26-11-2024 10:32 PM بتوقيت القدس المحتلة

المشرق العربي إلى التقسيم والاقتسام

المشرق العربي إلى التقسيم والاقتسام

محاولة عبد الناصر في سوريا واليمن، انقض عليها الجميع، حتى بناتها في سوريا، فبدل أن يسووا أوضاع الوحدة وينظفوها من أخطاء السلطة، انقضوا عليها وحافظوا على جثتها في خطاب كذاب.

المشرق العربي يحتضر. الشرق الأوسط يتحلل. الكيانات تتفجر من داخلها. الشعوب في الربع العربي الدامي، والأمل الضئيل يفضي إلى استراحة مؤقتة على ضفاف التقسيم. السنوات الثلاث الماضية تنبئ بأن ما كان منذ مئة عام، لن يكون بعد أعوام.

نصري الصايغ/ جريدة السفير

الحرب الدائرة في سوريا تلقي شبح التقسيم في الوطن العربيالتشكل الجديد للمنطقة ترسمه، بل تفرضه وقائع الحروب الدائرة، وقوى التبديد والتقسيم المنخرطة فيها. إذا، المشرق العربي يحتضر، ويتحضر للإقامة في الإقليم، في حواضن اتنية ومذهبية وطائفية ومناطقية، على شاكلة جماعاتها، التي ستصبح شعوبا صافية الأعراق والمذاهب والطوائف. هذا، والمرجح ان يحدث غداً، بعد ان تسفر المعارك إلى تسويات، تفرضها قوى من الخارج، وتطيعها قوى استهلكت عنفها في رسم حدود التقسيم والاقتسام داخل كل كيان.

ولم يكن هذا متوقعاً أبداً. كان خافياً على كثيرين، ولكنه كان غافيا في وعي كثيرين. فامبراطورية «المشرق العربي» الكرتونية، آيلة إلى النهاية.منذ مئة عام، انهارت الامبراطورية العثمانية. كانت نهايتها منتظرة. بريطانيا حمتها من الوقوع قبل نضوج ثمرتها. كانت تريد أن تقع التفاحة في يدها. شاركتها فرنسا في حصة. نافستها على التركة. ورثت انتدابا وحمايات ووصايات إلى جانب بريطانيا... بعد كل هزيمة، يتولى المنتصرون الكبار رسم خرائط الكيانات والمناطق والشعوب. ينتجون دولاً بالمقص. يؤلفون كيانات بالقلم. يضعون حدوداً ويوقعون عليها. هكذا، تم توزيع «المشرق العربي» وشعوبه على كيانات سياسية، وفق منطق المحاصصة، أو وفق قاعدة اقتسام غنائم الحرب.

صمدت هذه الكيانات العاتية، على كل تعديل أو تغيير. ما رسمه سايكس ـ بيكو من حدود وشعوب وأقوام لم تمحه مشاريع الوحدة، المتحصنة بنظريات قومية. كان نص سايكس ـ بيكو «مقدساً» لا تقوى عليه «هرطقات» الضعفاء الوحدويين، مهما صفت نواياهم، وصدقت أفكارهم. ما كانوا يملكون قوة إلغاء «المرسوم» من الخرائط، وتجميع الكيانات في وحدة، قتلها الغرب في مهدها في دمشق، في العام 1920، ثم قتلتها الأخطاء مرة أخرى في دمشق في العام 1961.

استثناء وحيد شذ عن القاعدة. هو «إسرائيل». نشأت صغيرة، بعد وعد بلا حق، داخل حدود «التقسيم»، فسمح لها أن تخترق الخرائط المرسومة في العام 1948، ثم في العام 1967 ثم... لا تزال تخترق الحدود، في ظل سماح دولي وتغاض أممي، وعجز عربي، وتخلِّ أخلاقي. فها هي تزحف على فلسطين بالاستيطان، وتعسكر في الجولان والبعض القليل من لبنان.

الجريمة التي ارتكبها الغرب، تبناها العرب. الضحايا قدّسوا الكيانات، برغم المغالاة برفع «صوت العرب» وقضية العروبة ومسألة الوحدة. الكيانات حماها رافضوها. دافعوا عن الوحدة بمزيد من العداء والقسمة. رفع الضحايا الكيانية، إلى مقام المقدس الذي لا يمس. وضعت السيادة والاستقلال أولا، والوحدة أخيراً: محاولة عبد الناصر في سوريا واليمن، انقض عليها الجميع، حتى بناتها في سوريا، فبدل أن يسووا أوضاع الوحدة وينظفوها من أخطاء السلطة، انقضوا عليها وحافظوا على جثتها في خطاب كذاب.

