الكاتبة تفند العديد من أراء الباحثين الغربين الذي اتهموا حزب الله بازدواجية الولاء وانقسام الهوية. وإنه من الخطأ الفاحش أن نستنج أن المضامين الإسلامية لمبدأ لاية الفقيه تساوي رفض حزب الله فكرة القومية
في كتاب يعدّ من الكتب النادرة في نوعه لمناقشة إيديولوجية حزب الله ومنهجه السياسي وأطره التنظيمية، تكتب الدكتورة أمل سعد غريّب "حزب الله السياسة والدين"، الصادر عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ترجمه من الإنكليزية إلى العربية حسن الحسن، ضمن سلسلة الدراسات الحضارية التي تواكب كل تطور جديد فكري أو ثقافي على الساحة العربية والإسلامية. والكتاب مثّل دراسة أكاديمية للباحثة أطروحةً لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة برمنغهام البريطانية.
قدّم الكتاب الأستاذ محمود حيدر، وهي مقدمة بحق مثّلت تمهيداً متيناً لموضوع بات محور دراسات الأبحاث الأميركية والإسرائيلية منذ أكثر من عقد، واتمست المقدمة بشموليتها، إذ شكلّت بحثاً ضمن البحث الأكبر، وبيّنت "حاضرية حزب الله استراتيجية الأخذ بالمنطقة الوسطى"، لمستطلع عن فكرة ما أساسية حول حزب الله، فإنه يمكنه أن يكتفي بهذه المقدمة دون الدخول في التفاصيل.
"حزب الله" ظاهرة تستحق الدراسة
ينقسم الكتاب إلى فصول ثمانية، دلالة عنوانيها تدل على عمق الطرح والبحث في مفاصل المطروح للنقد. والدافع الأبرز لهذا النقد أن الدراسة رأت "حزب الله" ظاهرة تستحق الدرس بغض النظر عن الموقف المتخذ تجاهه. وليس لأن "حزب الله" يعدّ الحركة الأولى التي تمكنت من تحقيق انتصارات فعلية في تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي فحسب، بل لكونه الحزب السياسي الأكثر مرونة في تاريخ الحركات والأحزاب الإسلامية.
أهم ما يلفت في الدراسة أن الكاتبة تنتبه إلى "نظرية إدارة التعقيد"، التي يتبناها "حزب الله" الذي لم يكن أمام تواجده في بلد محفوف بالمتفجرات مثل لبنان إلى جانب قيادته للصراع ضد "إسرائيل"، إلا أحد خيارين أستراتيجين كلاهما منبسط على وجه شديد الحساسية والخطورة : إما إدارة التعقيد وإما الدخول في الفوضى الأهلية. ولقد رمى خطاب حزب الله – كما تقول الباحثة – (وهو ما وجد ترجمته بصورة نموذجية في أداء أمينه العام السيد حسن نصرالله) إلى الأخذ بالخيار الأول، أي إدارة التعقيد مع ما توجبه هذه الإدارة من مرونة فائقة في التعامل مع الحراك الجديد الذي عكسته تشظيّات المجتمع الأهلي، واصطفافاته الطائفية والمذهبيّة. وأهم ملاحظة يمكن تعقبّها هي أن لخطاب حزب الله السياسي والأيديولوجي منذ نشأته في أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم وحتى اليوم، أكثر من صورة في سياق واحد، أي أن تحولات أثّرت بالخطاب، وبدّلت من سياقه وسيرورته، ومن شكله ومحتواه بصورة بيّنة.
