لقد كان رسول الله (ص) على درجة من التحمّل بحيث أنّه كان لا يظهر استياءه من سماع ما كان الآخرون لا يتحمّلون سماعه و يبدون استياءهم منه.
النبي (ص) بين اللين والغلظة
أمانة رسول الله (ص)
تحمّل رسول الله (ص)
الدعوة إلى مكارم الأخلاق
مروءة نبيّنا (ص)
صدق النبي محمّد (ص)
طهارة نبي الإسلام (ص)
النبي (ص) و مداراة الناس
مأكل النبي (ص) و ملبسه
عبادة النبي (ص)
الأخلاق الحكومية لرسول الله (ص)
مواقف النبي (ص) من أعداء الإسلام
الأخلاق 2 - أخلاق رسول الله (ص) :
كان رسول الله (ص) يسعى إلى أن يُشرِّب أجواء الحياة بالقيم الإسلامية، من أجل أن ترسخ هذه القيم الإسلامية و الأخلاق في المجتمع بشكل كامل، و لكي تتمازج تماماً مع نفوس الناس و تتداخل في معتقداتهم و حياتهم.
النبي (ص) بين اللين والغلظة
يثني القرآن الكريم على نبي الله (ص) لما يتّصف به من لين و دماثة في التعامل مع الناس، و يقول له أنت لست فضاً و لا تتّسم بالعنف و الغلظة: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ ...}. هذا القرآن نفسه يدعو الرسول في موضع آخر إلى اتباع الغلظة: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ .... }؛ أي عامل الكفار بعنف و غلظة. كلمة «الغلظة» التي جاءت في الآية السابقة وردت هنا أيضاً؛ غير أنّها هناك تتحدّث عن أسلوب المعاشرة مع المؤمنين، و في إطار السلوك الفردي. و أمّا هنا فقد وردت في ما يتعلّق بتطبيق القانون و إدارة شؤون المجتمع و فرض النظم فيه. الغلظة هناك عمل مستهجن، و أمّا هنا فهي عمل حسن. العنف مستقبح هناك، و العنف هنا مستحسن.
أمانة رسول الله (ص)
كان رسول الله (ص) معروفاً بالأمانة حتّى أنّهم في الجاهلية كانوا يسمّونه الأمين. و كلّ مَن كان لديه شيء ثمين و مهم كان يؤمّنه عنده و هو مطمئن البال إلى أنّه سيعيده إليه سليماً و مصوناً. و حتّى بعد ظهور الدعوة إلى الإسلام و احتدام نار العداء و الجدل مع قريش، حتّى في تلك الأحوال كان اولئك الأعداء أنفسهم إذا أرادوا استيداع أحدٍ أمانة، كانوا يأتون و يأمنونها عند رسول الله. و لهذا فهو صلوات الله عليه حين أراد الهجرة إلى المدينة، انتدب أمير المؤمنين للبقاء في مكّة و إعادة الأمانات إلى أصحابها. و يُفهم من ذلك أن أموالاً كانت مؤمّنة عنده في ذلك الوقت، و لم تكن تلك الأموال أمانات المسلمين، و إنّما كانت أمانات الكفار و من كانوا يناصبونه العداء!
تحمّل رسول الله (ص)
لقد كان رسول الله (ص) على درجة من التحمّل بحيث أنّه كان لا يظهر استياءه من سماع ما كان الآخرون لا يتحمّلون سماعه و يبدون استياءهم منه. فلقد كان أعداؤه في مكّة يسيئون إليه أحياناً بحيث أن أبا طالب حين سمع بإحدى تلك الإساءات غضب إلى حدّ أنّه جرّد سيفه و ذهب إلى هناك مع خادمه و ردّ على كلّ واحد منهم بما كان قد أساء به إلى النبي، الا أنّ النبي تحمّل ذلك الموقف بكلّ صبر. و في موقف آخر حصلت مشادّة كلامية مع أبي جهل، و فيها أساء أبو جهل إلى النبي أساءة مؤلمة و لكنّه صلوات الله عليه أظهر الصبر و التحمّل. و كان شخص قد ذهب و أخبر حمزة أن أبا جهل فعل كذا و كذا بابن أخيك. فسارع حمزة و تناول قوسه و ذهب إلى أبي جهل و ضربه على رأسه حتّى أدماه. ثم جاء بفعل تأثير تلك الحادثة و أعلن إسلامه. و كان بعض الأشخاص يأتون إلى المسجد و يستلقون و يقولون للنبي أن يقصّ أظفارهم! و ذلك بعد نزول الأمر بقصّ الأظافر. و كان النبي يتحمّل هذه الإساءات بكل صبر.
