هناك في داخل الأديان ما يؤدي إلى العنف وفيها ما يؤدي إلى السلام, واليوم نعيش في زمن فيه مفارقة أخرى حيث ينتشر التخلف من ناحية، وهو الذي يدفع الناس لممارسة العنف باسم الدين
استضافت مؤسسة الإمام الحكيم في إطار "منتدى الأربعاء" رئيس مؤسسة أديان الأب الدكتور فادي ضو في لقاء حواري تحت عنوان " الدين والعنف علاقة عضوية أم عرضية" شارك فيه حشد من الشخصيات الدينية والاجتماعية والسياسية. وقدم اللقاء المحامي الأستاذ بلال الحسيني الذي عرض لإشكالية الدين والعنف وكيفية بروزها وخصوصاً في المرحلة الراهنة.
وتحدث الأب فادي ضو ومما قاله: "الأديان رسالات سماوية تحمل السلام للعالم واتباع الأديان ينشرون السلام فيمن حولهم ورجال الدين لا يتحدثون إلا برسالة السلام". هذا الكلام يمكن قوله مراراً وبشكل فولكلوري، ولكن اليوم أريد أن أتحدث بلسان العقل والتفكير عن الأسباب الحقيقية لظاهرة العنف التي نعيشها اليوم باسم الدين والأديان. لو كنت مقتنعاً بأن الجواب سهلاً بأن العلاقة عرضية وليست عضوية، لما كان للسؤال من معنى.
أما مبررات السؤال فهي ليست تاريخية فحسب بل تحمل أيضاً أبعاداً فكرية وأيديولوجية. ولكي نقارب الموضوع بشكل جريء ـ وأعتذر مسبقاً عن صراحتي ووضوحي ـ علينا أن نطرح الأسئلة الحقيقية بهدف الوصول إلى نتائج إيجابية..
هناك علاقة أساسية بين الدين والعنف للأسباب التالية:
1. اعتبار البعض للأديان بأنها المصدر الوحيد للحقيقة وانحصار الحقيقة بكل دين، وهذا أقصى درجات العنف غير المعلن. فعندما أقول أن الحياة الأبدية مخصصة لفئة من الناس بسبب انتمائهم الديني، هذا يعني أنني أقصي بعض الناس وهذا إجحاف وعنف بحق بعض هؤلاء، فكل ديانة تعدّ أتباعها بأنهم "شعب الله".
الفكر الإقصائي مرتبط بشكل كبير بالأديان الشمولية. والمشكلة أن الآخر الذي لا ينتمي إلى شعب الله أو كنيسة الله أو دين الله، مُدان من قبلنا إن بطريقة تعاملنا معه أو من خلال تصنيفنا له. إذن، هناك مشكلة مع كل دين شمولي، فالكثير من صراعات الأديان حصلت بسبب هذا الفكر الإقصائي ما أدى إلى استعمال العنف المادي لتوسيع كل دين.
2. الجانب الثاني يرتبط بالبعد التكفيري ( وهو غير الإقصاء)، فالتكفير يمكن أن يتم داخل الجماعة الواحدة؛ التكفير موجود داخل كل دين وداخل كل جماعة وللأسف نسمع مواقف وتصريحات مؤلمة وقاسية تبرر التكفير داخل كل جماعة.. التكفير موجود عند الجميع. فكل دين شمولي يحمل نوازع التكفير، وهذا برز تاريخياً في إطار محاكم التفتيش التي أقامتها الكنيسة الكاثوليكية. وقد أدى ذلك لحرق عشرات الآلاف من المسيحيين بتهمة الخروج من الدين المسيحي، وكل مؤسسة دينية تسعى للحفاظ على موقعها ودورها كمدافعة عن الحقيقة، مما يجعلها تحمل نزعة التكفير.
3. الجانب الثالث يتعلق بالجانب الأخروي أو المسياني أو المسيحاني، لأن الدين يتكلم عن "نهاية ما" للعالم أو حكم نهائي للبشرية، وتنوع المقاربات حسب الأديان لهذا الجانب الأخروي. ولكل مجموعة دينية شعورها عن المرحلة الأخروية, وهذا أيضاً مدخل لارتباط الدين بالعنف. ومن نموذج هؤلاء الصهاينة المسيحية الذين يؤمنون بعودة السيد المسيح على أرض فلسطين ولذلك هم يعملون لدعم الكيان الصهيوني.