التكيف السياسي والعنف في الدول غير الإسلامية
"التكيّف السياسي والعنف في الدول غير الإسلامية" عنوان الفصل الأول، الذي تعرّض لأراء حزب الله في الثورة والإنقلاب وحرب العصابات ومختلف أشكال العنف الإرهابي الذي تمارسه مجموعات ضد أنظمة علمانية وأنظمة محلية غير إسلامية. النقطة المركزية في مفهوم حزب الله للعمل السياسي هو تفرع العالم بحسب الإمام الخميني إلى مستكبرين (ظالمين) ومستضعفين (مظلومين). ولم يقتصر مفهوم المستكبرين والمستضعفين على غير المسلمين، كما حاول بعض المثقفين الغربيين قراءة هذين المفهومين، وبيد أن تصور حزب الله والإمام الخميني (قده)للظلم يقلل من أهمية الأصول العلمانية للمعيار الطبقي، وهو التصور الذي جوهره إضفاء طابع إسلامي على التحليل الطبقي الذي يصبح عنصراه المحددان، الاستغلال والفقر، فضيلتين إسلاميتين.
وكما أوضح الإمام الخميني فإن الإسلام ينشأ من الجماهير لا من الأغنياء. والأهم من ذلك أن النبي (ص) أعطى عرق العامل قيمة أعلى من قيمة دم الشهيد. لكن تجدر الإشارة إنه يدخل ضمن توصيف المشردين الذين يشير إليهم حزب الله هم أولئك الذين هجّرهم الاحتلال الإسرائيلي، أي الجنوبين الشيعة.
في مبرّرات العنف والتكيّف السياسيين بالنسبة إلى ظلم الدولة، يظهر أن مبدأ فرض الإسلام بالإكراه هو حجر الزاوية في عقيدة حزب الله بشأن العنف السياسي، وعلى أساسه ليس هناك مصادقة دينية على التمرد ضد دول علمانية مثل لبنان، وفي ضوء هذا المبدأ الإسلامي، يشعر الحزب بأنه ملزم بالحفاظ على النظام العام وتالياً السلم الأهلي خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه. لهذه الأسباب مارس الحزب أقصى درجات ضبط النفس في وجه قيام الحكومة اللبنانية بقتل عدد من متظاهريه في مسيرة احتجاج ضد اتفاق أوسلو في أيلول العام 1993. لذا يرى الحزب أن بقاء الدولة على هذه الشاكلة أفضل من الفوضى. لذلك تشديده على أن حكومة ظالمة خير من فوضى يمكن أن ينسحب على النظام السياسي ككل.
فمعارضة الحزب للحكومات المتعاقبة بعد الطائف، ليست بناءة في الشكل فحسب بل هي ناضجة سياسيا في المضمون. مع أنه يصف الحكومة بأنها ظالمة جاءت إلى السلطة عن طريق استغلال الظروف وتحريف الإرداة العامة وتزوير الانتخابات، لكنه لم يوافق على حملة العصيان المدني التي أطلقها الأمين العام الأسبق للحزب الشيخ صبحي الطفيلي، كون وسائل الطفيلي لم تكن معقولة، ويبقى المعيار أمامه للمشاركة في أي حكومة انخراطها أو ابتعادها عن مفاوضات ما يسمى عملية السلام مع "إسرائيل" ضمن اعتبارات إيدلوجية دينية.
الدولة الإسلامية والديموقراطية
الدولة الإسلامية المثالية عند حزب الله هي تلك التي يأتي بها الإمام الثاني عشر المغيّب المهدي المنتظر(عج). وكان ملحوظاً عند بدايات الحزب دعوته لإقامة دولة إسلامية، لكن هذا الهدف جرى التخلي عنه في ضوء صعوبة تحقيقه في لبنان، لأنه تبيّن ان معظم أطياف المجتمع اللبناني، منهم الشيعة، يرفضون إقامة مثل هذا الحكم، وتالياً لا ينبغي أن يفسر هذا تسوية يمليها الواقع الليناني فحسب، ولكن يجب أن يفهم أيضاً مراعاة بالغة لمعتقد أساسي في الدين الإسلامي، وتاليا لأحد مكوناته بنيه الحزب الفكرية التي تفترض أن الإسلام لا يمكن فرضه بالقوة على أتباع ديانات أخرى.
