في إشارة إلى الدور المفصلي للأبحاث العلمية في عملية التغيير والنهوض الملازمين لتحقيق الرسالة ثم الدور،اللذين يقعا على عاتق الجمهورية الإسلامية، تفرّد الإمام الخامنئي بوصف الأبحاث العلمية كالأذكار...
"الرؤية العلمية لدى الإمام الخامنئي"، سلسلة حلقات يغوص فيها الدكتور عبد الله زيعور- مسؤول هيئة التعليم العالي في حزب الله - بتحديد موقع العلم الخاص والمميز من شخص الإمام الخامنئي قبل الثورة وبعدها (مشروع النهضة والاقتدار)، ويُشار إلى أن هذه السلسلة صدرت في كتاب حمل نفس العنوان، عن دار المعارف الحكمية.الحلقة الخامسة
المهام الموزّعة لإنجاح الرؤية
1 – دور الأبحاث العلمية
في إشارة إلى الدور المفصلي للأبحاث العلمية في عملية التغيير والنهوض الملازمين لتحقيق الرسالة ثم الدور،اللذين يقعا على عاتق الجمهورية الإسلامية، تفرّد الإمام الخامنئي بوصف الأبحاث العلمية كالأذكار العبادية التي يقوم بتكرارها الإنسان، فجاء في خطاب له حول مشروع التغيير والتقدّم:
"أن قضية الأبحاث العلمية تعتبر بلا أدنى شك من بين القضايا المحورية والأساسية للحفاظ على هويتنا ووجودنا واستقلالنا ومستقبلنا؛ إن البحث العلمي الهادف نحو احتياجات البلد واحتياجات الصناعة وبقية القطاعات هو إحياء للبلد، أي بث روح الحياة في مفاصله"..
إن وضع الأبحاث العلمية في موقع الأذكار العبادية أتى ليفضي الطابع الديني الشرعي على لزوم القيام بها، وإلا لأثمت الأمة جميعاً وهي إحياء للبلد بأكمله، فلو استذكرنا الآية الكريمة: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾ التي تقرن أجر إحياء نفس واحدة بإحياء أمم أهل الأرض، فما بالنا بالبحث العلمي الذي هو إحياء للبلد بأفراده وبقوته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، فعن أي أجر عظيم نتحدّث؟ ولعل هذا التعظيم لدور الأبحاث في أبعادها الدينية الشرعية والإنسانية والسياسية إنما يدخل في إطار الحث على القيام بها باعتبارها الحلقة التي لا بدّ من اجتيازها وصولاً إلى الهدف الاستراتيجي ألا وهو الاقتدار على مستوى الأمة ككل. فمن جهة تؤدّي الأبحاث العلمية دور اكتشاف المجهول، وتأتي بغنى حقيقي على مستوى الاكتشاف وسبر أغوار عوالم المعرفة وتقدّمه للأمة، ومن جهة أخرى تغني مشروع نهضة الأمة عن الأمم الأخرى، وتكفّ يد العوز لها والركون إلى شروطها السياسية والاقتصادية مقابل الحصول على مساحات متقطعة من العلم والمعرفة، تبقي بها دول الاستكبار الحاجة إليها، ولا تمكّن الدولة المحتاجة من الاستقلال وربط هذه المساحات نحو تصور نهضوي متكامل يسمح لها بالسير باستقلالية في درب العلم والتقانة.
وفي إطار تحقيق القفزة النوعية للأمة نحو مستقبل الكرامة والاستقلال العلمي، يدخل الإمام في تفاصيل البحث العلمي، فيحث على أداء البحوث المفيدة للأمة لا البحوث النظرية التي قد نتفق على بعض مضمونها، لسبب وجيه وأساسي أننا لا نوافق على منطلقاتها في النظرة للإنسان ودوره في الحياة، كما يحث على توجيه البحوث في إطار سياسة تفعيل أداء مراكز الأبحاث ورفع مستوى الإنتاج البحثي نوعاً لا كماً فيقول:
"يجب أن يجد البحث العلمي طريقه لسدّ احتياجات البلاد، أي أن ننجز بحوثاً علمية نحن بحاجة إليها، وعلينا أن نشخّص ماذا يجب أن نكتب من بحوث...
