في صالونات مسيحيي 14 آذار وغرفهم المغلقة، رواية أخرى، مختلفة تماماً عما بات شائعاً حول كيفية تشكيل حكومة تمام سلام. رواية تبدو منسوجة من زفرات الخيبة والصدمة والإحساس بالغدر والتخلي والخذلان.
جان عزيز - صحيفة "الاخبار"
في صالونات مسيحيي 14 آذار وغرفهم المغلقة، رواية أخرى، مختلفة تماماً عما بات شائعاً حول كيفية تشكيل حكومة تمام سلام. رواية تبدو منسوجة من زفرات الخيبة والصدمة والإحساس بالغدر والتخلي والخذلان. لكن أهم ما فيها أن لها ملحقين أساسيين منبثقين من مضمونها الأصلي: ملحق أول يشرح اسباب تعثر هذه الحكومة راهناً في مسألة بيانها الوزاري. وملحق ثان يفسر لماذا ستفشل الحكومة نفسها لاحقاً في مهمتها الرئيسية، أي في إمرار انتخابات رئاسة الجمهورية.
يقول مسيحيو 14 آذار ان مسألة تشكيل هذه الحكومة، بدأت في الأساس، فكرة محلية، بلدية جداً، محدودة لا بل حتى شخصية. أما الحديث عن عوامل خارجية وضغط إقليمي ودولي وتدخلات من واشنطن والرياض وطهران وغيرها من العواصم، فليس إلا من باب المبالغة والتضليل، لتبرير التورط. يروون أن العملية انطلقت من لحظة مبادرة ميشال عون في اتجاه سعد الحريري. قبلها كان كل شيء راكداً، بل مجمّداً، مع أن تسوية الكيماوي كانت قد مضت وكادت تنجز. وتسوية النووي كانت قد انطلقت أيضاً. ورغم كل تلك الظروف الخارجية، لم يكن أي تأثير من الخارج على الوضع الحكومي اللبناني قد سجل أو ظهر. باستثناء طبعاً الكلام الأميركي العمومي عن استقرار البلاد وتجنب اي تفجير.
يتابع مسيحيو 14 آذار في رواياتهم المجمعة: ذهب عون إلى الحريري في 11 كانون الثاني الماضي. قبلها كان قد التقى حسن نصرالله وفاتحه بمبادرته التي يعتبرها ضرورية لإحياء حظوظ انتخابه رئيساً. وصل عون إلى باريس متسلحاً بمباركة حزب الله وتشجيعه. وقد حصنهما بقراءة مزدوجة: شق ترهيبي، لجهة الفراغ واحتمالات الفراغ وتداعياته الأمنية والسياسية و«الطائفية» (نسبة إلى اتفاق الطائف) الخطيرة. وشق آخر ترغيبي، لجهة استعداداته الطيبة ونياته الحسنة لتجنب السقوط في كل ذلك. انتهى اللقاء إلى عموميات، يؤكد مسيحيو 14 آذار. لكن بعد أيام، بدأت التحليلات تغزو رأس الحريري. وهي تحليلات بدأت شخصية فردية: مزبوط! عون على حق. صحيح أن الفراغ سيكرس نجيب ميقاتي رئيساً لمجلس الوزراء، ورئيساً للجمهورية معاً. هذا الذي لا يزال ثأره الشخصي يتفاعل ويتضاعف بينه وبين وارثي رفيق الحريري، مرشح لأن يرث جمهورية كاملة ولأن يصير أكبر مما كانه رفيق الحريري نفسه في كل حياته. ثم، يتابع الآذاريون قراءة تفكير سعد الباريسي، ثلاثة أعوام من المنفى القسري صارت ممضّة، مملة، قاتلة في غربتها ورتابتها. انتقلت هذه الأفكار إلى الدائرة القريبة من سعد. فلم تلبث أن لاقت صدى إيجابياً مشجعاً على الإقدام. صدى هو نتاج تزاوج حالات شخصية مماثلة، مع ذاك الميل الوجداني السني إلى التلازم مع مفهوم السلطة وإلى التماهي مع فكرة الدولة. شيء من فقه «الخلافة» هو. الفكر نفسه الذي يجعل المسلم السني لا يقبل إلا أن تحمل مرجعيته الروحية لقب «مفتي الجمهورية»، هو نفسه الوجدان الذي يجعل أي زعيم سني يرى في توقه إلى السلطة ووجوده داخل الدولة واجباً حياتياً ومصلحة أولوية له ولجماعته. ويجعله يحسب أي خروج من السلطة أو أي بقاء في جهنم المعارضة انتحاراً فردياً وجماعياً.
