فإدارة الجامعة لم تقرر فقط وضع شركة خاصة في قلب منهج التعليم، بل اختارت شركة لها تاريخ سيّئ من الممارسات المضرة في مجال الغذاء وداعمة بقوة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين...
سيحتل مقهى «نستله تول هاوس» الناحية الغربية من حرم الجامعة الأميركية في بيروت. هذا الخبر أثار موجة اعتراض عارمة في صفوف الأساتذة والطلاب؛ فإدارة الجامعة لم تقرر فقط وضع شركة خاصة في قلب منهج التعليم، بل اختارت شركة لها تاريخ سيّئ من الممارسات المضرة في مجال الغذاء وداعمة بقوة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.
حسين مهدي / جريدة الأخبار
في خطوة أثارت اعتراضات كبيرة في أوساط الهيئة التعليمية والطلاب، قررت إدارة الجامعة الأميركية في بيروت فتح الباب أمام «الاستثمارات التجارية الخاصة» في حرم الجامعة. باكورة هذا التوجّه كانت بعقد اتفاق طويل المدى مع شركة «تاهو» لافتتاح مقهى «نستله تول هاوس» في الجهة الغربية من الحرم. هذا القرار عدّه البعض يزج بالجامعة العريقة في مواجهة مع دعاة مقاطعة إسرائيل، لأنه ينطوي على الترويج لشركة «نستله»، المتهمة بدعم الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فيما قلل البعض الآخر من دلالات هذا القرار «التطبيعية» مع العدو، إلا أنه سلّط الأضواء على مسار متواصل يرمي إلى زيادة مستوى «التسليع» في هذه الجامعة.
الافتتاح في الربيع
الإدارة فخورة بهذا «الإنجاز» الذي يخدم مصلحة الجامعة وطلابها. بحسب الرسالة التي بعثتها زينة قصيفي باسم عميدة كلية العلوم الزراعية والغذائية نهلة حوّالا، وهي موجهة إلى الجهاز التعليمي في الكلية، ستبني الجامعة في حدود منشأتها «المقهى النموذجي الأول في لبنان» للشركة التي تديرها في لبنان شركة تاهو. وينص الاتفاق بين الطرفين، بحسب الرسالة التي حصلت «الأخبار» على نسخة منها، على أن المقهى سيفتتح أبوابه مع بداية الربيع، وسيسمح للطلاب باستخدام هذا المرفق لأغراض البحث العلمي والتطبيقي في مجال علم الأغذية، وسيكون للمقهى دور أساس في تدريب الطلاب وتعليمهم على تكنولوجيا الغذاء، وتحديداً طلاب علوم الغذاء، التغذية، والصناعات الزراعية، وذلك ضمن برنامج مفصل، بالإضافة إلى أنه ستتيح للطلاب الاطلاع على المعايير والنظم الدولية المتعلقة بالتغذية.
شكّلت هذه الرسالة صدمة للعديد من الأساتذة في الكلية نفسها. ولكن معظم من تحدثت معهم «الأخبار» فضّلوا عدم ذكر أسمائهم، بعضهم رفض أن تتعامل إدارة الجامعة مع شركة معروفة بدعمها لإسرائيل وسياساتها الاستيطانية، ومعظمهم رفض أن تنزلق الجامعة نحو الترويج لعلامة تجارية تقوم على تاريخ طويل من الانتهاكات في مجال التغذية السليمة. يذكّر أحد الأساتذة المعترضين أن «نستله» متورطة بحملات إعلانية مركّزة لحثّ الأمهات في دول العالم الثالث على استبدال الرضاعة الطبيعية بحليب الأطفال المنتج من قبل الشركة، وبالتالي هي مسؤولة (ربما) عن وفيات كثيرة بين الرضّع أو أقلّه مسؤولة عن مشكلات صحّية كبيرة نتجت من ضعف مناعة الأطفال وسوء تغذيتهم. ويضيف أستاذ آخر أن «نستله» متورطة في استغلال المياه والتأثير السلبي على البيئة من خلال ممارسات غير سليمة... ويتساءل هؤلاء: كيف يُسمح لهذه الشركة أن تصبح جزءاً من المنهج التعليمي في جامعة تدّعي أنها تحمل قيماً ومبادئ في خدمة الإنسان وتطوره؟
الدفاع بتعويم الأصل اللبناني
لم تنتظر المتحدّثة باسم كلية العلوم الزراعية والغذائية زينة قصيفي، الاستماع إلى أسئلة «الأخبار» عندما اتصلت بها؛ إذ كانت تتوقعها في ضوء الضجة الحاصلة في كليتها. سارعت مباشرة إلى الحديث عن هوية الشركة التي تمتلك امتياز «نستله تول هاوس»، فهي شركة مملوكة من لبنانيين، تعمل في كندا والولايات المتحدة الأميركية، وتختلف عن الشركة الأم في سويسرا، صاحبها لبناني اسمه زياد دلّال، وستدير المقهى في حرم الجامعة الأميركية شركة تدعى «تاهو»، وهي ايضا مملوكة من لبنانيين. وبحسب قصيفي، سيعود كامل الأرباح من هذا المقهى للشركة اللبنانية...