وقد يبدو أن هناك تشابهاً بين الديموقراطية والحكم الإسلامي من حيث منح حرية الإختيار للشعب، وإن كان لا يعني هذا اختياراً بلا حدود، فالخيارات السياسية المتاحة للشعب يجب أن تندرج ضمن خطوط الإسلام الإيديولوجية الثابتة وإطار ولاية الفقيه. وذلك لا يعدّل القول بإن إضفاء الشرعية على التعددية السياسية مفتصر على أحزاب ومنظمات إسلامية، فوفقاً للمبدأ 26 في الدستور الإيراني فإن الأحزاب الدينية حتى غير الإسلامية مسموحة ما دامت لا تنتهك معايير الإسلام أو أساس الجمهورية الإسلامية. وإن أراء حزب الله بشأن التعددية السياسية تستنج حتى الأن من النموذج الإيراني. وبقدر ما يمكن تصنيف حزب الله نظاماً مصغراً من الدولة المثالية التي يتصورها، فإن دراسة لبنيته وقواه المتحركة الداخلية توفر نظرة ثاقبة قيمّة أخرى إلى تصوره للتعددية السياسية. ففي حين يعترف ببعض الاختلافات الداخلية، بل إنه يسلم بان تماثل التفكير بين جميع أعضائه أمر غير طبيعي، فإنه عنيد – كما تصفه الكاتبة – في اعتراضه على إمكانية وجود أكثر من تيار إيديولوجي واحد في داخله. وكما يستدل المنظر السياسي علي فياض يستطيع أي حزب تحمّل خلافات سياسية لا تحيد عن معطياته الفكرية، وإلا ستحبط هذه الخلافات الغرض من وجوده.
وكي يتسنى إدراك الأسباب التي حملت حزب الله على إقرار سياسة المشاركة في الانتخابات النيابية يجب درس جوانب أخرى من نظرية الدولة عنده مثل الشروط التي يضعها إقامة الدولة الإسلامية. ولا يعتقد الحزب أنه مرغم على الحصول على كل شيء أو لا شيء. وليس مطلوباً أن يكون البديل من دولة إسلامية انسحاباً سياسياً يترك مصير الأمة للأخرين، بل يمكن أن يكون مشاركة سياسية. وهكذا، مع أن حزب الله يتصور الدولة الإسلامية أفضل وسيلة لتحقيق العدالة، فلا ينبغي أن يستبدل عدم تحققها بغياب كامل للعدالة يفترض أن ينجم عن مقاطعة حزب الله للنظام السياسي الديموقراطي. وأياً يكن الأمر، كان الحزب لا يزال يشعر بأن مقاومته بحاجة إلى اكتساب شرعية على المستوى الشعبي، وإلى حد أقل، على المستوى الدولي، وبالاندماج بالنظام السياسي فقط استطاع الحزب أقناع غالبية اللبنانيين بمنطق المقاومة، وكسب شرعية دولية بصفته تياراً شعبياً لا تياراً غريباً أو مفروضاً بمعادلات سياسية إقليمية او دولية. ويعدو أيضاً هذا الاندماج إلى جذوره المحلية المتينة.
وترى الكاتبة أنه بسبب هذه الجذور لا ينبغي اعتبار اعتناق الحزب للديموقراطية انقلاباً مفاجئاً، بل هو تطور طبيعي خلال عقد من وجوده. ولقد أوجب تحوله في الاعوام العشرة الأخيرة، من مجموعة مقاومة صغيرة إلى حركة اجتماعية واسعة يؤدي دور الحزب الانبعاث السياسي والاجتماعي فضلا عن كونه حزب مقاومة. ولهذا السبب بالضبط يمكن القول إن حزب الله يستخدم الديموقراطية لحفظ وضعه السياسي فقط، وهو ليس ملزماً بها التزاماً حقيقياً كمبدأ إيديولوجي. ولا يترتب على هذا القول إنه لا يؤيد الديموقراطية بصفتها حق تأييد كنظام حكم، إلا أنه يدعو إلى استخدامها كمجرد إجراء من اجراءات الانتقال إلى السلطة.
