27-11-2024 12:19 AM بتوقيت القدس المحتلة

"معركة يبرود" في الميدان والسياسة

يحصل هذا فيما تدور معارك ضارية على الأرض، يضعف فيها عود مقاتلين أعلن جُلهم رفض المفاوضات الراهنة، يسد عبرها "حزب الله" منافذ الهجمات المفخخة على مناطق في الداخل اللبناني

الجيش السوري في يبرودإن مَن تعتبره الآن عدوك هو من سيؤازرك وينصرك غداً. فإن لم ترفقوا بأنفسكم فارفقوا بأبنائكم وأحفادكم، وربّما بتلك «القصبة الهشَّة» التي تبقى أروع ما في الوجود، أي الإنسان.

ربيع بركات/ جريدة السفير

في التحليل الماركسي للواقع، أن الأفكار بنىً فوقية في المجتمع، بينما علاقات الإنتاج بنىً تحتية. الأخيرة تحدد مسار التاريخ، فيما الأولى مجرد انعكاس لها أو تعبير عنها.

إذا استعرنا هذه القراءة، تبدو الحكومة اللبنانية العتيدة بنية فوقية بامتياز: هي مؤسسة ترمز لإدارة الواقع فيما لا تديره عملياً. إذ إن القرار الفعلي نتاج العوامل مجتمعة ً على الأرض. هكذا كان الأمر دوماً في السنوات الأخيرة. حتى في حكومة قوى «الثامن من آذار» مضافاً إليها الجنرال ميشال عون وحليفها المؤقت وليد جنبلاط، كان التطرق إلى المسألة السورية، وهي على رأس الأولويات، غير مقيد باعتبارات «حزب الله» أو حلفائه حصراً، بل خلاصة المعادلات والموازين. من هنا جاءت سياسة "النأي بالنفس" في حكومة الرئيس ميقاتي لتعلن وقوفها على الحياد في ما يخص القضية الإقليمية الكبرى وتسلل المقاتلين من أرضها وإليها فرادى وجماعات، مباشرة أو مواربة، دعماً للنظام أو سنداً للمعارضة، واستهدافاً لهذه البيئة اللبنانية أو تلك.

ومن هنا، مثلاً، يمكن فهم أداء وزير الداخلية اللبناني مروان شربل الذي التزم استخدام الحد الأدنى من سلطة الدولة، لأن الظروف والموازين، أو قل البنى التحتية وفق القراءة أعلاه، لم تتح خلاف ذلك، عدا مرات قليلة انفلتت فيها الأمور من عقالها وخرجت عن الخطوط المانعة لانفجار شامل.

تبدو "معركة يبرود" عنوان التحول الجاري على الأرض اليوم، بمعزل عن إدارة البنية الحكومية. وللمعركة التي مهد لها طرفاها على مدار أشهر، عن طريق قضم الأراضي والقصف الممنهج وصولات الاستنزاف وتصدير السيارات المفخخة، أبعاد استراتيجية، وأخرى تمس الواقع الراهن.

السوريون لدى عودتهم إلى القصير محررة من المسلحين الإرهابينفلناحية البعد الاستراتيجي، تمثل يبرود منعطفاً في سير المعارك القائمة في ريف دمشق الغربي، بعدما شكلت معركة القصير قبل أقل من عام محطة مفصلية في معارك ريف حمص الغربي. والأولى، كما كانت الثانية قبلها، تأتي في سياق قلب الموزاين على الأرض المحيطة بالعاصمة دمشق ومدن الوسط الكبرى (حمص وحماه).

ولئن شكلت معركة القصير أبرز تراجع عن شعار "إسقاط دمشق" الذي رفعته قوى المعارضة المسلحة قبل عام بالضبط من اليوم، فإن معركة يبرود تُدار توازياً مع مفاوضات شرّعتها توافقات دولية، ومن أجل حصد مزيد من الأوراق خلالها، علماً أن المفاوضات مرشحة للاستمرار على شاكلة "جنيفات" كثيرات.

أما البعد المباشر للمعركة، فيتصل بالاستهداف الممنهج لبيئة "حزب الله" بالعمليات التفجيرية، العقائدية منها والاستخبارية. فمنطقة المعارك، كما تشير جل التقارير الأمنية، مبعث السيارات المفخخة العابرة للحدود. والإشارة التي وردت على لسان الأمين العام لـ"حزب الله" حيال المسألة، تبدو نافلة لشدة بديهيتها. لكن البعض، برغم ذلك، آثر قراءتها من زاوية مختلفة. فمنه من وصف الأمر بـ"الحرب الاستباقية" (علماً أن العمليات الانتحارية، المُنفذة منها والمُحبطة، ليست ضرباً من الوهم في مخيال المتضررين منها)، ومنهم من آثر تقديم رؤية نقدية أكثر جدية، تعود بالمسألة إلى جذورها، وتحاول توظيفها في سياق تعديل طبيعة التفاوض في "جنيف" المقبل أو الذي يليه.