الكثير من العلوم الإنسانية مبنية على فلسفات مادّية، وعلى فلسفات تنظر إلى الإنسان أنه حيوان وعلى عدم مسؤولية الإنسان قبال الله تعالى، وعلى عدم الاكتراث للنظرة المعنوية للإنسان والعالم، فعلينا ألا ننقل لأجيالنا مفاهيم الشك والارتياب وعدم الإيمان بالمباني الإلهية والإسلامية والقيم الذاتية.
وقبل تنويع وتراكم المؤسسات البحثية لكونها لا تحلّ المشكلة، علينا رفع كفاءة المؤسسات البحثية الموجودة، وفي المنظومات الإدارية التي تتابع وتراقب سير عمل هذه المؤسسات".
وتفادياً لإشكالية تراكم الأبحاث دون النظر إلى مردودها على مستوى تقدّم الأمة، يشدّد الإمام وفي مناسبات عدة على ضرورة وجود الخارطة العلمية للبلاد، وعلى دورها في تحديد الموضوع الذي نحتاج البحث فيه، وماهية المحاور المراد توسعتها وتطويرها، ثمّ الانطلاق في مرحلة ثانية لجمع شتات الأجزاء العلمية المتفرّقة، وتحديد المفيد منها لمستقبل البلاد.
وهكذا تبدو الرؤية العلمية للإمام سلسلة حلقات تعمل كل واحدة في إطار مهامها المحدّدة، لكنها تتناغم في إيقاع واحد لتأدية الغرض المطلوب، تماماً كالسيارة التي تحوي ما يقارب العشرة آلاف قطعة متماسكة ومترابطة، تعمل وفق أداء المحرّك الداخلي لكنها في مظهرها نموذج واحد يهدف إلى إنجاز مهمة واضحة ومحدّدة سلفاً، وهي نقل ركابها من مكان لآخر...
2 – المسؤولية الدقيقة على عاتق الأستاذ الجامعي:
يصف الإمام مشروع النهوض العلمي للأمة بالمشروع العملاق ويصف الأجهزة التنفيذية الحكومية كوزارة التعليم العالي ووزارة الصحة وسائر مؤسسات الدولة الإدارية الملحقة بمقاولي المشروع، لكن ثمة دوراً مميزاً يوكله إلى الأستاذ الجامعي في حلقات المشروع، فيتحدّث مراراً وتكراراً حول رسالته وأدائه وأخلاقه في التعاطي مع أهل الجامعة وطلابها، وكأنه يناشده بالتحلّي بأخلاق وآداب الإسلام قبل القيام بأدائه الحسّاس في مشروع التقدّم، ولذا، سننتقي النقاط التي أوردها الإمام كعناوين ومواصفات لرسالة الأساتذة تجاه نفسه وأمّته:
- أداء الأستاذ الجامعي عشق وحب للعلم واندفاع نحو تربية الطالب.
- التعاطي الأبوي والأخوي مع الطالب الذي يجب ألا يترك وحده.
- تخصيص الوقت للإجابة على أسئلة الطالب كلها ومد يد العون العلمي له حتى ولو اقتضى الأمر ساعات من الوقت، فهذا جهاد ثقافي، تماماً مثلما يحدث في الحوزات العلمية.
- ترسيخ حالة البحث والنقاش العلمي والاستقلالية والثقة العلمية بالنفس، والفضول العلمي في نفوس الطلبة الجامعيين.
- تحقيق الإبداع العلمي والثقة بالنفس وتلافي التلقين والتكرار في الأداء العلمي، وامتلاك الروح الوطنية في نفوس الأساتذة الجامعيين.
- زرع الأمل بالمستقبل في نفسه وفي نفوس طلابه، فروح اليأس من المستقبل سهم مهلك لكل المشاريع العلمية والاجتماعية والسياسية، والأمل هو الطاقة التي تتقدّم بالإنسان وهي التي قادت إلى الاكتشافات الكبرى في ميادين العلوم التجريبية.
- العمل على تشخيص الاحتياجات والأولويات العلمية وأخذها بالاعتبار في البرمجة التعليمية.