هذا الحديث الاستباقي الذي أغرقته قصيفي بلبننة فاقعة، كان مقدمة للسخرية من المعترضين على المشروع من زاوية مقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل. تردّ قصيفي: لماذا لا يقاطعون المنتجات كلها في الأسواق؟ وتجيب عن سؤال يتعلق بالسبب الكامن وراء اختيار هذه الشركة بالذات دون غيرها، بأن مديرها من متخرجي الجامعة، وقنوات الاتصال مفتوحة ومسهّلة بين الطرفين، كذلك إن الجامعة لن تتكلّف أي مبلغ لفتح المقهى وتجهيزه، بل على العكس ستستفيد ابتداءً من العام المقبل من نسبة 8% من الأرباح. وماذا عن اعتراض الأساتذة والطلاب على الإمعان في تسليع التعليم؟ هل كانت ضرورية الاستعانة بشركة تجارية خاصة لتعليم الطلاب؟ تجيب قصيفي: إن للطلاب مصلحة في هذا المشروع، سيتعلمون كيف يعمل «السيستام»، فوجود هذه الشركة سيكون بمثابة فرصة وإضافة علمية حقيقية للجامعة.
لا تبدو أجوبة قصيفي وتوضيحاتها مقنعة للجميع. يقول أحد الأساتذة: «حتى ولو كانت الشركة مملوكة من لبنانيين، فهي تخضع لشروط الامتياز الممنوح من شركة نستله، وبالتالي هي مجبَرة على تسويق منتجاتها وممارساتها حصراً، وبالتالي تقوم بدعم «نستله» اقتصادياً وترويج لعلامتها التجارية ضمن منهج تعليمي جامعي (وهذا ما يؤكده الموقع الإلكتروني للشركة بأي حال).
يلفت أستاذ آخر إلى أن كلام قصيفي يُظهر أن «الأهداف التجارية واضحة من خلال افتتاح المقهى، وقد يكون ذلك على حساب الأهداف التعليمية»!
توضيحات «تاهو»
يقول وكيل شركة «تاهو»، المحامي لطفي الحاج علي، إنه لا صلة بين «تاهو» وشركة «نستله» السويسرية؛ فهي بعيدة كل البعد عن دعم إسرائيل، وإن علاقتها بـ«نستله» تقتصر على أنها تمتلك الحق باستخدام اسم «نستله». وبحسب الحاج علي، هي ملزمة فقط بشراء المياه ومنتجات مثل «الشوكوليت كوكيز» من «نستله» بأسعار منخفضة. وشدد على أن لا شيء هنا خارج إطار القوانين اللبنانية.
ورأى مدير الشركة، حسن الحاج علي، أن شركته كأي شركة في لبنان تقوم بشراء منتجات من «نستله». وردّاً على سؤال عن اعتراض عدد من الأساتذة على الأهداف التجارية البحت للشركة، أجاب الحاج علي: «أحد الأساتذة طلب السماح بإقامة احتفال لولده في المقهى عند افتتاحه»!