مفهوم ولاية الفقيه
من منظور الإمام الخميني (قده) فكرة الإنتظار لعودة الإمام المهدي (عج) لاقامة العدالة في الأرض فكرة غير معقولة. ولا يمكن أن يكون الله قد حصر صلاحية شرائعه في مئتي عام أي من حكم النبي (ص) حتى الغيبة الصغرى، في حين أن وجود هذه الشرائع في حد ذاتها تفترض وجود حكم أسلامي. وبعد أن يثبّت الإمام الخميني الحاجة الملحة إلى دولة إسلامية يمضي بالقول إن هذه الدولة لا يقودها سوى شخص متبحر في الشريعة مثل الفقيه. وذلك بالاستناد إلى عدة مصادر ومنها القرآن الكريم في قوله تعالى :"أطيعو الله وأطيعو الرسول وأولي الأمر منكم". وهو ما يفسره الإمام ببيان إلهي بحق الفقهاء في الحكم. ومن خلال غيبة ولي العصر (الإمام المهدي) تؤول الولاية وقيادة الأمة إلى الفقيه العادل والتقي. ولكن ما هو دور ولاية الفقيه في فكر حزب الله السياسي؟!.
يبدو بشكل مؤكد أن مقام ولاية الفقيه جزءاً أساسيا في بنية حزب الله الفكرية. ويرى أنها امتداد لولاية النبي (ص) والأئمة (ع) ولذلك يضفي عليها صفة مقدسة للغاية. وهنا يجري التمييز بين الولاء بالوطنية وبين الولاء الديني. إذ تقول الكاتبة عندما نفهم الأهمية الدينية لقداسة الولاية يسهل فهم تشديد حزب الله مراراً على أن التزامه بالولاية لا يمثل التزاماً سياسياً برئيس دولة وطني. إنه التزام فكري بشخصية إسلامية مقدسة وبخلفائها الذين تعدّ أوامرهم حقائق ثابتة.
وهذا ولاء يدّل على نزوعه الإسلامي العام، والولاية بهذا المعنى هي المستودع الأخير للانتماءات الإسلامية في حين أن الدولة الإيرانية، التي تشبه مثال الدولة الإسلامية إلى حد بعيد، هي مصدر الولاء قبل الأخير. ولذلك عندما يصف حزب الله الجمهورية الإسلامية بأنها ديننا وكعبتنا ودمنا وعروقنا، فإنه يشير إلى ولاية الفقيه لا إلى الحكومة الإيرانية. وهنا الكاتبة تفند العديد من أراء الباحثين الغربين الذي اتهموا حزب الله بازدواجية الولاء وانقسام الهوية. بعد هذا القول تقول إنه من الخطأ الفاحش أن نستنج – كما فعل بعض الباحثين – أن المضامين الإسلامية لمبدأ ولاية الفقيه تساوي رفض حزب الله فكرة القومية. وهم ينسون أن الولاية ليست مشروعاً سياسياً بالنسبة إلى الحزب.
الشمولية الإسلامية والهوية الوطنية
رغم شمولية حزب الله وتصوره للأمة الإسلامية فإن مسحات قومية عربية تسم جزءاً كبيراً من خطابه السياسي الأخير. وهذه المسحات هي، إلى حد ما، نتاج براغماتيته العامة، وهي تالياً نقلة بارعة لكسب شرعية شعبية في العالم العربي ذي الأغلبية السنية. وقد حاول الحزب نيل هذه الشرعية من خلال تقديم نفسه حركة عربية متميزة كما يتضح في تسميه نفسه مقاومة إسلامية ولبنانية عربية تقاتل في سبيل قضية العرب والمسلمين كافة لا قضية الشيعة وحدهم. وكان التطور الأول إدراك الحزب جسامة مهمة التعبئة السياسية للأمة – متعددة الأعراق والقوميات الإسلامية – كي تشارك في الكفاح ضد إسرائيل.
