جماعات مسلحة تكفيرية، نمت وكبرت في عواصم بعض العرب، وغذتها وسائل إعلام، اعتلى منبرها تكفيريو الأرض، جيشوا وحرضوا، حتى اشتعلت المنطقة العربية، وباتت على فوهة بركان.
احمد فرحات
في الذاكرة العربية المعاصرة، أحداث وتطورات طبعت المشهد، وأحدثت إرتدادات، صداها هو ما نعيشه اليوم، تفجيرات متنقلة بين عواصم عربية عديدة، لطالما تفاخرت بأمنها وإستقرارها، والحكاية تبدأ من غزو العراق في العام 2003.
في هذا العام المشؤوم، فتحت دول الخليج ممراتها الجوية والبحرية والبرية لقوات الإحتلال الدولي (الأميركي والبريطاني بشكل خاص)، لغزو بلاد الرافدين، بهدف إسقاط نظام صدام حسين .. نظام خدم دول الخليج وواشنطن في لحظات تاريخية مفصلية قبل سقوط الاتحاد السوفياتي .. ترهل بفعل مغامراته المدفوعة، وبات أمر إسقاطه حتمياً، والغزو سبيلاً لبلوغ غايات جديدة.
أحد أهداف اجتياح العراق وإسقاط دولته، اخضاع النظام السوري في مرحلة لاحقة، وضرب محور المقاومة الممتد من الجمهورية الاسلامية الإيرانية إلى سوريا فلبنان، إضافة إلى تدمير الأمن العربي من بوابته الخلفية ألا وهي العراق، وتفتيت المنطقة العربية إلى دويلات، تحت عنوان ما سمي في حينه "بَلقنة العالم العربي"، والهدف الاستراتيجي الكبير، حماية الكيان الإسرائيلي وفك عزلته، وتأمين ممرات النفط إلى دول أوروبا.
في مرحلة الإحتلال الأميركي للعراق، تحدث العديد من المفكرين عن مشاريع فتنوية ستغزو العالم العربي، وعن تفجيرات ستضرب العواصم العربية وعن اضطرابات ستحدث اثلاماً في الأمصار.
مرت السنون وتبدلت الأحوال، غادر المحتل الأميركي العراق، بعد أن فتح البلاد أمام جماعات مسلحة تكفيرية، نمت وكبرت في عواصم بعض حلفائه من العرب، وغذتها وسائل إعلام، اعتلى منبرها تكفيريو الأرض، جيشوا وحرضوا، حتى اشتعلت المنطقة العربية، وباتت على فوهة بركان.
العراق، سوريا، لبنان، مصر، ليبيا، تونس، دول من المحيط إلى الخليج، غزتها أفكار تكفيرية تفجيرية، حولت البلاد العربية إلى دول غير مستقرة، منهكة القوى، لا حياة إقتصادية فيها، بنيتها الأمنية ممزقة، قواتها الأمنية والعسكرية مستنزفة.
الخبير الاستراتيجي والدكتور في الجامعة اللبنانية طلال عتريسي وفي حديث مع موقع المنار، لفت إلى أن خطورة هذه التفجيرات في أنها بدأت تحول الكثير من البلدان العربية إلى دول غير مستقرة إجتماعياً وسياسياً وحتى إقتصادياً، مشيراً إلى أن هذه المخططات تدخل الجيوش والقوة الأمنية العربية في حالة من الاستنزاف الداخلي، وعلى المستوى القومي تريح العدو الإسرائيلي لسنوات، وبالتالي "فإن القوى أو الجهة التي تقف خلف هذه التفجيرات سواء أدركت أم لم تدرك فهي تخدم المصلحة الإستراتيجية الإسرائيلية".
مصلحة هذا الكيان الغربي في إضعاف الدول العربية ليس خافياً على أحد، تمهيداً لتقسيمها بحسب "وثيقة كيفونيم" الصادرة في العام 1982، والتي حددت السياسيات الصهيونية للسنوات القادمة. ورأت هذه الوثيقة أن بث الكراهية من خلال الخلافات أو الانقسامات هو السبيل الأنجع لتغيير معالم وحدود الدولة العربية، وذكرت أن تفتيت سورية والعراق وتحطيم القوة العسكرية لدى هاتين الدولتين هدفاً اولوياً لـ"اسرائيل"، وهذا ما نشهده اليوم، تحطيم لقوة هاتين الدولتين عبر إشغالهما في معارك مع جماعات مسلحة تكفيرية، تسترت بلبوس المذهبية.