يجهد الإمام من خلال مواصفات الأستاذ الجامعي ودوره المنشود أن يردم الهوّة بينه وبين الطالب، وعلى أيدي الأساتذة وبالمبادرة منهم، ففضلاً عن زرع حب العلم والأمل بالتقدم فإن الطالب يتعلم ويتأثر بكلام أستاذه عن حب الوطن والاعتزاز بتاريخ البلاد، وبإمكان الأستاذ إيجاد الطالب المتديّن والعالم في آن، فجمع العلم والإيمان في عقل الطالب مسألة دقيقة، لأن العلم بمفرده ليس شرطاً كافياً لحضارة سليمة، وأصحاب العلم الغربيون شاهد على الحضارة اللئيمة الانتقائية والاستنسابية لأبناء عرقهم ومن يسير في ركبهم.
ويولي الأهمية الفائقة لنوعية الذات العاملة في بيئة العلم وفي الجامعة فالقلوب أوعية كما يقول الإمام (ع)، والعلم لا يستقيم إلا بعماد "النورانية" في النفس العاملة بالعلم والطالبة له، فيقول في خطاب مع أساتذة الجامعات في طهران[5]:
"إن طهارة النفس وصفاءها أمرٌ مهم ولازمٌ للجميع؛ وله تأثير في حياة الجميع؛ ولكنه بنظري أكثر أهمية وفائدة ونفعاً للأساتذة والعلماء. وذلك أولاً، لأنكم أساتذة، فإن سلوككم وتصرّفكم له تأثير أكبر من كلامكم في تكوين شخصية التلميذ والشاب – فغالباً ما يكون الأمر كذلك – بحيث إنه لو كان كلامكم سبباً لسوقه نحو جهة ما ولم يكن سلوككم مصاحباً لكلامكم في هذا التوجيه، فإنّ هذا السلوك والتصرّف سيؤثر في مخاطبكم وتلميذكم، أي ذلك المتعلم والشاب، فهذا أحد أبعاد أهمية صفاء النفس. لو تمتع أستاذنا بالروحية المعنوية الصافية فإنه سينوّر أجواء صفه وقلوب المتعلّمين. فنحن نحتاج إلى هذا الأمر، وبالإضافة إليه فأنتم علماء؛ لهذا فإن العلم إذا صوحب بالنورانية فإنه سيجد وجهته الصحيحة".
ولهذا، فإن مسؤولية الأستاذ الجامعي إذن، التخطيط لنظام يرغِّب شباب الأمة في البحث العلمي بما لديهم من مواهب مشهودة، وتحقيق النهضة العلمية التي تطور العلوم وتخترق الحجب العلمية والتوجّه نحو العمل الذي لم يتوصّل إليه الذهن البشري إلى الآن، وإذا كان طلاب الجامعات هم ضباط المواجهة في الحرب على الجامعة والأمة، فإن الأستاذ الجامعي هو القائد لهذه المسيرة والطرفان عليهما التبصّر بالقضايا العامّة وتشخيص العدو بصورة صحيحة ، " نحن نحتاج للأستاذ الرائد من أصحاب الخبرة السابقة والأستاذ الجديد في آن معاً، ولا يمكن الاستغناء عن أي منهما، هذه مواصفات الأستاذ الجامعي المناسب لنظام الجمهورية الإسلامية حالياً ومستقبلاً ".
ولقد شدّد الإمام على ضرورة أن يرتقي الأستاذ الجامعي الدرجات العلمية الحقيقية، وينضج حركته الحضارية، فمثلما يخصّص وقتاً للطلاب، عليه تخصيص وقت للمطالعة، "فالأستاذ الذي لا يطالع سوف يكون درسه فارغاً"، ثم يقارن التدريس الحوزوي مع التدريس الجامعي فيقول:
"إن حسن دروسنا الحوزوية يتأتّى من هذا الأمر، وهو فيما إذا حضّر الأستاذ قاعة الدرس دون مطالعة مسبقة، وتكلّم كلاماً غير متقن، لا يحضر الطالب درسه في اليوم الآخر، وبعد مدّة يبدأ الطلاب بالانصراف من درسه شيئاً فشيئاً، فمثلاً لو كانوا مئة يصبحون خمسين أو عشرين شخصاً، وأحياناً يؤدي ذلك إلى تعطيل درسه.
أما الجامعة ليست كذلك، فالطالب الجامعي المسكين مجبور أن يأتي، ومجبور أن يقضي هذه المراحل مع هذا الأستاذ، وكذلك عليه أن ينتظر الدرجة دون أن يتجرّأ من الاعتراض على ذلك.