الدعوة إلى مكارم الأخلاق
ادعو الناس دوماً إلى التحلّي بالأخلاق الفاضلة ـ أعني التسامح، و التغاضي، و التوادد، و المثابرة في العمل، و الحلم، و كظم الغيض، و عدم الخيانة، و عدم السرقة، و تحاشي مذمّة الآخرين، و عدم اضمار السوء لأحد، و عدم التحامل على أحد، و ما شابه ذلك. الناس على الدوام بحاجة إلى مثل هذه القيم. لا يمكن افتراض زمان لا يحتاج فيه الناس إلى هذه القيم. فهم يحتاجون إليها على الدوام. و لو افتقدت هذه القيم في مجتمع ما فإنّه سيكون مجتمعاً وبيئاً و مجتمعاً غير صالح، حتّى و إن كان في قمّة الرقي.
مروءة نبيّنا (ص)
في زمان الجاهلية كان هناك حلف اسمه حلف الفضول ـ و هو حلف مغاير للأحلاف الأُخرى التي كانت بين أهالي مكّة ـ و قد اشترك فيه النبي. و كانت قصّة هذا الحلف أن رجلاً غريباً قدِم إلى مكّة و كانت لديه بضاعة يريد بيعها، فاشتراها منه رجل من أهل مكّة اسمه العاص بن وائل، و كان من وجهاء القوم و يمارس القهر و الظلم، و لم يدفع له ثمنها. فاستغاث الرجل بأهاليها فلم يغثه أحد. فصعد على جبل أبي قبيس و صاح يا آل فهر لقد ظُلمت و أُخذت بضاعتي. و حين سمع النبي و عمّه الزبير بن عبد المطلب استغاثه الرجل اجتمعوا و قرّروا أن يدافعوا عنه. ثم أنّهم قصدوا العاص بن وائل و أمروه بدفع ثمن بضاعة الرجل، فخشيهم العاص و اضطر لدفع الثمن إلى الرجل. و قد بقي هذا الحلف قائماً بينهم، و اتفقوا على الدفاع عن كلّ غريب يدخل مكّة و يلقى ظلماً من أهلها٬ حيث كان غالباً ما يُظلم من يدخلها من الغرباء. و بعد ظهور الإسلام بسنوات عديدة، قال رسول الله (ص) ذات مرّة: إنني لا زلت متمسكاً بذلك الحلف. و كان في مرّات عديدة يُعامل من ينتصر عليهم من أعدائه معاملة لا يفهمون مغزاها. ففي الثامنة للهجرة، يوم فتح النبي (ص) مكّة بتلك الهيبة و العظمة، قال يومها: «اليوم يوم المرحمة»؛ أي يوم العفو و المسامحة؛ و لهذا لم ينتقم من اولئك القوم. هذه هي مروءة نبيّنا صلوات الله عليه.
صدق النبي محمّد (ص)
كان نبيّنا صلوات الله عليه صادقاً. ففي زمان الجاهلية ـ كما قلنا سابقاً ـ كان يعمل في التجارة؛ و يسافر إلى الشام و اليمن. و كان يشارك في قوافل التجارة، و كان له شركاء في أموال التجارة. و كان من شركائه في زمان الجاهلية من وصفه لاحقاً أنّه كان أفضل شريك، إذ لم يكن يماكس، و لا يجادل، و لا يلقي كَلّه على شريكه، و لا يسيء إلى من يشتري منه بضاعة، و لا يُغلّي عليه السعر، و لا يكذب عليه. لقد كان صادقاً. هذه الأمانة التي كان يتّصف بها نبيّنا صلوات الله عليه هي التي جعلت السيّدة خديجة تميل إليه. كما أنّ السيّدة خديجة ذاتها، كانت سيّدة مكّة الأولى من حيث الحسب و النسب و الثراء. لقد كانت شخصية بارزة.
طهارة نبي الإسلام (ص)
لقد كان النبي منذ طفولته شخصاً نظيفاً؛ فكان مرتّباً وحسن المظهر على خلاف ما كان عليه أطفال مكّة أو أطفال قبائل العرب. ففي أيّام صباه كان يمشط شعر رأسه، وفي أيّام شبابه كان يمشّط شعر رأسه ولحيته. و بعد البعثة و حتى حين تجاوز مرحلة الشباب و غدا كهلاً في الخمسينات و في الستّينات من عمره، ظل حريصاً تمام الحرص على النظافة و كانت جدائله تصل إلى ما تحت أُذنيه. و كان يُعنى كثيراً بالنظافة، و كانت محاسنه جميلة و معطرة. و قد رأيت في رواية أنّه كانت له في داره حِبّ ماء كان يرى فيه وجهه المبارك؛ حيث لم تكن المرآة معروفة و لا شائعة يومذاك.