لا لتسليع التعليم
الآراء والمواقف داخل هيئة التدريس والطلاب ليست موحّدة. أحد الأساتذة طلب من زملائه ألّا يزجوا بإسرائيل وفلسطين في كل قرار تتخذه إدارة الجامعة، مشيراً إلى أن الإدارة لها الحق والحرية في اتخاذ القرارات الأكاديمية التي تراها مناسبة، مذكراً بالاعتراضات – التي لا معنى لها برأيه – التي رافقت منح شهادات الدكتوراه الفخرية لعدد من الشخصيات، ويقصد الدكتوراه الفخرية التي قدمت لعدد من المطبّعين مع العدو الإسرائيلي (منهم الكيميائي المصري – الأميركي مصطفى السيد، الذي تسلّم عام 1993 دكتوراه فخرية من الجامعة العبريّة في القدس، والرئيس السابق للبنك الدولي جيمس ولفنسن الذي تربطه علاقات سياسية واقتصادية بالاحتلال، ودونا شلالا التي شغلت منصب وزيرة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية سابقاً، وتسببت إدارتها بنحو منهجي بتجويع الشعب العراقي في ظل أحد أنظمة العقوبات الأكثر وحشية في التاريخ البشري، ما أدى مباشرة إلى وفاة أكثر من مليون عراقي، نصفهم من الأطفال، وقد سبق لها أن تسلمت أكثر من دكتوراه فخرية وتكريم في عدد من الجامعات والمعاهد في إسرائيل). برأي هذا الأستاذ، إن ما تقوم به الجامعة ليس موجهاً ضد الشعب الفلسطيني، مشيراً إلى أن أسعار هذا المقهى ستكون أرخص بكثير مما هي الحال عليه خارج الحرم.
يردّ زميل له بأن هذا المنطق تبريري؛ فالجامعة الأميركية في بيروت تحديداً يجب عليها أن تحيّد نفسها بما يتعلق بالقضية الفلسطينية، احتراماً لطلابها ومحيطها وتاريخها، وعليها أن ترفض النموذج التجاري لـ«نستله»، الذي لا يصب إلّا في خانة الفساد الأخلاقي، والانحدار التعليمي للجامعة.
تذهب إحدى المدرسات في الكلية أبعد من زميليها، تقول: «من العار ليس فقط أن تقوم الجامعة بتوقيع اتفاقية مع شركة خاصة لها هذا التاريخ السيئ، بل أيضاً أن تستعين بشركة خاصة في الوقت الذي تملك فيه الجامعة كادر تعليمي متخصص قادر على أن يقدم للطالب ما لا تستطيع أي شركة تقديمه، وتمنت لو أن الجامعة فسحت المجال للطلاب أنفسهم بفتح المقهى وإدارته وإجراء الأبحاث الغذائية وغيرها تحت إشراف الأساتذة والكلية، عوضاً عن الاستعانة بشركة خاصة. لو قامت بذلك لكنّا قد ساعدنا الطلاب، ليس فقط من خلال التدريب، بل أيضاً من خلال نظام يسمح للطالب والإدارة على حد سواء أن يستفيد علمياً ومادياً من المقهى».
تنشر الشركة معلومات أنها ستستثمر نحو مليون دولار أميركي في إنشاء هذا المقهى وتشغيله. مدة العقد الموقع مع الجامعة خمس سنوات، تجدد لمدة عشر سنوات إذا لم يبدر عن أي طرف أي مخالفة. بمعنى أن المقهى التجاري سيبقى في الجامعة لمدة 15 عاماً، في حين أن الجامعة تخطط لرفع أقساطها بنسبة 6% «للحفاظ على مستوى التعليم» مع بداية العام الدراسي الجديد.
الطلاب الذين أبدوا امتعاضهم مما يحصل، هم بصدد التحضير لتحرك الأسبوع المقبل لتسجيل موقف مناهض لسياسات الجامعة، ليس فقط في موضوع «نستله»، والمحافظة على مستوى الجامعة، بل ليسائلوها عن المكان الفعلي الذي ذهبت إليه أموال زيادة الأقساط السابقة!