إذاً، فمن هذه الجهة، يعتبر هذا أحد عيوب الجامعة، ومحاسن الحوزة.
وعلى كل حال، عليكم أن تعملوا على أن يتمكّن الأستاذ من التقدّم على الصعيد العلمي ومستواه الدراسي".
إن المقارنة التي طرحها الإمام في التدريس بين الحوزة والجامعة هي في طياتها دعوة ملطّفة للجامعة لأن يكون الأستاذ على مستوى الأهلية والضمير المهني في أدائه لواجبه التعليمي أو البحثي، لأن لا خيار للطالب في تغيير أستاذه، فهو مجبور أن يمضي مراحل دراسته مع أستاذ يملأ موقعاً أكاديمياً، وبالتالي فلا خيار للأستاذ إلا أن يقوم بواجبه كاملاً في أن يتحلى بالمستوى العلمي اللائق للأستاذ الجامعي كمنتج للمعرفة، وبالمستوى الأخلاقي المحفّز لأن يكون أداؤه عشقاً للعلم واندفاعاً نحو تنشئة أجيال مسؤولة جديرة بقيادة الأمة في مستقبلها نحو بر الأمان.
وفي نفس سياق العناوين والمواصفات المطلوبة من الأستاذ الجامعي، فإن الإمام يشدّد على روحية الأستاذ الذي يجب ألا يسعى من أجل الحصول على درجة علمية بتأليف أو بإعداد مقالات وأبحاث ليس لها فائدة بالنسبة للبلاد ولا شأن لها بأي دور أو بملء أي فراغ فيه، فليس من الصحيح أن نمنح الشهادات والامتيازات العلمية وهي لا تتناسب وتنسجم مع احتياجات البلد، وتكون امتداداً لبرنامج البحوث فيه.
هكذا إذن، دور الأستاذ الجامعي في جامعة ذات رسالة مفصلية في عملية البناء، جامعة إسلامية بدور إسلامي يملأ كل من الطالب والأستاذ والإداري ما هو مطلوب منه كاملاً، والجامعة التي يريدها الإمام يعرّفها بكلمات هادفة بقوله:
"إن الجميع يعتقدون بأن الجامعة الإسلامية لا تعني سوى الحجاب للطالبات، وأن لا يرتدي الفتيان القمصان ذات الأكمام القصيرة، وألا يطيلوا سوالفهم، مع أنّ كل هذا لا يعني الجامعة الإسلامية بشيء. إن ما يميّز الجامعة الإسلامية هو الإيمان والطموح والحماس المقدّس والخلق الإسلامي، والإيمان بالعلم والمعرفة، فهذه خصائص الجامعة الإسلامية".
إن الإيمان والطموح والحماس المقدّس والخُلق الإسلامي والإيمان بالعلم والمعرفة هي بالضرورة مواصفات الأستاذ الجامعي الناشط في الجامعة الإسلامية التي يجب أن نؤسس عليها طموحات التغيير نحو الاتجاه الإسلامي الأفضل للأمة.
يحضرني هنا شيء من المقارنة في الأدوار المتباينة بعمق بين الجامعة في إيران والجامعات الرسمية والخاصة في لبنان، حيث يسير التعليم الجامعي والأستاذ الجامعي في لبنان بلا أفق ورؤية، وحيث تنتج الجامعات أجيالاً تتحوّل لاحقاً إلى وقود الحروب الداخلية والمذاهب، أو إلى أجيال تابعة تذوب أمام النموذج الغربي، وتموت شخصيتها الحضارية الإسلامية، أو أن تكون الجامعات حلقة ضرورية لهجرة الكفاءات والأدمغة للخارج، لذا، لا شأن للجامعة بأي إصلاح، ولا دور مطلوباً للجامعات في أي تغيير إيجابي، بل الأدهى من ذلك، فإن الدولة في لبنان تنظر للجامعة الرسمية على أنها عبء تحاول بشتى الوسائل التخلص منه، على أن توكل المهمة الأساس في تربية الأجيال إلى الطوائف، والتي أثبتت الوقائع أن رسالتها التربوية محصورة ومنغلقة بين جدران كل طائفة في غياب كامل للقوانين الناظمة، والمشاريع البحثية الموجّهة، والموازنات الكافية، ومع وجود جامعي يحمل مشروعاً فردياً ذاتياً لحماية نفسه ومستقبل أسرته فاقد لطموح التغيير على مستوى الجامعة والتربية، هو جزء من أزمة شاملة تنتظر شعلة تغيير لتنطلق نحو الحل.