فلا صوت يعلو فوق صوت «سايكس ـ بيكو». العواصم الوحدوية، قلدت لبنان. خطاب قومي وسيادة قطرية وكيانية. شتموا سايكس ـ بيكو وكالوا التهم، وحافظوا على الحدود، التي أصبحت حواجز لا يعبرها إلا المحظيون. وبسرعة، تحولت الكيانات إلى معتقلات. والدخول إليها يفرض جواز مرور، يسهل على الأجنبي الحصول عليه ويتعذر على العربي... حدود الاخوة العرب، هي حدود الأعداء.

اتفاقية سابيس بيكو قسمت الإمبراطورية العثمانية وها هي تعيد تقسيم ما هو مقسّمفي مفارقة مذهلة، تجوز المقارنة بين استعمار قسّم الأمة، وبين وحدويين قسموا الشعب إلى شعوب وأقوام، عندما ألحقوا الشعب بالسلطة، لا بالعقيدة، وتولوا بالاستبداد هداية الشعوب بالقمع، إلى الطاعة والقبول والرضوخ والاستسلام... غابت الشعوب وحضرت السلطة. استغيبت القضية وأحضرت الطغمة. غاب الحزب وتبوأ القائد. حضر القائد فاختفى كل ما سواه. وهذه القيادات أوصلت الأمة إلى المقتلة، في العراق، وإلى الموت، في شتى أنظمة الاستبداد الجمهوري والعلماني والملكي و...

منذ أعوام ثلاثة اهتز العالم العربي الآسن والمقبوض عليه. خرج من اللعنة. تجرأ على طرد الخوف، قال للاستبداد: لا... ربيع عربي وليد، هز دولاً وكيانات وأيقظ شعوبا وحرض نخباً، وفتح الأفق للتغيير... كانت تونس نموذجه. أضحت مصر مدرسة في «الميادين». غير أن «المشرق العربي» لا يشبه مصر وتونس. لا خوف من التغيير في تونس على وحدة الشعب ووحدة الدولة. الخلافات والسياسات المتنابذة، (باستثناء التطرف الديني) تستوعبها الدولة. الانزلاق إلى القسمة والاقتسام بعيد عنها، وقد يكون مستحيلا.

«المشرق العربي»، قلب العروبة النابض، دمشق الحضارة والتاريخ وموطن أول دولة وحدوية، (حكومة فيصل) ورائدة أول «وحدة حديثة»، (مع مصر الناصرية) تعرضت لحكم، ألغى الأحزاب العقائدية، واعتاض عنها، بحزب أفرغ من حيويته وألحق بالأجهزة، وبأجهزة أمنية تحصي الافكار والأنفاس. وبطبيعة الحال، في مثل هذا المناخ، يلجأ الناس إلى ما يطمئنهم إلى حياتهم الأخرى، وما يسهل عليهم الحياة الدنيا. الدين ملجأ في زمن السكون يصير كابوساً عندما ينفجر. ولقد انفجر. بغداد التي كانت مرشحة لقيادة الأمة، ولبروز يشبه صعود اليابان في الأقاصي، أخذها قائدها إلى حروب أفنت الدولة. أما طغيانه واستبداده فموصوفان. لا شبيه لهما إلا في ما نراه اليوم من عنف الإسلام التكفيري. الحرب الأميركية عليه دمرت الدولة والجيش وانفجر المجتمع.

مسكينة هذه الأمة. هذه الأم قتلها أبناؤها بكل ما أوتوا من عنف مبتكر، وأجهز عليها الغرب بما أوتي من عدوان. «المشرق العربي» حاضن حضارات وثقافات وديانات ومذاهب وطوائف وأقوام ولغات متنوعة، صنعت فرادته في التاريخ. لا خصب حضاريا متنوعا ومتفوقا ومبدعاً، يشبه هذه الأمة. صحّ أرنولد تويني عندما قال: «تحت كل حجر أثر».

ورثنا هذا العطاء الحضاري، فماذا فعلت به الطغمة التي حكمت؟ غريب: حافظت على سايكس ـ بيكو. ولم تنجح في توحيد الشعب إلا بفرض الصمت عليه. «وحدتنا الأحزان». و«حدنا الخوف». «وحدنا اليأس». باختصار: ما ورثه أهل المشرق كان تقسيما لم تنجح القوى السياسية في إلغائه. فأبدت الكيانية عبر القبض على أحلام الوحدة التي كانت أمل الجماهير العربية. فشلت الأنظمة الديكتاتورية في حل مشكلة التعددية المذهبية والطائفية والاثنية، التي كانت مستبعدة، وممنوعة من التداول. وحدة القائد، تفترض وحدة الشعب وإلغاء الفروقات. وقد ظهرت الفجيعة، عندما انفجرت السلطة، فانفجر المجتمع معها. ما كان ربيعا، صار كابوساً.

