قيل الكثير في الساعات الأخيرة عن طبيعة التشكيلة الحكومية التي يرأسها تمام سلام: المرحبون قلة، والساخطون كثر، والمشككون في صمودها أكثر.
علي عبادي
قيل الكثير في الساعات الأخيرة عن طبيعة التشكيلة الحكومية التي يرأسها تمام سلام: المرحبون قلة، والساخطون كثر، والمشككون في صمودها أكثر.
صحيح أن هذه التشكيلة ليست مثالية الى حد كبير، لكنها تعكس نوعاً ما طبيعة الوضع السياسي القائم في البلاد وما يكتنفه من حدة في المواجهة حول مواضيع مختلفة.
من جهة 8 آذار والتيار الوطني الحر، لم يطرأ على تشكيلتهما تغيير كبير في الوجوه، وهي تتسم في الغالب بخبرة في العمل الوزاري والسياسي. تخلى هذا الفريق، بالمقارنة مع تشكيلة الحكومة السابقة، عن حقائب هامة مثل الاتصالات والعدل، لكنه كسب المالية (علي حسن خليل)، وهي حقيبة محورية في عمل الحكومة طالما كانت من نصيب تيار المستقبل، والتربية (الياس ابو صعب)، واحتفظ أيضاً بالطاقة (أرتور نازاريان) والخارجية ( جبران باسيل). ولا يجب أن ننسى أن التنازل عن بعض الحقائب من مستلزمات المشاركة، خصوصاً أن "المستقبل" وحلفاءه من 14 آذار لم يكونوا ممثلين في الحكومة السابقة التي رأسها نجيب ميقاتي، بعدما رفضوا الانضمام اليها.
ومن جهة 14 آذار، دخلت وجوه جديدة مثل محمد المشنوق الذي يدخل العمل الحكومي وليس السياسي لأول مرة من باب وزارة الداخلية ذات الأهمية الأمنية والبلدية، واللواء المتقاعد أشرف ريفي الذي يتسلم وزارة العدل من غير خبرة في الحقوق والقضاء، وهذه من عيوب التشكيلة. وعُين بطرس حرب، وهو محام ٍوسياسي عتيق ووزير سابق، وزيراً للإتصالات! ولسنا نُغفل أهمية الوزارات الأخرى، لكن المنافسة تمحورت في الغالب حول الحقائب المذكورة أعلاه باعتبارها - كما توصف- "سيادية" او ذات أهمية خدماتية خاصة.
تشكيلة وتحديات الداخل والخارج
في أذهان الكثير من مناصري 8 آذار تحفظات او اعتراضات على شخصيات في الحكومة الجديدة، وتحديداً اللواء ريفي الذي رعى واحتضن المجموعات المسلحة في طرابلس حتى عندما كان مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي، وكان عدم التمديد له في هذا المنصب محل خلاف بين الرئيس السابق للحكومة نجيب ميقاتي وحزب الله، وانصرف ريفي في الفترة التي تلت خروجه من السلك الأمني الى اتخاذ مواقف حادة لا تليق بموقعه السابق ومناقبيته الأمنية المفترضة، فظهر محرضاً وراعياً لحالة الإنفلات في طرابلس. وقد يكون ذلك بالذات السببَ المباشر الذي دفع الرئيس سعد الحريري الى ترشيحه للوزارة، رغبة في استعادته الى صفه والاستفادة منه في ضبط الجماعات التي خرجت على "تيار المستقبل" ورفض بعض متزعميها علناً في الاسابيع الاخيرة عودة الحريري الى لبنان بسبب قبوله الدخول في حكومة واحدة مع حزب الله. ويمثل ترحيب بعض الجماعات المسلحة بتوزير ريفي إشارة الى التقاط الحريري نبض شارعه الطرابلسي المتمرد. غير ان الأمور محكومة بالنتائج: هل سنشهد فعلاً تهدئة دائمة للوضع في طرابلس خلال فترة عمل الحكومة الحالية؟ سؤال مفتوح. وثمة تحدٍ آخر مطروح أمام الوزير ريفي يتعلق بمدى إسهامه في حل قضية الموقوفين المحسوبين على "الإسلاميين" وأغلبهم من الشمال، وهو ملف لم يحقق تقدماً برغم كل ما قيل وبُذل في السنوات الأخيرة في ضوء تشعباته الامنية.
