مقاتلو «داعش»، لا يحاربون نظام الأسد الآن، هم يعيشون في المدينة ومع السكان، يأكلون ويشربون ويتصفحون الإنترنت، ويسيّرون الدوريات لمراقبة تطبيق صلاة الجماعة والنقاب والمدخنين
يتجمّع الناس، رجالاً ونساءً وأطفالاً، على الأرضية العشبية في حديقة الأطفال بحي الفردوس، أمام خيمة صغيرة، وبجانبها مكبرات صوت كبيرة، مُسدلة على مدخل الخيمة «راية القاعدة»، ويعلو الصوت في المكبر «من يعرف؟»، فترتفع الأيادي وتبدأ الأجوبة العشوائية بصوت منخفض.
عند أحد مداخل الحديقة يخرج طفل مسرع، يحمل قطعاً من الحلوى والشوكولاته وعلبة مغلفة فوق دفتر ربحها للتو في المسابقة «الدينية» التي تصل جوائزها إلى الهواتف النقالة، وعلى المدخل الآخر لا تزال رسومات «حملة علمنا» الموجهة للأطفال على جدران الحديقة، رُسمت مع أول أيام سيطرة قوات المعارضة المسلحة على مدينة الرقة في آذار (مارس) 2013.
يقف عنصر تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» حاملاً المايكروفون، ويبدأ بطرح الأسئلة على الجمع أمامه، بينما يقوم طفل لا يكاد يتجاوز الثانية عشرة من العمر، يحمل بندقية، يناوبها مرة على كتفه اليمين، ومرة بيده، ينظم صف الناس المتجمهرين، يطلب المقاتل الذي يحمل المايكروفون أحد الأطفال، فتتقدم طفلة لا تتجاوز الخمس سنوات، يسألها «ماذا تعرفين عن الدولة الإسلامية؟»، فتجيب الفتاة بسرعة وبخجل «الرقة!»، يضحك المتفرجون، ومن ثم يقول المقاتل متفاخراً: «هل تعلمون أن الرقة التي تحكمها الدولة الإسلامية أكبر من مساحة دولة الكويت؟!».
هذه المسابقة ليست الأولى التي يقيمها التنظيم في المدينة، فقد سبق أن بنى «خيمة دعوية» في دوار النعيم وسط المدينة من قبل وأقام النشاط ذاته، على رغم أنه وقتها كان يتقاسم مع جبهة النصرة و «أحرار الشام» السيطرة على المدينة.
على بعد بضعة أمتار من الحديقة، وفي الحي ذاته، تصطف النساء في طوابير طويلة، ولساعات أطول، قد تصل أحياناً إلى السبع ساعات، أمام المخبز في انتظار حصولهن على ربطة خبز واحدة، ويقف رجل مسلح وملثم ينظم الدور، في السابق كان هذا الفرن للرجال والنساء، ولكن التنظيم منع الاختلاط، فخصص مخبزين للنساء ومخبزاً واحداً للرجال من ضمن المخابز الحكومية، فيما يفرض على بعض المخابز الخاصة تخصيص ساعات أو أيام محددة للرجال، وأخرى للنساء اللواتي يشترط عليهن وضع «الحجاب الشرعي» كي يسمح لهن بالوقوف للحصول على الخبز. بالقرب من الرجل الملثم يقف «مهاجر» تونسي الجنسية، كما تقول بعض النساء، يشتمهن ويصفهن بأنهن «غير محترمات»، ويقارن بينهن وبين النساء السوريات من دير الزور اللواتي يصف أصواتهن بالعالية، وبنظيراتهن من ريف حلب اللواتي يصفهن بأنهن «كويسات»، ويقول لهن - وفقاً لبعض النساء - إنهن يُردن عودة الجيش الحرّ كي ينزعن النقاب، ويشربن الخمر.
إنّها الثكنة!