3 – ضرورة التغيير في التربية والتعليم:
تحدث الإمام في مواضع كثيرة عن الربط المحكم بين النهضة العلمية والتربية والتعليم، في إطار السيطرة على الدائرة المغلقة بين بحث علمي وإنتاج رائد على مستوى الأمة مع أجيال مهيأة لتأخذ المبادرة وتكمل المشروع، واعتبر في مختلف المواقع أن مهمة التربية والتعليم إنشاء القابلية للإنسان نحو العلم والتدرّج في العلم، ولكن ليس أي إنسان، بل الإنسان الإنساني طاهر النفس القادر على التمييز بين قدسية القيم التي يحملها، وخبث وسائل الإعلام الأجنبية التي من شأنها صناعة إنسان يفكّر ويعمل وفق القواعد الأميركية، كمقدّمة لجيل كامل يفكّر بهم كنموذج تسقط منه روح الثورة وقيم الإسلام الصافية.
فقد وصف الإمام مسألة التربية والتعليم بالعمود الفقري لأي بلد، واعتبر كل ما يجري إنفاقه في هذا الميدان استثماراً للمستقبل الوطني سيعود حتماً بالفائدة على الأمة في أيامها القادمة، استثماراً للإنسان الواعد التي يجب أن يكون جديراً بمهمة قيادة دفة قطاعات الوطن السيادية منها والثانوية. والملفت في كلام الإمام أنه يعي تماماً أي نوع من التربية تريد الأمة لصلاحها، ويعي مشاكل التربية التي كانت قائمة قبل الثورة، ويعي موقع التربية في مشروع النهوض العلمي الشامل للأمة. إنها تربية الإنسان، ذي القابلية للعلم والتقانة تربية ننفق عليها بسخاء ثروة استراتيجية ستعود حتماً بالنفع الأمل للأمة في عقودها القادمة، تربية إنسان متدين مجاهد يحيا بالفضائل والإرادة بالتقدّم والأمل ببلوغ القمة، فيقول:
" والتربية والتعليم هي العمود الفقري لأي بلد من البلدان وصولاً إلى الكرامة المادية والسعادة المعنوية، والسيطرة السياسية والتقدّم العلمي والرفاهية..
التربية والتعليم هي المدخل الأصلي لنشوء ونمو ذلك العنصر الأساس وهو الإنسان، الإنسان ذو القابلية نحو العلم.
التربية والعليم ليس قطاعاً استهلاكياً، بل إنتاجياً لأنه ينتج لنا أهم العناصر وأكثرها فاعلية لتقدم البلاد، ويدخر لنا ثروة معنوية طائلة ستعود على البلاد بالنفع التدريجي.
ثمة خللان كانا يعيقان تطبيقاً ناجحاً للتربية والتعليم:
- الناحية العقائدية والإيمانية لدى واضعي مناهج التربية والتعليم.
- الناحية السياسية والإدارية في البلاد، حيث إن النظام السابق كان مضطراً لاستبعاد الدين من منظومته القومية، لأنه كان فاقداً للأيديولوجيا، لكنّ تبعيتهم ازدادت يوماً بعد يوم.. لقد كان نظام التعليم متغرّباً.
- الدعوة لنظام تعليم قائم على الإبداع لا الحفظ للدروس.
نريد لخريجي البلاد أن يكونوا حائزين على الفضائل الأخلاقية، ومتميّزين بالقابلية الفكرية والعقلية، وأن يكونوا متمسّكين بالدين: الفضائل تعني الشجاعة، حسن الفطرة، الأمل، الإرادة... القابلية الفكرية والعقلية: الإبداع، الحب للتفكير والتجديد، الميل لاقتحام الميادين العلمية الواسعة، أما سلوكياً، فينبغي أن يكون منتظماً يعرف القانون ويحترمه.