من هذه الزاوية يمكن قراءة نقد "هيئة التنسيق الوطنية لقوى المعارضة السورية"، أو التجمع الأبرز لـ"معارضة الداخل"، لكلام نصر الله الأخير. وبرغم أن النقد ليس الأول من نوعه، إلا أنه جاء أكثر حدةً هذه المرة من سابقاتها. و"هيئة التنسيق" دأبت طوال الأزمة على التذكير بلاءاتها الثلاث، الخاصة بالعسكرة والطائفية والتدخل الخارجي، وهي كانت أمينة لها جميعاً. وفي نقدها الحاد لخطاب "حزب الله" الأخير، ما يتصل برفضها منطق العسكرة والتدخل الخارجي من حيث المبدأ، وما يرتبط بكونها على الضفة المقابلة للنظام، ولو أنها على مسافة من معارضة الخارج ومسلحي الداخل على السواء.

بيد أن انفتاح الاحتمالات على انضمام "هيئة التنسيق" لوفد المعارضة في مقبل جلسات التفاوض، دفع بها إلى رفع نبرة خطابها تأكيداً على هويتها "المعارِضة" ودرءاً لاتهامها بالوسطية أو باللعب على الحبال جميعاً. وبرغم أن "الهيئة" لا ترى في التواصل مع الجميع، من دون استثناء، ضيراً، بل ضرورة للدفع في اتجاه التسوية، إلا أن خطواتها باتجاه معارضة الخارج، الراعية بدورها لعمليات العسكرة والتدخل الخارجي (خلافاً للاءات "الهيئة" الثلاث)، تبدو تكتيكاً، الغاية منه استثمار الظرف الذي يسمح لها بتعديل مكونات الوفد المعارض، وضم قوىً لا طائفية معنية بمستقبل البلاد إليه، لموازنة تلك المعنية أساساً بشؤون رعاتها الخارجيين أو طموحها السلطوي.

هكذا، تدار معركة يبرود على الأرض لتوظَف لاحقاً في المفاوضات، فيما تدير القوى الكبرى، توازياً، معركة توازناتٍ لتعديل خريطة المعارضة. وقد برز من هنا طرح يقضي بتوسيع هامش مشاركة المعارضة ذات البنية المدنية، قلباً وقالباً، وغير المنساقة خلف جموح العسكرة الذي أنتج ظواهر عجيبة، يحاول رعاتها أو المتساهلون معها في الإقليم والغرب تداركها اليوم.

الوفد السوري المعارض في جنيفوفي حين يحذر ناشطون في الداخل قريبون من خط "الهيئة" من ذوبانها في وفد المعارضة من دون تمايز عن سائر المكونات، تجهد "الهيئة" لتأكيد الحفاظ على "ثوابتها": فمن لا يقبل بالعسكرة أو بالتدخل، يرفض كلاهما بالمطلق، لا بالتفاضل أو بالتجزئة.

غير أن السير بين الألغام مهمة صعبة. والبراغماتية مطلوبة لتجاوز أفخاخ الدول (عبر ممثليها في المعارضة)، غير الراغبة بحفاظ "الهيئة" على تمايزها، والناشطة في تسويق "فيتو" هنا وآخر هناك، لتصبح القضية مشاركة هيثم مناع أو حسن عبد العظيم، بدلاً من سياسة "الهيئة" أو خط "الائتلاف".

في قلب هذا المشهد، تصعّد "الهيئة" من لهجتها. تغض الطرف عن بعض اعتبارات "حزب الله"، برغم بداهتها، وتصلّب نقدها له في مجالٍ آخر تجاوباً مع لاءاتها. توازياً، تخفف من حدة احتجاجها على "الائتلاف"، وتحاول توظيف اللحظة التاريخية من أجل الدخول في عملية التسوية من غير أن يبتلعها الآخرون أو يحولوها ملحقاً لهم أو تابعاً، نظاماً كانوا أو معارضة.

يحصل هذا فيما تدور معارك ضارية على الأرض، يضعف فيها عود مقاتلين أعلن جُلهم رفض المفاوضات الراهنة، يسد عبرها "حزب الله" منافذ الهجمات المفخخة على مناطق في الداخل اللبناني، فيما يحاول النظام توظيفها لمصلحته في جولات التسوية.