بعد ثماني سنوات على استشهاده، يبقى عماد مغنية، الاسم الاكثر حضورا في وجدان رفاقه المقاومين، الاسم الذي اقلق على مدى السنوات الماضية الكيان الاسرائيلي، مع عطاءات عماد مغنية، راحت اسرائيل تقتنع اكثر...
كلمات في الذكرى الثامنة لاستشهاد “قائد الانتصارين» والأمين على المقاومة وسلاحها.. رسم المعادلات وصنع توازن الرعب الذي يُقلق إسرائيل.
محمود زيات – صحيفة الديار
منذ صغره، اكتشف ان قناعاته ومبادئه ستقوده الى عالم خاص، لا يشبه العالم الذي نعيش. ادرك باكرا انه قادر على تكريس كل حياته في سبيل قضية تستحق منه كل هذه التضحيات التي بقيت اسرارها طي الكتمان، حتى بعد استشهاده في الثاني عشر من شباط عام 2008، ولم يُكشف عن كامل ما تحمله شخصيته الفذة، .. وحده امين عام حزب الله استطاع ان يُظهّر ما تيسر، شخصية رفيق دربه وصديق عمره وحافظ جعبته العسكرية، في كافة الحروب التي خاضتها المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي.
انه عماد مغنية، المقاوم والشهيد ..
الاسم الذي ارعب دوائر الاستخبارات العالمية التي تواطأت لمصلحة الاجهزة الامنية الصهيونية، لكشف كامل شخصيته للنيل منه، ولم تصل الى نتيجة، سوى انه من مواليد العام 1962 .. ونقطة ع السطر، وبقي عماد الاسم الاكثر استهدافا ومتابعة لدى دوائر العدو الاسرائيلي، الذي جند عملاء محليين واجانب لتقفي اي اثر له، منذ ان ظهرت ملامح عن عمله في تطوير قدرات المقاومة وجهوزيتها، لتكون جديرة بان تصنع الانتصارات، وهو الذي لُقّب، بعد استشهاده بـ "صانع الانتصارين"، في ايار العام 2000، يوم تحققت الهزيمة المدوية للاحتلال الذي تقهقرت قوته في الجنوب، وفي تموز واب من عام 2006، يوم سجلت المقاومة اكبر انتصار على العدوان المدعوم والمبارك من شبكة من الدول والاجهزة الدولية والعربية وحتى اللبنانية.
نصرالله ظهَّر الصورة السريّة المشرقة للمقاوم المبدع
فالسيد نصرالله الذي نجح في اعطاء الحق لما تستحقه شخصية عماد مغنية الذي بقي على مدى مسيرته، يشكل لغزا من الالغاز غير المباحة في صفوف "حزب الله" وجمهوره، في مواجهة الحملات الاعلامية التي سيقت لتشويه شخصية المقاوم والمبدع والخلاق في ابتداع اساليب جديدة للمقاومين، لم يكن يألفها العدو، منذ افتتاح عصر الاستشهاديين بعملية الشهيد احمد قصير ضد مقر الحاكمية العسكرية للاحتلال الاسرائيلي في منطقة جل البحر في صور، مرورا بمئات العمليات العسكرية المركبة التي جعلت الاحتلال يشعر وكأنه في واد من الدموع، وصولا الى دخول حزب الله في عالم صناعة التوازن المرعب مع الاحتلال، وفرض المعادلات العسكرية عليه وعلى داعميه من صناع القرارات الدولية المتوددة دوما للكيان الاسرائيلي ولمصالحه في المنطقة.
الفتى المقاوم..المتحرر حتى من اسمه
قبل ان يكون من ضمن مجموعة من الشباب المثقف الذين قرأوا، وبتمعن الافكار الماركسية ومدارسها الماوية والستالينية، كان مهتما اكثر بالفكر الفلسفي الذي بشّر بقيام حركات تحرر وثورات شعبية لمقاومة الاحتلال.. او الاستعمار وازالة الانظمة الرأسمالية، والاسترشاد منها بما يخدم القضية الام عنده، القضية الفلسطينية التي كرس حيزا هاما من مسيرته، وهو بين احضانها وفي قلبها.
لم يكتف عماد بما قدمه للشعب الفلسطيني في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، بل اعاد الصلة مع فلسطين من خلال العمل على نقل تجربة المقاومة في لبنان، الى الداخل الفلسطيني الذي كان وفيا على ما قدمه، فنفذت عمليات عسكرية عدة ضد الاحتلال حملت اسمه.
عماد مغنية، الشاب العشريني الخجول والهادىء، الذي يخفي مهاراته القيادية عن قدامى اصدقائه، وان كانت واضحة في كثير من المواقف، يتأبط جريدته اليومية ويمضي لتفقد الاصحاب والرفاق من ابناء جيله .. لتُعقد جلسات نقاش عن الحرب التي قالوا انها "اهلية"، يومها "كان المشروع الانعزالي الذي كانت تقوده الجبهة اللبنانية، يشكل خطرا على لبنان" برأي عماد، الذي عاش يوميات الحرب وبشاعة المجازر البشعة التي ارتكبت خلال فصول هذه الحرب، سيما عمليات "الخطف ع الهوية" التي كانت تجري بين شطري بيروت، وهو الذي عاش في الشياح، عند حافة الشطرين.