وبما أن أمة حزب الله المحدودة عاجزة في نهاية الأمر عن دحر إسرائيل بمفردها، أدرك الحزب سريعاً أن لا غنى عن الدعم العربي في مواجهته الكيان الصهيوني. وإن تقبّل حزب الله للقومية العربية، أو الإستعراب، يقترن بلبننته أو انفتاحه على الدولة والمجتمع اللبنانيينن، وهو الانفتاح الذي يتجلى بوضوح في تأكيد حزب الله لهويته اللبنانية وتسمية نفسه حركة وطنية. ومن منطلق وعي حزب الله التام لتأثير علاقاته الانتقالية بالولي الفقيه والدولة الإيرانية، التي يرتبط بها، تأثيراً سلبياً على شرعيته، سعى لقلب التصور الشعبي المنتشر الذي مؤداه أن الحزب منظمة تابعة لإيران وبلا هوية أو انتماء وطني. وبهذا المعنى بذل الحزب جهده علانية ليجعل هويته الإسلامية، التي يشكل انتسابه إلى الجمهورية الإسلامية ومفهوم ولاية الفقيه جزءاً أصيلاً منها، منسجمة مع هويته الوطنية.
الصراع مع الغرب :
يتهم الإسلاميون المعاصرون الغرب بإضمار مؤامرات لاخضاع الثقافة والمؤسسات الإسلامية وإذلالها. وعلى المنوال نفسه بعتقد حزب الله أن الغرب متورط في مؤامرة كبيرة أو مخطط استكباري للهيمنة على المنطقة ومجابهة الحضارة الإسلامية. إلى جانب تورط الغرب أو أوروبا في تأسيس الدولة الاسرائيلية على أنقاض فلسطين فقد وجدت مذنبة أيضاً بإدامة هذه الدولة غير الشرعية. وعليه تلقى على الغرب مسؤولية استمرار تشرد الفلسطينيين في الشتات وفي طمس الهوية الفلسطينينة وتصفية وجودها. وأضف إلى ذلك اقتناع حزب الله بالمعايير الغرب المزدوجة في تعاطيها مع حقوق الإنسان، مفاضلاً حقوق الكيان الإسرائيلي على حقوق العرب (الفلسطينيين واللبنانيين) في جهادهم ضد المحتل.
وتنبّه الكاتبة إلى رد فعل حزب الله في مواجهة الغرب، إذ إنه يميّز بين الشعوب الغربية وبين الحكومات، من هنا جاء استنكاره للعديد من العمليات التي قامت بها حركات إسلامية بحق سواح اجانب في مصر مثلاً. وفي ضوء رفض الحزب استخدام العنف على أرض غربية واشمئزازه من قتل مدنيين غربيين، يصعب تقبل التهم القائلة إن حزب الله دبّر سلسلة من التفجيرات الإرهابية في باريس العام 1986 وغيرها في الأرجنتين وفي أميركا. فيتضح في ما يتعلق بالصراع مع الغرب والنزاع الحضاري لا تترجم صراعاً وجودياً، أن ينهي طرف وجود الطرف الأخر، ولهذا السبب لا تستقيم مقارنته بالصراع الوجودي ضد إسرائيل في أي حال.
مقاومة الاحتلال الإسرائيلي
يعرّف حزب الله نفسه بأنه حركة جهادية تتمثل وظيفتها الأسمى في تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال الصهيوني بالمقاومة المسلحة. انطلاقاً من هذا التعريف الحزب وضع أولويات رئيسية، إذ ليس همه أسلمة المجتمع بالفرض ويستخفّ بأعمال مثل نسف محلات مشروبات روحية وأماكن لهو ومقامرة بوصفها أعمالاً هامشية تخدم فقط في إبعاد مرتكبيها عن الذيل وجعلهم يسنون الرأس. وتظهر صحة التزام الحزب بأولوية المقاومة من خلال سلوكه السياسي المرن والمتوزان مع الحكومات المتعاقبة في تركيزه على ما يسميه "حماية ظهر المقاومة". وتتكامل هذه الأولوية إلى درجة أن كلا من جناح الحزب السياسي وجناحه العسكري متطابق مع الأخر. وفي التحليل الأخير أن المقاومة هي التي أوجبت إنشاء المؤسسات السياسية والاجتماعية والخدماتية وليس العكس.