أما وزير الداخلية نهاد المشنوق، فهو وإن تبنى مواقف حادة أحياناً إزاء حزب الله، فهو يبقى شخصية محاورة وصاحب تفكير مستقل نسبياً ضمن فريق "المستقبل". ونظراً لأهمية الوزارة التي يتولاها، يستعيد بعضهم إتهامات تناولته في التسعينيات بالاتصال مع اسرائيليين، وسافر بسببها الى باريس، قبل ان يرتب الرئيس رفيق الحريري عملية مصالحة جمعتهما مع مسؤولين سوريين في دمشق.
وهناك شخصية أخرى مثيرة لبعض الجدل في هذه الحكومة وهي وزيرة المهجرين القاضية أليس شبطيني، التي أصدرت- حين كانت رئيسة لمحكمة التمييز العسكرية- أحكاماً مخففة أو أمرت بإطلاق متعاملين مع العدو.
كل هذه الملاحظات قد تكون في محلها، لكن المهم يبقى الممارسة الوزارية، والأكثر أهمية هو النظر الى حجم التحديات التي تواجه البلد والتي تجعل الخلاف حول التشكيلة الحكومية، مهما كان كبيراً، غير ذي موضوع ونوعاً من الخلاف حول جنس الملائكة، في وقت يحتاج اللبنانيون الى إعادة تهدئة خطاب الشيطنة والتكفير الذي ينطلق من هنا وهناك ويشكل البيئة الحاضنة للإرهاب الذي يضرب الناس الآمنين في الشوارع ويمكن أن يحدث تصدّعات خطيرة في البنية الإجتماعية – السياسية الوطنية.
تنازلات ودروس التجارب الماضية
لو كانت الأولويات القائمة لدى كل فريق تبدأ من الحصص الوزارية وتنتهي عندها، فعلى الأرجح لم تكن لتشكـَّل الحكومة ولم يكن ليحصل تلاق ٍسياسي في المدى المنظور، بالنظر الى تجربة الشهور الماضية. ولكن اذا كان لدى كل الفرقاء نزوع نحو التنازل والتضحية ببعض المكتسبات، ولو بنسب متفاوتة كما ظهر خلال الأيام الماضية، فذلك يمهد السبيل لإعادة لمّ الشمل الحكومي حتى مع وجود اختلافات جوهرية حول قضايا سياسية مطروحة. الإلتقاء بحد ذاته مطلب ينطوي على مصلحة وطنية عامة، ومن يقول غير ذلك، فعليه أن لا ينتظر البديل من الفراغ. الفراغ قاتل ويحمل معه كل المخاطر المنتظرة وغير المنتظرة. ولا ننسى ان لبنان يمر باهتراء وتراجع على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والادارية مما لا يسرّ خاطر أحد. اذا كان هذا هو الواقع، فالأولى البحث عن صيغة واقعية لمجابهة بعض التحديات الحاضرة بدل الإيغال في المناكفات والمواجهات غير المثمرة.
لقد حصل تنازلان أساسيان قبيل تشكيل الحكومة: فريق 14 آذار تراجع عن "لا" قاطعة رفعها في وجه تشكيل حكومة سياسية جامعة مع حزب الله، داعياً الى تشكل حكومة تكنوقراط حيادية، ومبعث هذا التنازل ينبغي أن يُقرأ من خلفية إقليمية ودولية ترتسم شيئاً فشيئاً في اتجاه وقف الإنحدار السياسي في لبنان وتراجع مكانة فريق 14 آذار، وتحديداً تيار المستقبل في شارعه لمصلحة قوى متطرفة غير واضحة المعالم بعد، وفي وقف هذا الإنحدار مصلحة لبنانية عامة أيضاً.
وفي المقابل، لاقى فريق 8 آذار والتيار الوطني الحر هذا التنازل في منتصف الطريق بتسهيل ولادة الحكومة من دون التقيد بتوزيع الحصص التي حددها سابقاً، أي 9-9-6 ( 9 لفريق 8 آذار والتيار، و9 لفريق 14 آذار، و6 لرئيس الجمهورية ووليد جنبلاط) ، ليكون التوزيع على أساس 8-8-6 . وقد كان فريق 8 آذار والتيار الوطني الحر يسعى دوماً الى الإحتفاظ بتمثيل حكومي يوازي تمثيله النيابي بما يمكنه من نقض أي قرار يخالف التوجهات الوفاقية. ولكن ما هي الضمانة الآن لعدم اتخاذ هكذا قرار؟ لا ضمانات سياسية يمكن الأخذ بها في لبنان، لأن القرار ليس محلياً بحتاً، خاصة لدى فريق 14 آذار الذي يتأثر بالمناخ الخارجي والقوى الداعمة له على نحو واضح، وهو يضع كل آماله لديها لكي تعزز حضوره وهيمنته على المشهد السياسي في لبنان، بخلاف فريق 8 آذار وحلفائه الذين يمتلكون مجالاً لا نظير عند الفريق الآخر لتقرير وجهته السياسية المحلية.