عماد المتحرر دوما من بطاقة الهوية، لم يُظهر التسلسل العمري لصوره التي انتشرت، اي عمليات تغيير في وجهه، ملامح وجهه في العام 1977، هي نفسها الملامح التي ظهرت في صورته اثر استشهاده، على عكس التقارير الاستخباراتية والاعلامية التي تحدثت عن عمليات تجميل خضع لها مغنية لتغيير ملامح وجهه، هو كان اذكى من ان يلجأ الى اجراء عمليات تجميل، فمن لديه القدرة على الانقطاع الكامل عن اصدقائه الذين يتابعهم من بعيد، من دون ان يكونوا قادرين على متابعته، وينقطع عن المنطقة التي سكنها او عاش فيها، فهو قادر على التخفي واعتماد التمويه في يومياته، لنجاحه في اداء دور رسمه لنفسه باكرا .
عماد .. المؤمن بالفدائي .. بالمقاوم
حين دغدغته افكار اليسار، مع دخول الحرب اللبنانية عامها الثاني، حسم خياره باكرا بانضمامه الى الحركة الام للقضية الفلسطينية "فتح"، وهو في عمر السادسة عشر، كانت له مساهمة في التصدي للغزو الاسرائيلي لجنوب الليطاني في آذار العام 1978، بعد ان غلبت عليه دغدغة صورة الفدائي الفلسطيني التي كانت ما تزال نقية، الصورة التي شكلت عنده عقيدة، وحين يحدثك تكتشف انه مُلمٌ ويُمسك بالحجج الفكرية والفلسفية، ويحاجج الماركسي بالماركسية والماوي بالماوية، لكن التحول الكبير الذي تمثل في العدوان الاسرائيلي للبنان عام 1982، ووصول الدبابات الاسرائيلية الى قلب العاصمة بيروت، جعله يرسم لنفسه صورة ودورا جديدين، يتناسبان مع التحدي الكبير، فاخذ موقعه الفاعل في مقاومة الاحتلال، ونظم اولى المجموعات العسكرية التي حملت طابعا اسلاميا، وتجهيزها لمقاومة الاحتلال، كل ذلك كان يجري قبل ان يسمع اللبنانيون بتسمية تدل على وجود تنظيم باسم "حزب الله"، فالعمليات العسكرية التي نفذتها المجموعات التي شكلها عماد، ضد الاحتلال الاسرائيلي، كانت تجري في مناطق مدروسة من الناحية الجغرافية، وخارطة انتشار قوات الاحتلال فيها واضحة.
من اطلاق الخلايا الاولى للمقاومة…الى فرض معادلات توازن الرعب
نجح عماد مغنية في التأسيس لخلايا مقاومة للاحتلال، وان كان ضمن امكانيات متواضعة، قياسا للامكانيات التي كانت تتمتع بها قوى واطراف سياسية لبنانية وفلسطينية، مارست الفعل المقاوم ضد الاحتلال، وهو خطط لسلسلة من الضربات المؤلمة للاحتلال، رسمت معالم جديدة في مسيرة المقاومة، وفي الضربة الاولى التي وجهها الى رأس الاحتلال في منطقة صور، لم يكن عماد يحتاج الى دراسة مطولة لطبيعة الارض، لانه ابن المنطقة، وملم بكل تفاصيل الميدان، وهو كان قادرا على التحرك من دون لفت انتباه احد، وهذه المرحلة امتدت من بداية العدوان في حزيران العام 1982 وحتى تحرير منطقة صور في نيسان العام 1985.. يومها اراد ان يوجه الضربات المؤلمة التي تهز الكيان الاسرائيلي، وهي الضربات التي ستجعله ينهزم ويندحر، وقد فتحت هذه الضربة افاقا جديدة لتطوير عمل المقاومة، وتفاعلها مع الجنوبيين الذين خرج منهم في تلك المرحلة العشرات من الشباب.. للانخراط في مقاومة الاحتلال، وكبرت كرة الثلج.. فشق عماد طريقه مع مجموعة من الخبرات القيادية المتمرسة في الميدان العسكري، لبناء جسم عسكري لمقاومة الاحتلال، والعمل على ابتداع وابتكار اساليب قتالية تكتيكية واستراتيجية، تكفل الهزيمة للاحتلال، فراح العمل المقاوم يتراكم، وصولا الى التحرير الذي تحقق في ايار العام 2000، بعد ان تحولت مواقع ومراكز الاحتلال ودورياته الراجلة والالية ومواكب ضباط وجنود الاحتلال .. ومعهم المرتزقة في ما سُمي "جيش لبنان الجنوبي".. الى اهداف يومية، حتى تحول النزيف الاسرائيلي في جنوب لبنان الى محرك للمجتمع الصهيوني الذي راح يرفع الاصوات للانسحاب من لبنان "البلد اللعين الذي يقتل ابناءنا".