4. الباب الرابع هو مسألة ارتباط الدين بالسلطة، وكل جماعة دينية هي جماعة مؤسساتية، وهذه السلطة الدينية تستمد سلطتها من الله. وفي الكنيسة الكاثوليكية "البابا" هو في موقعه لأن سيامته والإعلان بأنه أصبح أسقفاً باسم الكنيسة. وكل سلطة دينية هي سلطة بشرية معرضة للخطأ، وكل إنسان على خطأ.
وأضاف الأب ضو: وبمواجهة هذه الأبواب الأربعة التي تؤدي للعنف باسم الدين، كيف يمكن أن نعالج هذه المشكلات؟.كل رسالة دينية تتضمن مفارقة معينة، بين كونها لها بعد إلهي وسماوي وديني، وفي الوقت نفسه لها بعد بشري واجتماعي ومحدودية الواقع البشري.
وكل دين هو مفارقة بحد ذاته, ولكي نستكمل المشهد، علينا الحديث عن الجوانب الأخرى للأديان. فكل دين له بعد سماوي وروحي وإيماني ورحماني، وهذا أوسع من خبرة البشر، مما يجعل الدين منفتحاً على كل الأديان الأخرى والأفكار الأخرى. فقد يجد الدين في ذاته طريقاً يفتح الباب للآخرين للوصول إلى الله, وهذا الأمر لا ينطبق فقط على أتباع الأديان السماوية بل حتى على الدعوات الفكرية والأخلاقية غير السماوية.كما أن التعدد والتنوع الذي تقرّه الأديان يفتح الطريق أمام مواجهة التكفير، ومن ضمن المنطق للدين يمكن تبرير التعددية والتنوع.
أما على صعيد الجانب الأخروي الذي يؤدي إلى العنف لدى بعض أتباع الأديان، فإنه يفتح الباب أمام الخلاص للآخرين، إذا قلنا انطلاقاً من هذه الأديان، بأن الرسالة تكتمل إذا اكتملت القيم الدينية والاجتماعية ولا يقتصر الأمر على فئة دون أخرى.
وأما على صعيد السلطة، فيقابلها في كل ديانة صورة القديس المتواضع أو الولي البسيط، وليس فقط أصحاب السلطة هم من يمثلون الديانات، بل من يعمل لخدمة الناس ويساعد الفقراء. فالأم تيريزا تمثل المسيحية بشكل حقيقي وليس أي شخصية سياسية أو فكرية.
إذن، هناك في داخل الأديان ما يؤدي إلى العنف وفيها ما يؤدي إلى السلام, واليوم نعيش في زمن فيه مفارقة أخرى حيث ينتشر التخلف من ناحية، وهو الذي يدفع الناس لممارسة العنف باسم الدين، وفي الوقت نفسه ينتشر الوعي الذي يدفع الناس لمواجهة من يتحدث باسم الدين ويدعو للابتعاد عن هذا الطريق. والصراع اليوم ليس بين السني والشيعي أو المسلم والمسيحي، بل بين المستنير والمتخلف، وهذا الصراع يكون دائماً لصالح المتخلف وهذا ما يخيفنا اليوم.
وختم الأب ضو: قد تبقى الساحة اليوم للمتخلفين، لكن علينا مواجهة ذلك. وأنا أخشى اليوم من أن أقول أنّ العنف يرتبط عضوياً بالدين، فطالما الدين دين البشر، فإنه لا يزال مرتبطاً بالعنف، وواجب المتدين أن يحرر الدين من العنف.
الدين في جوهره لا يوجد عند البشر بل هو عند الله فقط، أما الدين لدينا نحن البشر فيتحول إلى واقع اجتماعي وسياسي وفكري وبشري مع وجود بُعدٌ إلهي له. والتحدي أن يحرر المؤمن الدين من الارتباط بالعنف لكي نصل من خلال هذه المسيرة إلى جوهر الدين الحقيقي.
وفي ختام اللقاء جرى حوار مطوّل ونقدي بين المحاضر والمشاركين.