وإن مقاومة حزب الله للاحتلال الإسرائيلي لا تقوم على المنطق فحسب، بل هي متجذرة أيضاً في التزام الحزب بتنفيذ واجبه الديني الشرعي بخوض جهاد دفاعي ضد ظالمين مثل إسرائيل. وتتابع الكاتب بتوقفها عند مفهوم الجهاد، والذي يقسّم في الإسلام إلى نوعين : الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر. وتقول بأن حزب الله يرى جهاد النفس كفاحاً أكبر من الجهاد العسكري مع العدو. وهي تقدم رؤية متواربة حول هاتين القناعتين في مفهوم الحزب الإيديولوجي، لتصل إلى فصل بين رؤية الشيعة والسنة بأن الجهاد الدفاعي جزء متكامل من المذهب الإسلامي السني، فقد أفاد تاريخ الشيعة من المعاناة والظلم، المقرونين بالجهاد الدفاعي النموذجي الذي خاضه الإمام الحسين (ع) في إسباغ أولوية معينة على هذا المعتقد الديني عند الشيعة.
ومن الخطأ استنتاج أن حزب الله لا يرى أشكالاً أخرى من مقاومة إسرائيل واجباً شخصياً مفروضاً على كل فرد. وحتى إذا كان الحزب مستعداً لاعتبار جهاده العسكري ضد إسرائيل فرض كفاية، فإنه لا يرى بأي شكل من الأشكال ان الجهاد الثقافي والسياسي والاقتصادي ضد الاحتلال نشاط طوعي. بالعكس، فالحزب يصرّ على أن مقاومة الاحتلال حق وواجب جميع الناس، المحتلة أرضهم، وقد لا يطلب منهم أن يفعلوا ما تفعله المقاومة الإسلامية، لكن يجب عليهم جعل المقاومة اولويتهم في الميادين السياسية والثقافية والتعليمية.
معاداة الصهيونية وإسرائيل
تنفي الكاتبة ما يدعيه بعض الإسرائيليين أن كره حزب الله لإسرائيل بسبب احتلالها لجنوب لبنان، وتؤكد وفق تصريحات لقادة الحزب وأن احجامه عن الاعتراف بالكيان الصهيوني متجذر في تعليله لأصول الدولة الإسرائيلية في حد ذاتها وأنها قائمة على العدوان أصلاً. وهذا سبب تصوير الصراع مع إسرائيل بأنه صراع وجود لا صراع حدود. وإن فكرة التجانس الإيديولوجي متأصلة في تنميط حزب الله الثقافي للدولة والمجتمع الإسرائيليين. فتنديد الحزب بإسرائيل بصفتها دولة عنصرية وجائرة ناشئ من التزامها بالعقيدة الصهيونية التي ولدتها. ومساواته إسرائيل بالصهيونية وإسناد الأولى إلى الأخيرة جلية في تصويره إسرائيل بأنها الورم المتفرح للصهيونية العالمية. كما أنهما واضحان في استمرار الحزب في وضع مصطلح الصهيونية وإسرائيل جنباً إلى جنب وكذلك في قابلية المبادلة بين المصطلحين في تصريحات مسؤولي الحزب وخطبهم. من هنا يشرّع حزب الله لنفسه حق قتال إسرائيل.