تحرير الجنوب.. الحدث الاحب الى قلبه
واكب عماد مغنية الحدث المحبب الى قلبه.. تحرير الجنوب وهزيمة اسرائيل، كان هذا الحدث عزيزا على قلبه، ومنه انطلق ليكون حافزا على تعزيز قدرات المقاومة لاستكمال المهمة، وهكذا كان، تحولت المقاومة الى جيش يزرع الرعب في نفوس جنرالات الاحتلال، جيش يمتلك العدة الكاملة لصنع توازن مع الاحتلال، وهو توازن شكل قلقا للاسرائيليين، وساهم عماد مع امينين عامين للحزب هما الشهيد السيد عباس الموسوي والسيد حسن نصرالله، في صنع مدرسة قتالية قادرة على مواجهة الاحتلال، من خلال عمليات تجهيز واعداد متواصلة، في العديد والعتاد ، لصناعة قوة يهاب منها الاحتلال وغير الاحتلال، وقد تُرجمت نتائج هذه المدرسة القتالية خلال عدوان تموز عام 2006، وبالخوف الاسرائيلي السائد، من ان تغطي صواريخ حزب الله سماء تل ابيب في الساعة الاولى من الحرب المقبلة، وفق ما قال الاسرائيليون، وهم يشيرون الى الترسانة الصاروخية المتعاظمة التي يمتلكها "حزب الله".
نصرالله.. والحرب المفتوحة
امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله الذي تحدث بتأثر، عن الشهيد عماد مغنية ودوره في صناعة انتصارات المقاومة، وفي تعزيز قدرات المقاومة ودوره في عمليات تحرير الاسرى والشهداء من سجون العدو، في عملية "الوعد الصادق" وردة في بلدة عيتا الشعب الحدودية، سجل نصرالله لقائد مقاومته الدور الاساس في تطوير قدرة المقاومة وتنامي فاعليتها، فالقائد الاستثنائي في الزمن الاستثنائي الذي رسمته مسيرة المقاومة على مدى ستة وعشرين عاما، جعل من المقاومة .. القوة التي تخافها اسرائيل، واغتيال اسرائيل لابرز الوجوه السرية للمقاومة، جعل السيد يعلنه فاتحة للحرب المفتوحة، وهو قال في وداع "ساحر المقاومة" هم قلقون ومرعوبون وخائفون ليس فقط في فلسطين، بل في كل انحاء العالم، دعوهم يقلقوا، فليذوقوا طعم الخوف والقلق والرعب، الذي طالما اذاقوه لشعوبنا واهلنا.. وتوجه الى الاسرائيليين بالقول " ان كنتم تريدون هذا النوع من الحرب المفتوحة، فليسمع العالم كله .. فلتكن هذه الحرب المفتوحة.. لقد ترك لنا عماد مغنية الالاف من المقاومين الاشداء".
بعد ثماني سنوات على استشهاده، يبقى عماد مغنية، الاسم الاكثر حضورا في وجدان رفاقه المقاومين، الاسم الذي اقلق على مدى السنوات الماضية الكيان الاسرائيلي، مع عطاءات عماد مغنية، راحت اسرائيل تقتنع اكثر فاكثر، ان حزب الله عدوّ معقد للغاية، تنظيم متكامل يتسم بالصلابة ولا يجب الاستهانة بقدراته.. لقد اصحبنا نتلمّس طريقنا في العتمة كالعميان قبالة حزب الله، لقد اظهر حزب الله ان لديه مهارات استخبارية محترفة جداً، وفي الوقت نفسه لديه قدرات تكنولوجية متطورة جداً .
في الثاني عشر من شباط قبل ثماني سنوات .. خسرت المقاومة احد اهم اعمدتها، لم تصمد نشوة "الانتصار الاسرائيلي" باغتيال عماد مغنية، بعد ان استفاقت على ما انجزه على مستوى اعداد مقاومة قادرة على السيطرة على الجليل الفلسطيني المحتل “اذا طُلب منها ذلك، واستطاع السيد نصرالله ان يُقنع الاسرائيليين بان "تموز سيكون نزهة" قياسا لما ينتظرهم، وجعلهم يتلمسون معالم المدرسة التي اعدها عماد قبل رحيله، فالمقاومة التي نسفت قواعد الصراع القائم بعد ان رسمت معادلات جديدة لهذا الصراع، وهي قواعد لم يجرؤ احد على رسمها في تاريخ الصراع العربي ـ الاسرائيلي.. الم يكن عماد مغنية القائد الفعلي لحرب الـ 33 يوما، والى جانبه جيش من الخبرات والكفاءات القتالية؟