ولا بد من حاشية أولى: الحركات القومية الوحدوية في بعض أوروبا، كانت ديكتاتورية وعسكرية. غاريبالدي وحّد ايطاليا بالقوة. بيسمارك وحد المانيا بالقوة. الوحدويون عندنا أخذوا منا الحرية ولم يحققوا الوحدة. فشلوا في كل شيء، والأمة تدفع الأثمان الآن.

ولا بد من حاشية ثانية: الديموقراطية التوافقية على الطريقة اللبنانية، لم تحقق الوحدة الوطنية. زادت المحاصصة قسمة. لم تشبع الطوائف والمذاهب. كان من المفترض ان تكون الدولة حاضنة للطوائف لتطمئنها على وجودها وحقوقها وحرياتها. سقط هذا الافتراض، وفازت الحقيقة المُرَّة التالية: قبضت الطوائف والمذاهب على الدولة واصبحت رهينة القوى الطائفية.

وكاستنتاج مبرم: لا الديكتاتورية وحدت الشعب ولا الديموقراطية التوافقية وحدت اللبنانيين. والكوارث نتيجة طبيعية لهذين النمطين من الأنظمة. في هذا السياق، يتبدى العامل الخارجي في مرتبة ثانية، هي مرتبة التوظيف. العوامل الداخلية ولادة ازمات، والخارج قناص الأزمات. هذا قانون قديم، يندر أن يكون ذلك معكوساً، كأن يفرض الخارج أحداثا، هي من صنع العوامل الداخلية والأدوات الداخلية. قد يوفر الظروف لإحداث أزمات، ولكنه من دون الأيادي الداخلية، يظل عاجزاً. التقاء الداخل والخارج حتمي. العالم مترابط، وأصحاب المصالح على يقظة تامة بالتحولات والتغييرات، للاستفادة منها أو لحرفها أو لإجهاضها... كما حصل مع الربيع العربي. هذا الربيع صنع في الداخل. القناصون العرب والأجانب، أخذوا «الربيع» إلى المقصلة، في ليبيا وسوريا و...

سوريا المدمرةما الصورة التي سترسو عليها المنطقة؟ لا شرق أوسط قديما قابلاً للحياة، لا شرق أوسط جديدا سيرى النور، لا شرق أوسط كبيراً له حظوظ التكون. أغلب الظن، أن المشرق العربي سيتحول إلى فسيفساء تتجمع ضمن لوحته كيانات مذهبية وطائفية واثنية، داخل كل كيان دولة. شيء من كيانات الطوائف والمذاهب والاثنيات المتصالحة والمتمايزة، ولكن داخل حدود الدولة فدول سايكس ـ بيكو، كما هو مرجح، ستظل حية ترزق. وامبراطورية «المشرق العربي» الكرتونية، بصدد الأفول.

فالعراق المجزأ والمفتون بدمه، إلى أجل غير مسمى، لن يكون إلا على صورة قواه المبعثرة. سيبقى موحداً وحاضنا للتعدد، وفق تقسيمات الأقاليم. ففي المجتمعات المنقسمة عموديا، على أساس مذهبي أو اثني أو طائفي أو عشائري، لا ينتصر فيها فريق على آخر في الحروب الداخلية.

سوريا المدمرة، من المرجح، بعد انتهاء المعارك، وسقوط الجميع في العجز، أن تظل وحدة جغرافية، لدولة موزعة الاقاليم والاهواء. لا قضية خارجية لها. سيفرض عليها ان تهتم بالداخل، وان تتبنى سياسة «النأي بالنفس». لانعدام الرؤية الوطنية او القومية الواحدة، في مسائل اقليمية ودولية. ستقاد من الخارج. لبنان حصد من حروبه السابقة ومحنته الراهنة مناعة كيانية وهشاشة سياسية واهتراء لنظامه.

الملاحظ إذا، بقاء الكيانات الحاضنة للتناقضات والمنظمة لها. نموذج اليمن، إذا نجح، قد يكون صالحاً للتعميم. وهذا أمر يراه الوحدويون خيانة، إذ لا بد من رفض تقسيم المقسم في الأساس. لكن هذا الرفض، لن يصمد امام أوامر الواقع وقوى الأمر الواقع، ومصالح الدول الاقليمية والدولية. لكن ذلك لن يكون كذلك. سيكون المشرق العربي تحت الوصاية، من خلال النفوذ الذي تتمتع به قوى حامية لهذه الكينونات والكانتونات.

بكل أسف وحزن... هكذا هو المستقبل المتوقع للمشرق العربي: تقسيم واقتسام.