إن المطلوب من التربية والتعليم التأثير في الحياة العائلية، بما لديها من القدرة على تربية الإنسان الصالح، الهدف: جيل مثالي، هذه هي فلسفة التربية والتعليم.
وبالطبع، فإنّ إكمال الحلقة بين النهضة العلمية والتربية والتعليم يتطلب أن يكون المعلّم متحلّياً بهذه المواصفات ومقتنعاً بها ويعيش في تفاصيلها، وزيادة على ما تقدّم، فعلى المعلّم أن يكون محباً للعلم متحلّياً بروح البحث العلمي لكي يبث هذه الروح في أجيال الناشئة من الطلاب ".
وتأكيداً للقناعة بالدور الدقيق للمعلّم، يشبه الإمام المؤسسات التربوية بغرف الحجر الصحي التي تهدف إلى تنقية الناشئة من أردان القيم الغربية، وتنتج إنساناً صحيحاً سليماً خالياً من أعراض التغريب والأمركة على وجه الخصوص، فيقول في خطاب له:
"إن مدارس التربية والتعليم في مراحلها الابتدائية والإعدادية والثانوية تعتبر ورشة عامة يمر بها كل أفراد المجتمع، فهي كغرفة الحجر الصحي التي يدخلها جميع أفراد المجتمع ثم يخرجون من الباب الآخر".
وفي ذات الإطار يكرّر الإمام مهام المعلّم ويدعو أيضاً إلى تكريمه وإجلاله فيصفه بفارس العلم الذي يؤثّر بسلوكه وشخصيته على الناشئة وليس فقط بإلقاء الدروس، وبصاحب الرسالة التي تقود نحو الاقتدار للأمة، فيقول في ذات الخطبة:
"إن مهام المعلّم بناء مجتمع يكون أفراده ذوي قابليات ممتازة وأخلاق رفيعة وشجاعة بطولية وأفكار مستنيرة، وعلى قدر كبير من الاستقلالية والتوقّد الخلاق وحسن السيرة والإيمان بالنظام والقانون، وهنا نؤكّد على احترام وتقدير المعلّم وإجلاله، وهو المكانة الرفيعة في المجتمع، وهو صاحب الموقع الحسّاس فيه، وهو فارس الميدان، والمعلّم يؤثر في شخصية تلاميذه بسلوكه وشخصيته، ليس فقط بإلقاء الدروس، والمعلّم ليس فقط ذو مهنة لكسب العيش، ولكنه صاحب رسالة ومسؤولية كما أسلفنا. إن مهام الأعداء في مجتمعنا هي: التخلّف العلمي، التخلّف الاقتصادي، وتحطيم عرى الوحدة الوطنية، وهي يستهدفون المعلّمين بصفتين من أهدافهم الثلاثة: التخلّف العلمي والوحدة الوطنية".
ويمتد طموح الإمام في مجال التربية والتعليم إلى أن يصل تأثيرهما في كل مجالات الحياة بدءاً من الاقتصاد والسياسة، حتى التأثير في الدين والفلسفة والأخلاق، وصولاً إلى ما يسميه الإمام المجتمع العلمي، وتستوقفنا متابعة الإمام للجوانب التربوية في الأمم الأخرى بعمق وتأنٍ فنراه يدعو لأخذ إيجابياتها وكل ذلك لإحكام القبضة على الأجيال البريئة، وللحؤول دون ضياعها في النموذج الغربي، وكأنه يقول: إن إحدى ساحات المعرفة مع العدو المتربّص شراً بالأمة هي عند الناشئة وطلاب الجامعات، فقد وصف في بحث له رؤيته لمفاهيم التربية والتعليم بالقول:
" إذا ما ارتقى مجال التربية والتعليم وأولي اهتماماً، فسوف يؤدي إلى تحسين الأوضاع في مجل الاقتصاد والسلامة والصحة والبيئة ومصير الإنسان والثقة والفن والسلوك العام، علاوة على ذلك كله، يكون مؤثّراً في الدين والفلسفة والأخلاق.
إنّ مدارس العالم اليوم تقوم بتعليم الأطفال الفلسفة؛ الأمر الذي يعتبره بعض مفكّري بلدنا ليس له معنى، ويعتقدون بأنه مقتصراً على أصحاب اللحى والشعر الكثيف من كبار السن.
