مختلفة، تبدو الضاحية الجنوبية لبيروت...
مختلفة، تبدو الضاحية الجنوبية لبيروت. لا تزال ماكثة في فوضاها المعهودة، المحببة احياناً، لا تزال القيادة فيها مهمة صعبة إلى حد ما،لا تزال ملتصقة بوجوه شهدائها، لا تزال ذاكرتي متخمة بها وبكل تفاصيلها، ولكنها مختلفة. بدت مختلفة ايضاً بعدما مارس عليها العدو الإسرائيلي كل ألوان الإنتقام عام 2006، شممت رائحة غريبة عندما عدت إليها يومها، قيل لي إنها رائحة الركام والصواريخ التي كانت تُرمى عليها طيلة ثلاثة وثلاثين يوماً، تجولت كثيراً في شوارعها وقتها، أردت ابتلاع كل شيء فيها، حد الإمتلاء: هي مدينة تجيد البقاء رغماً عن أنف "اسرائيل".
لكنها اليوم تبدو مختلفة عما بدت عليه في ذلك الصيف منذ ثمانية سنوات. لا زلت أتجول فيها كثيراً، لا زلت اودعها ذكرياتي الكثيرة، والأحبة والأصدقاء، والتمنيات، والأحلام العبثية منها والجدية، لكني وبالرغم من ذلك أشعر أن فيها من سيعكر صفو ضجيجها رغماً عنها: بيني وبينها "انتحاري"..
إنه واقع مستجد على مدينتي، ولا أوافق من يقول إنه واقع يشبه تلك الحرب التي فُرضت عليها عام 2006، نعم الهدف واحد وهو إخضاعها وإخضاع أهلها، لكن ذلك الإنتحاري الذي يتجول بيننا ومن سبقه من الإنتحاريين لا يعرفون الضاحية الجنوبية. من المؤكد أن ما يقومون به يدغدغ تمنيات العدو الإسرائيلي، ويأتي في سياق مخطط يضع المنطقة في مهب حرب واحدة مبنية على الإقتتال المذهبي، لكنها حرب مختلفة.
لا لم يقصد الإنتحاري استهداف الشارع العريض لأن فيه لوحة صغيرة كتب عليها "شارع الإستشهادي أحمد قصير"، ومن المؤكد أنه لم يكن يعلم أن المبنى الذي فجر سيارته أمامه هو المبنى الأول الذي رُمم عقب حرب تموز. لا يعرفنا "الإنتحاري" جيداً، ولا يعرف أسماء شوارعنا ولا صور شهدائنا ولا أسماءهم ولا ما حققناه في أيار 2000 ولا في آب 2006، ولا نحن نعرفه ايضاً. هو لا يشنّ وأمثاله حربه علينا لأن في الضاحية والهرمل وغيرها بيئة حاضنة لمقاومة هزمت "اسرائيل". هو لا يستطيع إدراك أن بعض أبناء هذه البيئة يقاتلون في سورية ضد مشروع يهدف إلى القضاء على كل ما تبقى من عناصر القوة لدينا والحفاظ على أمن "اسرائيل"، فما يعرفونه هو أن هذه البيئة "ترسل أبناءها لقتل أطفال سورية"، بل لأن ثمة من نخر رأسه بمذهبية تفتك بمنطقتنا بأسرها، هو لا يعرفنا.
ثمة من يريد إدخال الصراع العربي الإسرائيلي في دائرة النسيان، وجرّنا إلى صراع من نوع آخر، ثمة من يريد محو صور الإنتصارات الجميلة من ذاكرتنا وتلك المشتهاة من مخيلتنا، وجعلنا نتفحص وجوه بعضنا البعض يومياً علّنا نلتقط ذلك "الإنتحاري". ثمة من زرع "انتحارياً" بيننا، ليشعرنا بالضعف الدائم وأننا بتنا نُقتل ولا نستطيع الرد، كما اعتدنا. لكنني أعتقد أنه ثمة ما يمكننا القيام به، فليجلب عمر الأطرش، صانع الإنتحاريين، ونعلم أن هناك كثر مثله، إلى الشارع العريض نفسه وليشنق أمام أهل الضاحية وذوي الشهداء وكل محبي الحياة، وليصمت كل من يتفوه بسيل من الشعارات الحاقدة، وكل من يرى نفسه غيوراً على المسلمين، فعمر الأطرش لا يعرفنا ولا نعرفه، فليرد البعض قليلاً من جميل مدينتي.