في حي الثكنة المجاور، وبينما يؤدي أصحاب المحال التجارية صلاة العصر في مسجد الحي، تقف سيارة عائلية حديثة لا تحمل لوحات تسجيل، يستقلها ثلاثة من مقاتلي تنظيم «داعش»، أمام أحد المحال الذي لم يغلق في شكل كامل، فقد أغلق الباب الزجاجي الذي في مدخل المحل فقط، ويترجل منها أحد المقاتلين، يتقدم ببطء نحو المحل وهو عبارة عن مصبغة لكي الملابس، ومن ثم يعود للخلف، تمر الدقائق وينهي المصلون صلاتهم، ويعود أصحاب المحال التجارية لممارسة أعمالهم. على بعد بضعة محال وفي الصف ذاته، مطعم للوجبات السريعة، وفور افتتاحه يتجه المقاتلون صوبه ليشتروا منه، يقول أحد سكان الحي مستاء «هم (داعش) يجوز لهم ألا يصلوا الصلاة في موعدها، أما نحن فلا، ويجب علينا أن نغلق محالنا وقت الصلاة».
في المساء، يتجمع عدد من عناصر التنظيم أمام مطعم «الحاضري» للوجبات السريعة في الحي، الزبائن بغالبيتهم اليوم من العسكريين، وهم تحديداً المقاتلون غير السوريين أو من يسمون أنفسهم «مهاجرين»، يطلبون وجبات متنوعة من الأطعمة الغربية، وعلى هامش الانتظار لحين انتهاء الطلبات يفتتحون أحاديث جانبية مع الزبائن المدنيين الآخرين، يقول أحد المقاتلين لأحد المدنيين «الدول تبنى بالتضحيات وبالدماء، وليس بالمفاوضات والحلول السلمية»، معلقاً على مؤتمر «جنيف - 2»، ويتابع «نحن تركنا أولادنا وديارنا ونساءنا، وجئنا لننصر ديننا»، فيرد عليه المدني ووجهه يخلو من الملامح «الله يوفقكم»، في الوقت الذي يقول مقاتل آخر لأحد العاملين في المطعم «والله يتصل بنا السكان في المناطق التي خرجت منها الدولة (داعش) ويشتكون من السرقات والنهب والاغتصاب بعد سيطرة الجيش الحر».
بين هذين المتجرين محل للحلاقة، يدخل إليه مقاتل لا يتكلم اللغة العربية ولا حتى الإنكليزية، فهو شيشاني يتحدث اللغة الروسية فقط، يحاول هذا المقاتل قول شيء للشاب الذي يعمل في المحل، ويستخدم الوصف ولغة الإشارة، وبعد دقائق عدة، يفهم الشاب أن المطلوب هو تشذيب لحية المقاتل بواسطة مصفف الشعر، ينتهي الشاب من التصفيف، يحاول المقاتل دفع الأجرة ولكن الشاب يحرك يده له وكأنه يقول «غير مرّة»، بات صاحب المحل يتقن التعامل معهم حتى لو من دون معرفة لغتهم، فقد أصبح بعضهم زبائن عنده.
على الجانب الآخر من الحي، يقع «المطبخ الإغاثي» والذي يقدم وجبات غذائية مجانية للفقراء والنازحين منذ ما يزيد على العامين، ويقف أمام المطبخ طابور طويل من النساء والأطفال، في انتظار بعض الوجبات، ولكن بالقرب منه أيضاً يقع فندقا اللازورد والكرنك السياحي اللذان يتخذهما التنظيم مسكناً لعدد من المقاتلين وزوجاتهم، وكُتب على الباب الزجاجي لفندق اللازورد «ممنوع الدخول - مكان خاص»، تصطف أمام الفندقين سيارات حديثة، ويُدخِل المقاتلون الطعام والأغطية ومعدات المنزل إلى داخل الفندقين، ولكن وبسبب الضغط الشديد وازدياد أعداد المقاتلين غير السوريين، بات التنظيم يجبر السكان ممكن يملكون أكثر من منزل على تسليم مفاتيح المنازل التي لا يستخدمها. «أوَ ترضى أن يسكن أخوك المجاهد في الشارع؟»، هكذا يصف أحد الأشخاص الحديث الذي دار بينه وبين أحد عناصر التنظيم عندما حاولوا الاستيلاء على منزل ابنه الذي يسكن حالياً خارج البلاد.