لكن هذا العقل التكفيري الذي نما في أحضان أجهزة ودول باتت معروفة، لا يميز في إجرامه، فالتفجيرات في عواصم العرب، والتي يتوفر لها دعم وغطاء سياسي بحسب الدكتور عتريسي، ليست مذهبية كما يروج البعض، غير أنه يتذرع بهذا الأمر في بعض الحالات كما الحال في لبنان وحتى سوريا بدرجة أخف، لكن هذا الفكر يفجر ويقتل حتى داخل المذهب الواحد في الدول العربية المختلفة، وقال الدكتور طلال إن "الإنتشار الواسع لمثل هذا النوع من العمليات يجعل المعركة مفتوحة معها من قوى واجهزة مختلفة، فالمعركة ليست معركة الشيعة مع التكفير، بل معركة كل الأطراف المتضررة من هذا الإتجاه التكفيري الإنتحاري".
ففي مصر، نلاحظ أن الفكر التكفيري استهدف كل الأطياف الإسلامية التي اختلف معها سياسياً أو فكرياً، وضرب الجيش والمواطنين الأبرياء بالدرجة الأولى، في أسلوب نفسه نراه في العراق وسوريا وليبيا ... تفجير في أسواق مدنية، وأمام المستشفيات، وفي أي مكان تصل إليه يد التكفير والإجرام، وشهدت البلاد عمليات ضد الجيش والشرطة والمدنيين والسياسيين، أسفرت عن مقتل عشرات المواطنين، إضافة إلى وجود جماعات مسلحة، تعمل على تدمير الدولة المصرية وانهاكها واستنزافها.
وفي ليبيا، شهدت بنغازي عملية انتحارية أواخر العام الماضي، قتلت وجرحت العشرات من مدنيين وعسكريين، فيما انفجرت سيارات مفخخة أمام مدارس ومستشفيات في بنغازي أيضاً، أزهقت أرواح عشرات المدنيين الأبرياء.
وفي سوريا، تفجيرات إرهابية، وعمليات قتل ممنهجة، وتدمير للدولة وللإنسان، على يد جماعات مسلحة اتت إلى البلاد من أصقاع الأرض، امتهنت الإجرام، وقطعت الرؤوس، وقتلت الأطفال والنساء والشيوخ، و"لم تترك موبقة واحدة على وجه الأرض إلا وفعلتها".
لبنان لم يستثنى من إنتحاريين ضربوا الجيش والمواطن، وتفجيرات استهدفت دور العبادة، ومسلحين يهددون بالأعظم.
مسلحون معبؤون بفكر تكفيري، غزوا بلدان العرب، وأضاعوا بوصلة الحق، بوصلة فلسطين، أليست القدس اولى بدماء هؤلاء، من تفجير الآمنين، وأليس الذود عن الإسلام ومحاربة العدو الإسرائيلي الهدف الأسمى والمقدس للمسلمين؟
اولم يحرم الإسلام قتل النفس البريئة بغير وجه حق .. من ابتدع الفكر التكفيري وغرزه كالخنجر في تعاليم الإسلام المتعالية؟.
الفكر الوهابي منبع هذه العمليات بحسب الدكتور عتريسي، الذي دعا إلى الإلتفات إلى وجود جهات فكرية تتبع المذهب الوهابي وتتبنى التكفير، لكن لم تذهب إلى حد الدعوة إلى القتل، غير أنه أوضح أن البنية التكفيرية تساعد إلى تحويل التكفير إلى تفجير، والفكر الوهابي أعطى القاعدة الفكرية التي ترتكز إليها كل التفجيرات.
ومن هنا، برزت العديد من الدعوات إلى مواجهة الفكر الوهابي الذي بات يهدد الجميع، وانبرى العديد من مشايخ الأمة على مختلف مذاهبها محذرين من التمادي في التكفير، وهنا نذكر ندوة عقدت في القاهرة في العام 2010، تحت عنوان "الوهابية: خطر على الإسلام والعالم"، طالب فيها المشاركون من علماء الأزهر ومفكرين إسلاميين بضرورة إعداد استراتيجية إسلامية وعالمية ثقافية وسياسية لمقاومة الوهابية، وانها تبث أفكارا وسلوكيات تحض على العنف والإرهاب والكراهية وسهولة التكفير ضد كل من يخالفهم في الرأي.
الملتقى العلمائي الإسلامي العاشر الذي عقد في دمشق قبل أيام تحت عنوان "المسلمون بين التغريب والفكر التكفيري" دعا أيضاً إلى العمل على مكافحة الفكر التكفيري الوهابي المتشدد ومنع ترويجه وانتشاره في أنحاء العالم الإسلامي.