إنّ النظرة الحضارية إلى قضايا الحياة، أوصلت روّاد العلم في العالم اليوم إلى وجوب تعليم التلاميذ الفلسفة بأسلوب سلس في مرحلة الابتدائية.
ولقد جئت بهذا المثال؛ من أجل إيضاح ما للتربية والتعليم من قدرة على التأثير في مستقبل البلد، وهو واضح لديكم أيضاً.
فإنّ الاقتصاد والسياسة اليوم معتمدان على العلم؛ ولهذا فإنّ أحد الشعارات التي تُرفع اليوم شعار (المجتمع العلمي).
ولو أردنا أن لا نتخلّف عن مواكبة الحركة العلمية في العالم – فضلاً عن أن يكون لنا دور مشخّص ورائد وناجح – فنحن مضطرون إلى القيام بنظرة جذرية أساسية تجاه التربية والتعليم، وكذلك في مسألة العدالة.
هذه هي الحقيقة التي بسببها تأخرنا عشرات السنين، ولسوء الحظ أنها وقعت في عهود التفتّح والتقدّم العلمي، فلقد أخّرنا ذلك عقوداً من الزمن – منذ أواخر العهد القاجاري وحتى نهاية العهد الشاهنشاهي – دون إرادتنا أو رغبتنا.
فعلينا أن نكدح ونجاهد، ونبذل كل طاقتنا؛ من أجل تقليل الهوّة التي وقعت في مجال التربية والتعليم قدر الإمكان، وإنني أعتقد – على ضوء التجارب والنظريات العلمية التي قام بها أصحاب الخبرة في هذا المجال – بأننا قادرون على ذلك، فإنّ هذه ليست بعيدة المنال، وهناك الكثير من الطرق المختصرة التي توجد في السنن الإلهية وقوانين الخلقة، والفن هو القدرة على الوصول إلى هذه الطرق من قِبَل الإنسان.
بناءً على ذلك فإننا قادرون، إلا أنّ ذلك يحتاج إلى السعي.
إنّ التربية والتعليم هي من أهم الأجهزة المُنتجة، فهي جهاز مُنتج لا مستهلك، فعلينا أن نهيئ مصادر الدعم في مجال التربية والتعليم، ليس المال فقط – المال جزءٌ من ذلك – لكنّ الأهم من المال هو الفكر، وأفضل وأهم الأفكار، الجلوس والتباحث في مسائل التربية والتعليم؛ من أجل أن تكون الرؤية الفلسفية للتربية والتعليم واضحة وجلّية، وعلى أساس هذه الرؤية سوف تكون آفاق مستقبل التربية والتعليم واضحة في بلدنا، وسيُعلم حينها ما الذي نريده، وما هو الهدف الذي نصبو إليه، لكي نقيم برامجنا على أساس الخطّة التي توصلنا إلى تحديد ذلك الهدف، هذا هو ما نحتاج إليه.
لا بدّ أن تتجنّب التربية والتعليم مسألة الروتين – هذا هو بيت القصيد – ".
فالمعالجة المتأنية للخلل التاريخي الذي أصاب ميدان التربية والتعليم يعني من وجهة نظر الإمام تصالح الأجيال الجديدة مع هوّيتها وربط زخمها وطاقاتها الواعدة بدورة التغيير والتقدّم لدى الأمة، ومعالجة "التسرّب" من جسم الأمة لكي تتكامل كل الطاقات في اتجاه التقدّم، بما يعني كسب المعركة على مستقبل الأمة في ظل تربّص غربي دائم يحاول تقديم سم القيم الغربية في دسم الحضارة والمدنية، ويربط بين المدنية وأحادية النموذج الغربي، وبما يعني إحكام السيطرة على دورة التغيير والتقدّم التي تعتبر ساحة التربية والتعليم الحلقة الأخطر لكونها صانعة الإنسان حامل القابلية للسير في مستقبل الأمة باتجاه التقدّم أو باتجاه التبعية بنتائجها الكارثية، وحسبنا في نماذجنا العربية عبرة وتبصّراً.
لمتابعة الحلقة الأولى
لمتابعة الحلقة الثانية
لمتابعة الحلقة الثالثة
لمتابعة الحلقة الرابعة
الرابط على موقع التعبئة التربوية