«ركبت» مع سعد إذن. مغامرة عون تستحق التجربة. ولنبدأ بحكومة. بعدها انتقلت الفكرة إلى الرياض. لتتحول من مبادرة محلية بلدية، إلى موافقة ومباركة سعودية وإقليمية. لا العكس، كما يعتقد البعض. عند هذا الحد وصل الخبر مباشرة، وبواسطة هاتف الحريري نفسه، إلى كل من نبيه بري ووليد جنبلاط. فشاع السر. وبشيوعه أيقظ كل طموحات البعض من مسيحيي 14 آذار. استنفر هؤلاء بشكل كامل. رأى كل منهم ميشال عون ــــ العدو الألد له ــــ مشروع رئيس للجمهورية. وتخايل كل منهم نفسه مشروعاً مضاداً مقابلاً. تحركوا جميعهم صوب باريس. وصاروا نفسياً في حالة مزدوجة: من جهة، يشجعون سعد الحريري على المضي في مغامرة الحكومة، لتصوير أنفسهم شركاء له في المشروع. ومن جهة أخرى يحاولون تقليد سلوك عون بشكل مضاد: إذا كان الجنرال في سعيه إلى الرئاسة انفتح على الحريري، علينا نحن في سياق السعي نفسه أن ننفتح على حزب الله. هكذا، ورغم كل العنتريات الإعلامية، وخطابات الاستهلاك الشعبوي عن شروط ومطالب وتهديدات بالانسحاب والاستقالة، صاروا كلهم نفسياً، في أجواء الجلوس إلى طاولة حزب الله. انتقلوا في عقولهم وسلوكهم إلى شيء من أجواء الأزمة الحكومية سنة 1969. يومها أيضاً كان فراغ حكومي طيلة أشهر. ويومها أيضاً كانت ثمة إشكالية سلاح ــــ فلسطيني في حينه ــــ وكان صراع حول تشريعه وعمله والقبول به وعلاقة الدولة بحامليه. ويومها أيضاً كانت ثمة انتخابات رئاسية بعد اشهر في صيف العام 1970. في ذلك السياق كان اتفاق القاهرة. أي أنه وُلد من تهافت الموارنة يومها على فكرة أن من يقبل بالسلاح الفلسطيني، برعاية جمال عبد الناصر، يصير رئيساً للجمهورية بعد أشهر... منذ أسابيع، تتابع روايات 14 آذار، سقط مسيحيوها في الذهنية نفسها. ترسخ في عقولهم ونفوسهم تهافت مماثل: من يقبل بسلاح حزب الله، برعاية أميركية ــــ سعودية وربما إيرانية أيضاً، يركب رئيساً قبل ايار المقبل، أو بعده بقليل. أسقطوا كل المحذورات السابقة، وحللوا كل المحظورات المعلنة. حتى أنهم راحوا يحجون إلى باريس، لا لشيء، بل لمجرد التنافس في ما بينهم، على مقعد وزاري في هذه التركيبة المتصورة بالذات...
هكذا ولدت حكومة تمام سلام، يقول مسيحيوها المفترضون من أهلها والخاسرون جنتها في الوقت نفسه. أما لماذا تعثرت الآن بعد عشرة أيام فقط على ولادتها؟ لتلك الأسباب بالذات. ذلك أن الذين فبركوا أسطورة ولادتها، ضخموا خبرية التوافق الخارجي المزعوم، وبالغوا في وهم الصفقة الإقليمية والدولية الكذبة. فيما حقيقة الأمر سوى ذلك. وهو ما بدأ يدركه الجميع اليوم. لا اتفاقات كبرى، ولا صفقات شاملة، ولا تسويات كونية. هكذا فجأة اكتشف الجميع أن كلمة واحدة في عبارة ضمن البيان الوزاري، صارت مستعصية الحل. بعدما كان الوهم قبل ايام فقط، أن رأس تمام سلام صار أول قطعة أو آخرها، في بازل يالطا الجديدة المنجز حتماً.
ولماذا ستفشل التركيبة نفسها في مهمتها الرئاسية؟ للأسباب نفسها والمنطق نفسه. فمن يعتقد أن هناك انتخابات رئاسية لبنانية ونقطة على السطر، واهم حتى السذاجة. على الأقل هناك أربعة استحقاقات رئاسية، مترابطة ومتلازمة. في مصر، والعراق، وسوريا، وأخيراً ــــ أهمية وترتيباً زمنياً ـــــ لبنان. فما لم يتم الاتفاق الكبير على أربعتها، وما لم تنجز تلك قبل، ويتم التأكد من نتائجها وتطابقها مع مضامين اتفاقاتها المسبقة، من السراب المطلق التنبؤ بهوية سيد بعبدا المقبل. إلا من باب المعالجة بالأوهام أو الارتزاق بالخيالي من الأفلام.
http://www.al-akhbar.com/node/201573
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه