27-11-2024 02:37 AM بتوقيت القدس المحتلة

الخميني العائد ليكتب في التاريخ

الخميني العائد ليكتب في التاريخ

كان رجلاً يبحث عن صناعة أمة، اتفقنا معه أم اختلفنا، أحببناه أم بغضناه، حالفناه أم عاديناه، يبقى أن الخميني كان حقاً رجلاً قال لا في زمن المليون نعم...

علي هاشم / جريدة السفير

الخميني العائد ليكتب التاريخالثائر في السابعة والسبعين. رجل الدين المتمرد على العمائم. الحبيب العاشق الشاعر. القائد العصي على الحروب والذي تُبكيه دمعة مقاتل مودّعاً إلى الجبهة.

السيد روح الله الموسوي الخميني، ومن لا يعرفه، هو الرجل الذي في الأول من شباط العام 1979 كتب فصلاً مختلفاً عما سلف في تاريخ وطنه الأكبر، العالم.

في الطائرة العائدة إلى مطار مهرآباد في طهران، نام الرجل الذي من المفترض ألا تقدر عيناه على النوم. كان كما يقول من رافقه في تلك الرحلة التاريخية، هادئاً كبحر لا تشوبه نسمة، اقترب منه الصحافي الأميركي بيتر جينيغز، بعدما انتبه من النوم ليسأله عن شعوره في تلك اللحظة، نظر الإمام إلى أحد مساعديه وهمس بالفارسية "هتشي"، أي "لا شيء".

الخميني العائد ليكتب التاريخكان الجواب على قصره صاعقاً للصحافي، لكنه كان متوقعاً ممن هم حول الخميني، فالسيد الموغل في سبعينيته من أتباع نظرية "لا تفرحوا بما أتاكم، ولا تحزنوا على ما فاتكم، فكله زائل". هي حال العرفانيين اللامبالين تسليماً لله عندما يصطدمون بالسياسة الغارقة في المبالاة.

كانت لحظات الإمام على سلم الطائرة مشهودة، ربما وحده الذي لم يكن يرى من تلك اللحظات سوى تسبيحات أجراها الله على لسانه وبضع صلوات.

على كل درجة من السلم الطويل كان يخال مكان الطيار المتأبط ذراعه أحد الذين سقطوا أو غابوا على درب الثورات، خيل له على اختلافهم وتناقضهم، محمد مصدق وحسين فاطمي ونواب صفوي وحسن البنا وسيد قطب وموسى الصدر وعلي شريعتي، وآخرين كثر بدأوا المسيرة، لكن القدر لم يشأ أن يصلوا إلى خط النهاية، نهاية الثورة وبداية الجمهورية.

"سلام بر خميني"، "الله أكبر خميني رهبر"، ضج الملايين بالنداء ذاته، والخميني الذي يعرفون ويعرفه العالم اليوم لم يكن بعد قد ظهر، السيد العجوز الذي واجه العالم من غرفة في بيته المتواضع جداً في جمران، البيت الذي يأبى موظف مبتدئ السكن فيه، بيت الثلاث غرف وحمام ومطبخ، وجسر حديدي يصله بحسينيته المتواضعة التي لا تقاس ولا تقارن مع حسينيات لعائلات في المشرق أو الخليج. رجل طعامه حبة بطاطا مسلوقة وبرتقالة وكسرة خبز، صمد في وجه أصحاب الموائد العامرة والخرفان المنحورة والدجاج الذي يبيض ذهباً.

الخميني العائد ليكتب التاريخأول قراراته وقف العلاقات مع إسرائيل، وتحويل السفارة الإسرائيلية إلى سفارة فلسطينية. وبدأت المعارك بعضها مفروض وبعضها الآخر اختاره بنفسه.

معركة السفارة الأميركية والرهائن واحدة من تلك المعارك، دخلها غير آبه بنصائح أقرب المقربين إليه، بعض ممن رافقوه في أدق أيامه، بقي حتى اللحظة الأخيرة مصراً على أن تنتهي بالقول للعالم، إن هذه الثورة الفتية الإسلامية لم تفجّر لتخضع، بل لتُخضِع.

كان جيمي كارتر تعهّد بأن ينهي قضية الرهائن ولو بقي دقيقة واحدة من مدته الرئاسية، وكان مقرراً أن يطلق سراح الرهائن في اليوم الذي يسلم فيه كارتر الحكم إلى رونالد ريغن، مضت الدقائق حتى الدقيقة الأخيرة، وبعدما أقسم ريغن اليمين الدستورية جاء القرار من طهران أطلقوا الرهائن، عشرون ثانية فقط فصلت بين عهد كارتر وخليفته كانت كافية لتقول إيران إنها هي مَن تقرر.

ثم توالت المعارك، بعضها مباشر وبعضها بالواسطة، تفجيرات تهز العاصمة طهران، واغتيالات تطال كبار الكبار، وحرب مع العراق وحصار، ولكن الخميني بقي صامداً ولم يتزحزح عن أهدافه.

وفي عز العداء والجفاء مع الولايات المتحدة، لم يكن الاتحاد السوفياتي بالنسبة إليه الخيار، رفع شعار لا شرقية ولا غربية.

باختصار، كان رجلاً يبحث عن صناعة أمة، اتفقنا معه أم اختلفنا، أحببناه أم بغضناه، حالفناه أم عاديناه، يبقى أن الخميني كان حقاً رجلاً قال لا في زمن المليون نعم.

الرابط على موقع جريدة السفير