وكان يسوّي عمامته و لحيته إذا أراد أن يخرج إلى أصحابه. و كان كثيراً ما يستعمل الطيب لتكون رائحته عطرة. و رغم أنّ منهجه كان الزهد حيث سنبيّن لاحقاً أنّه كان زاهداً غاية الزهد في الحياة إلا أنّه في السفر كان يصطحب معه المشط و العطر و المكحلة ليكتحل بها، لأنه كان شائعاً يومذاك أن الرجال كانوا يكتحلون. الرجال في ذلك العصر كانوا يكتحلون و كان هذا شيئاً متعارفاً يومذاك. و كان يسوّك أسنانه عدّة مرّات في اليوم الواحد. و كان يحث الآخرين على هذه النظافة، و على هذا السواك، و على حسن الظاهر و رتابته. كانت ثياب النبي مرقّعة و مندرسة، غير أنّها كانت نظيفة و كان حسن الهيئة و الهندام. إنّ هذه الأمور لها تأثيرها البالغ في المعاشرة، و في السلوك، و في المظهر الخارجي للشخص، و في الجانب الصحّي. إنّ هذه الأشياء التي تبدو غير ذات قيمة في الظاهر، ذات تأثير فائق في ذات الشخص و في كيانه.
النبي (ص) ومداراة الناس
كان سلوك النبي (ص) مع الناس سلوكاً حسناً، و يلقاهم بالبِشر و البشاشة. و أمّا إذا خلا إلى نفسه، فهناك تظهر عليه آثار الهموم و الآلام و الأحزان. فهو لم يكن يُظهر على وجهه و لا أمام الناس ما كان يعتمل في ذاته من هموم و آلام، و انّما كان محيّاه يطفح بالبشر، و يسلّم على كلّ من يلقاه. و كان إذا آذاه أحد، يظهر الأذى على وجهه، و لكنّه ما كان يشكو لأحد. و ما كان يسمح لأحد بالنيل من شخص آخر أمامه، أو يشتمه أو يسيء إليه. كما أنّه لم يكن يشتم أحداً و لا يعيب أحداً. كان يعطف على الأطفال و يلاطفهم، و يتعامل مع النساء برأفة و مودّة، و يتعامل مع الضعفاء بالرحمة و الحسنى، و يلاطف أصحابه و يمازحهم، و يتسابق معهم على الخيل.
مأكل النبي (ص) و ملبسه
كان فراش النبي حصيراً، و وسادته جلداً محشّى بالليف، و كان غالب مأكله خبز الشعير و التمر. و قد نُقل أنّه ما كان يشبع ثلاثة أيّام متوالية من خبز الحنطة ـ و ليس الأطعمة المتنوّعة ـ و قد كانت أم المؤمنين عائشة تقول ربّما يمرّ الشهر أحياناً و لا يُرى الدخان يتصاعد من دارنا. و كان النبي يركب الدابة من غير سرج و لا وطاء. في ذلك الزمان حيث كانت الخيل تُسرج بأثمن أنواع السروج و المعدّات، و كان ذلك ممّا يتفاخرون به، كان النبي في كثير من المواطن يركب حماراً. لقد كان يبدي التواضع من نفسه. و كان يخصف نعله بيده.
عبادة النبي (ص)
كان النبي كثير العبادة إلى درجة أنّ رجليه كانتا تتورّمان من طول الوقوف في محراب العبادة. كان يمضي الشطر الأطول من الليل بالعبادة و التضرّع و البكاء و الاستغفار و الدعاء، و كان يناجي ربّه و يطيل التهجّد. و بالإضافة إلى شهر رمضان، فقد كان يصوم بين يوم و آخر في شهر شعبان و شهر رجب و في سائر أوقات السنة، في ذلك الجو الحار. كان أصحابه يقولون له: يا رسول الله لم تتعب نفسك و قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر؟ حيث جاء نصّ ذلك في سورة الفتح أيضاً في قوله تعالى: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }. فلماذا كلّ هذه العبادة و الدعاء و الاستغفار؟ فكان يقول لهم: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟» و قد وهبني الله كلّ هذه النعم؟
الأخلاق الحكومية لرسول الله (ص)
كان رسول الله (ص) عادلاً و مدبّراً. و من يقرأ تاريخ دخول رسول الله (ص) إلى المدينة المنوّرة ـ تلك الحروب القبلية، و تلك الهجومات، و استدراج العدو من داخل مكّة إلى أعماق الصحاري، و تلك الضربات المتوالية، و ذلك الأسلوب من التعامل مع ذلك العدو الشرس ـ يجد خلال هذا التاريخ ما يحيّر العقول من التدبير الحازم و الحكيم و الشامل. كان حافظاً للأعراف و للقانون، و ما كان لا يسمح ـ لنفسه و لا للآخرين ـ بانتهاك أو نقض القواعد السائدة في الحياة. و كان هو نفسه ملتزماً بتلك القواعد. و آيات القرآن الكريم تنطق مفصحة عن هذه الحقيقة. فقد كان متمسّكاً إلى أقصى درجات الدقّة بتلك القواعد التي كان ينبغي أن يسير الناس وفقاً لها. و ما كان يسمح بخرقها.
