيرية حالياً). تصدي سوريا الحاسم لمشروع الشرق الأوسط الكبير في العراق (شكل العراق نقطة البداية في المشروع) من خلال دعم المقاومة العراقية – مع حلفائها في إيران ولبنان – لاستنزافه عسكرياً شكّل استحقاقاً هاماً في صيرورة المواجهة الكبرى معه، لكن الشراكة الكاملة لسوريا في حرب تموز 2006 – التي كانت حرباً أميركية للتعجيل بهذا المشروع – كانت بمثابة الحلقة المفصلية التاريخية التي عجلت بهزيمته (في لبنان بوابته الغربية وفق تعبير السيد نصر الله).
وأمام هذا المشهد المستجد الذي قوامه الإخفاق في حرب لبنان وبداية الحديث عن الانسحاب من العراق، كان لزاماً على العقل السوري، الذي التقط بوادر انكفاء المشروع الأميركي محدثاً فراغاً استراتيجياً واضحاً على مستوى الإقليم، أن يعد البديل لهذا المشروع، منطلقاً من حقيقة محورية سوريا في هذا المشرق كقطب رائد لاستقلال القرار الاقتصادي والسياسي، والمتناقض بنيوياً مع المنظومة النيوليبرالية للمشروع الشرق أوسطي الأميركي، والمتموضع تاريخياً في نسق معادٍ للمشاريع الاستعمارية، منذ تقسيمها لسوريا إلى أربعة كيانات وغرسها لكيان وظيفي معادي لتطلعاتها في قلبها، استثمر العقل الاستراتيجي السوري كل المقومات الجيوسياسية والثقافية والحضارية لسوريا في إطلاق مشروع «تشبيك البحار الخمسة» – البحر الأحمر والبحر الأبيض والبحر الأسود وبحر قزوين والخليج – كتحدٍّ ابستيمولوجي واضح للعقل الكولونيالي الغربي بمضمون حضاري ينطلق من كون سوريا محور التقاء لكل حضارات المشرق القديمة بما تمثله من غنى ثقافي تعددي لكل شعوب هذه المنطقة، وبمضمون اقتصادي قائم على تشبيك المشاريع التنموية المستقلة لاقتصاديات بمقدرات طبيعية هائلة وبقوة بشرية تفوق 200 مليون نسمة، وسياسي قائم على ترسيخ مفهوم الدول الوطنية الحديثة التي تكرس الهويات الجامعة القائمة على أساس المواطنة – في مواجهة الانعزال ضمن حدود الهويات الجزئية – والمنتظمة في مشاريع نهضوية مستقلة عن أي نفوذ إمبريالي (إيران نموذجاً).
مشروع «تشبيك البحار الخمسة» الذي ينطلق من محورية سوريا بما تجسده من ريادية على مستوى مجالها الحيوي – سوريا الطبيعية والعراق – كما الإقليمي والعالمي في تكريس النسق الاستقلالي عن المشاريع الاستعمارية، يطرح اليوم ميكانيزمات التشبيك مع قوى الإقليم المشاطئة لهذه البحار، بما يشكل نواة صلبة لتجمع اقتصادي مستقل بإمكانه أن يشغل حيزاً مهماً في نظام دولي متعدد الأقطاب تظهر إرهاصات تشكله في ضوء الأحداث في سوريا حالياً.
انتقال المواجهة مع المشروع الإمبريالي إلى داخل أسوار الدولة المقاومة في سوريا وتجلي التحالف الصهيو – أميركي – التكفيري، منح مشروع «تشبيك البحار الخمسة» الفرصة التاريخية لإظهاره بديلاً يفرض نفسه، بقوة الدينامية الواقعية التي تطرحه كضرورة حتمية من جهة، ولتناقضه البنيوي مع المشاريع الوظيفية للإمبريالية في المنطقة، التي تتحالف اليوم في سياق صراع صفري وجودي مع الدولة في سوريا من جهة أخرى، لن يكون انتصار سوريا الحتمي في هذه المعركة الكبرى سوى إيذان بانتقال جذري للمشروع من مستوى النظرية إلى مستوى صناعة التاريخ .
انتصار سوريا في هذه الحرب، التي ترسم في ضوئها معالم نظام دولي جديد قائم على التعددية ورفض الهيمنة الأحادية للغرب الإمبريالي ومنظومته النيولبرالية العولمية، هو إعلان بدء وضع اللبنة الأولى لمشروع التشبيك الذي سيترافق مع أول مشروع لإعادة إعمار ما دمرته هذه الحرب، سوف يبلور هذا المشروع المشرقي البديل إطاراً نموذجياً للعلاقات بين الدول والشعوب في هذا المشرق قوامه تشبيك مصائرها بدل اشتباكها.