بيع وشراء وإنترنت!
يدور حديث بين شابين في الحي، فيقول أحدهما للآخر بلهجة عامية بسيطة، «لازم يسموه الجبهة»، فيقاطعه صديقه بالقول «لأ الفرقة 17 أحسن»، يُعبّر هذان الشابان عن حالة الاستياء العامة في أوساط السكان، والتي باتت في بعض الأحيان أمراً طبيعياً، فمقاتلو «داعش»، لا يحاربون نظام الأسد الآن، هم يعيشون في المدينة ومع السكان، يأكلون ويشربون ويتصفحون الإنترنت، ويسيّرون الدوريات لمراقبة تطبيق صلاة الجماعة والنقاب والمدخنين، ولكنهم لا يذهبون إلى القتال ضد النظام، وقتالهم الوحيد الآن ضد فصائل المعارضة المسلحة.
أجبرت الأوضاع المعيشية السيئة، وتأخر أو انعدام حصول الموظفين على رواتبهم من الدوائر الحكومية واضطرارهم للسفر إلى خارج المحافظة للحصول عليه، عدداً كبيراً من السكان على بيع كل ما يمكن بيعه في الشوارع، فباتت «البسطات» منتشرة بكثرة في شوارع المدينة، خصوصاً شارع تل أبيض السوق التجارية الكبرى في الرقة.
تتنوع محتويات هذا البسطات لتشمل الخضار والفواكه والأغذية والأحذية والألبسة وألعاب الأطفال، وحتى الألبسة العسكرية وجدت مكاناً لها وسط هذا الزحام، فقد خصص بعض الباعة بسطات بعينها لبيع البنطلونات والستر وحمالات الذخيرة وحوامل المسدسات، والتي تتوافر باللونين العسكري أي الأخضر والأصفر مجتمعة (المموه) واللون الأسود، وأحياناً كثيرة توجد ذخيرة المسدسات في هذه البسطات التي كانت تبيع أيضاً أعلام الاستقلال (علم الثورة السورية) ورايات بيضاً وسوداً كتب عليها عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، لكنها اليوم تبيع فقط رايات «القاعدة».
وعلى مقربة منها بسطات أخرى تبيع الألبسة الخاصة النسائية، فيما تضع أخريات لافتات صغيرة مكتوب عليها «يوجد نقاب»، يسأل أحد الرجال يبدو أنه من الريف عن سعر النقاب، ويقصد به هنا غطاء الرأس والوجه فقط فيجيب الشباب البائع بـ «100 ليرة».
في هذا المشهد الذي بات أقرب إلى سوق مستقلة أمام السوق الأساسية، يوجد أيضاً من يبيع حليباً وفوط الأطفال، وأنواعاً محددة من المناديل الورقية، يقول كثيرون إنها ذات محتويات سلال الإغاثة، ولكن يصعب الجزم بذلك.
على زاوية كل شارع تقريباً، براميل تحوي مشتقات نفطية متنوعة، منها تم استخلاصه من «الحراقات» التي باتت منتشرة في أماكن عدة من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، ومنها ما يكون تكرير مصافٍ نظامية، وهذه تحديداً تستقدم من المناطق التي يسيطر عليها النظام.
وبينما يبيع الناس ويشترون في الأسواق، يجلس مقاتلو تنظيم «داعش» في مقاهي الإنترنت التي تعد الوسيلة الوحيدة للتواصل بين سكان المدينة والعالم الخارجي، بعد أن قطع النظام شبكات الاتصالات والإنترنت الأرضية عن المحافظة عقب سيطرة قوات المعارضة عليها. يتصفحون الإنترنت، لدرجة أن السكان باتوا يعرفون مقاهي بعينها يرتادها المقاتلون، وبات كثر منهم يقولون عنهم إنهم «مرابطون» على الإنترنت.