ومن خصاله الحكومية الأُخرى الالتزام بالمواثيق؛ فلم ينقض موثقاً قط. فقريش نقضت ما كانت أبرمته معه من مواثيق. أمّا هو فلا. و نقض اليهود المواثيق عدّة مرّات، و لكنّه لم يفعل مثل ما فعلوا.
كان يتّصف أيضاً بخصلة كتمان السّر. يوم سار إلى فتح مكّة، لم يطّلع أحد على الوجهة التي يريالسير نحوها. فقد أعدّ الجيش كلّه و قال لهم إنّنا خارجون لأمرٍ. فسألوه: إلى أين؟ فقال لهم ستعلمون لاحقاً. و لم يُعلم أحداً بأنّه سائر نحو مكّة. و قد كتم خبر سيره و لم تعلم به قريش حتّى قارب مكّة. و كان عندما يجلس مع جماعة، لا يُعرف مِنْ بَينهم أنّه رسول الله و أنّه قائد هؤلاء القوم و كبيرهم. فقد كانت إدارته الاجتماعية و قيادته العسكرية في أعلى المستويات. و كان يتفقّد كلّ شيء. كان المجتمع يومذاك قليل العدد؛ إذ كانت البلاد هي المدينة المنوّرة و ما جاورها. ثمّ بعد ذلك أُضيفت إليها مكّة و بضعة مدن أُخرى. و لكنّه كان يهتم بشؤون الناس و كان على درجة عالية من النظم و الرتابة. و قد فتح في ذلك المجتمع البدوي مجالاً جديداً في شؤون الإدارة و الدواوين و الحساب و المكافآت و العقوبات.
مواقف النبي (ص) من أعداء الإسلام
لم يكن رسول الله (ص) ينظر إلى الأعداء على قدم المساواة. و قد كانت هذه واحدة من الجوانب المهمّة في حياته. فقسم من الأعداء كانت عداوتهم شديدة. و لكنّه كان يتغاضى عنهم و يتساهل ما داموا لا يشكّلون خطراً. و كان قسم آخر من الأعداء يشكّلون خطراً؛ هؤلاء كان النبي على حذرٍ منهم و كان يترصّدهم و يراقبهم. مثل عبد الله بن أُبي. لقد كان عبد الله بن أُبي منافقاً من الدرجة الأولى. و كان يتآمر ضدّ النبي. و لكن النبي كان يراقبه فحسب، و لم يتعرّض له. و بقي هذا الرجل إلى أواخر حياة النبي. و مات قبل وفاة النبي بمدّة وجيزة، و لكن النبي كان يتحمّله. كان هؤلاء من صنف الأعداء الذين لا يشكلون خطراً يهدّد الحكومة الإسلامية و لا المجتمع الإسلامي.
و أمّا الأعداء الذين كان يرى فيهم خطراً فقد كان في غاية الحزم معهم. فهذا النبي العطوف، الرؤوف، المتسامح، المتغاضي، أمر أن يُقتل الخونة من بني قريظة ـ الذين كانوا بضع مئات ـ في يوم واحد، و أمر بإجلاء بني النضير و بني قينقاع من المدينة، و فتح خيبر؛ و ذلك لأن هؤلاء الأعداء كانوا خطيرين. كان موقف النبي منهم في غاية الموادعة و الرأفة في أوّل دخوله إلى مكّة، الا أنّهم خانوا المواثيق و غدروا، و تآمروا و هدّدوا و توعّدوا. كان النبي يتحمّل عبد الله بن أُبي، و كان يتحمل وجود اليهود في المدينة؛ و كان يتحمّل من القرشيين من يلجأ إليه أو من لا يصدر منه أذىً. و بعدما فتح مكّة، كان يُحسن حتّى إلى أمثال أبي سفيان، و غيره من كبار القوم، بعدما أصبح وجودهم لا يمثّل خطراً، في حين أنّه قمع بشدّة ذلك العدو الغادر الذي لا يمكن الوثوق به.