وفي هذه الحالة، سيكون الوضع السياسي مدار تقييم يومي بحسب طبيعة الأحداث، ولدى فريق 8 آذار وحلفائه تجارب ماضية لم يعتمد فيها على الثلث الضامن (أي الثلث + 1) لفرض احترام مصالحه الحيوية واتخاذ القرار في مجلس الوزراء بالتوافق، اذ سبق له ان تمكن من الدفع باتجاه تشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي من دون فريق 14 آذار، بمعاونة النائب وليد جنبلاط وكتلته (النضال الوطني)، بعدما أسقط باستقالة جماعية حكومة سعد الحريري عام 2009، بالإعتماد على وزير "وديعة" لدى رئيس الجمهورية (د. عدنان السيد حسين). والآن يمكنه أن يعيد الكرّة مرة أخرى، سواء بالإعتماد على الوزير عبدالمطلب حناوي الذي يُعتبر حالياً من حصة رئيس الجمهورية، او بالتكافل مع النائب جنبلاط الذي سيجد من الصعوبة بمكان البقاء في حكومة يكون فيها التمثيل الشيعي غائباً، وهو قد امتنع عن مجاراة سعد الحريري في الدعوة الى حكومة تكنوقراط رفضها حزب الله وحركة امل والتيار الوطني الحر وحلفاؤهم. زيادة على ذلك، فإن محاولات تهميش حزب الله في المرحلة الماضية لم تثمر، بل وزادت من حجم إخفاقات الفريق الآخر ودفعته للخروج من السلطة، وسيكون عليه أن يحسب للأمر حساباً دقيقاً قبل ان يعود لارتكاب الخطأ عينه.
ويبقى البيان الوزاري نقطة ارتكاز مهمة في العمل الحكومي، وسيكون إيجاد صيغة توافقية تحدياً أمام جميع الأطراف الذين خاضوا مفاوضات طويلة قبل تشكيل الحكومة، ومن غير المستبعد ان يخوضوا مفاوضات إضافية لإخراج بيان وزاري يحظى بدعم الجميع، ولو لم يعبر عن كامل طموحهم.
إرادة النجاح
باختصار، هي صيغة "لا غالب ولا مغلوب"، التي مهما تخيل البعض أن بإمكانه تجاوزها سيصطدم بالواقع المرير الذي يفرض حاجة الجميع الى الجميع. لكن الرياح العواصف التي تهب على المنطقة، وبالأخص على سوريا، لن تترك لبنان بمعزل عن تأثيراتها. وهذا ينعكس بطبيعة الحال على المواقف السياسية وعلى الإستقرار الحكومي. والمؤكد ان الجهات الخارجية الراعية لفريق 14 آذار، وفي مقدمها السعودية وأميركا، تسعى لفصل مؤقت بين الوضع في لبنان وتداعيات الأزمة السورية، بعدما اتضح لها أن أجندة القوى التكفيرية على اختلافها قد تسيء على المدى البعيد لمصالح هذه الجهات أكثر مما تؤذي مصالح حزب الله وحلفائه. وبقدر ما ساعد فريق 8 آذار والتيار الوطني الحر على تسهيل تشكيل الحكومة وهيأ فرصة لمساعدة تيار "المستقبل" على إعادة ضبط شارعه المنفلت، تقع على عاتق 14 آذار مسؤولية الاستفادة من هذه الفرصة والتعامل معها بنهج جديد يبتعد عن المكايدة ومحاولات العزل والتهميش، وتلك مهمة تبدو غير سهلة في ظل الإختناق الداخلي وكثرة المبخّرين للفتنة، ما يتطلب توافر إرادة قوية لإنجاح الحكومة.
وفي حال كُتب العمر المديد لهذه الحكومة، لو تأخر الاستحقاق الرئاسي عن موعده، سيكون على أقطابها البحث عن سبل أكثر متانة للتعايش، لكي تتجاوز مصاعب الظروف غير المثالية داخلياً وخارجياً التي ولدت في ظلها.