وهذا التشريع في "استخدام العنف" ضد المدنيين الإسرائيليين لا يسعى لقتلهم بوصفه هدفاً بهدف ذاته، ولا ينظر إليه بعين الحصانة الخلقية. ومن حيث المبدأ يؤكد الحزب أنه يفضل ما أسمته الكاتبة "المدنيين" في الكيان الصهيوني وذلك في ضوء اهتمامه الإسلامي الإنساني، وأن الحزب يكتفي بمقاتلة جنود الاحتلال لو أن إسرائيل لا تجبره على قصف "أهداف مدنية" فيها. وعندما يجبر على ذلك قإنه لا ينظر إلى اللجوء إلى هذا الاجراء من زاوية تحتمل الجدل والنقاش خلقيا. وهو يرى أن إسرائيلي جيل ما بعد النكبة وحتى المهاجرون حديثاً هم متهمون بتهجير الشعب الفلسطيني وقمعه ويسميهم الحزب مستوطنين ومحتلين، ولا يبرأ حتى أطفال الإسرائيليين من هذا التوصيف.
في الفصل الثامن والذي يحمل عنوان "معاداة اليهودية"، تبيّن الكاتبة الفصل المنهجي الذي يقيمه حوب الله بين اليهودية ديناً والصهيونية فكراً إمبريالياً. والعلاقة الوحيدة بين العقيدتين مثلما يراها الحزب تكمن في الاستغلال الصهيوني للعصبية اليهودية لادخار دعم يهودي واسع لحركتها السياسية.
سقطات غير مسموح بها
من الواضح أن الكاتبة بذلت مجهوداً مضاعفاً من الدراسات والأبحاث وتتبع كل ما صدر عن "حزب الله" منذ نشأته حتى تاريخ إعدادها أطروحة الدكتوراه هذه، ولقد أتت موضوعية في أن أعطت الحق لأصحابه ووصفتهم بما هم أهل له. ولكن هذا لا يعفيها من مغالطات وقعت فيها، نعذرها عليها، نظراً لتأثرها بقراءات مختلفة عن الحزب وإيديولوجيته الدينية. فإنها مثلاً تتوقف عند عدم تواجد غير المسلمين في هيكلية الحزب التنظيمية، وهي محصورة بمن يتمسكون بفكر الحزب السياسي وبعقيدته الإسلامية. ولا ريب أنه لا عيب في هذا الشأن إذا راجعنا حركات الاجتماعية والسياسية وحتى تلك التي استلمت السلطة في بلادها، كان أحد مكوناتها الأساسية تحمل في بذورها الحفاظ على البقاء هي عدم تواجد من يحمل فكرا مناقضاً أو ضدياً لها في داخلها.
وفي الحقيقة نستغرب أن تقول كاتبة مسلمة مثلها في جدارتها إن الإسلاميين من شيعة وسنّة يرون الإنسان مخلوقاً شريراً في ذاته وأسوأ حتى من الحيوانات الأخرى..". وفي هذه سقطة كبيرة منها في ان تعمتد مرجعاً أجنبياً للرجوع إليه في حين أن المكتبات الإسلامية تضج بمئات الكتب حول العقيدة الإسلامية. ومن المغالطات الأخرى التي تقع فيها عندما ترجع تأثر حزب الله السياسي بأداء الراحل العلامة السيد محمد حسين فضل الله، وهي بنفسها أفسحت فصلا كاملاً للتحدث عن تكامل حزب الله الإيديولوجي والسياسي مع الجمهورية الإسلامية في إيران. تماماً كما تدعي بأن حزب الله في نطاق معين يرى الدولة الإسرائيلية نموذجاً ديموقراطياً، وفي الحقيقة لا ندري من أين استقصت مصادرها حتى أفضت إلى هذا الاعتبار ونسبه إلى الحزب وقيادته.
وكذلك تعالج بطريقة ملتبسة مفهوم الجهاد عند الحزب بقسميه الأكبر والأصغر، ففي حين تدعي أن تمييز الحزب بين هذين القمسين معقداً فهو لا معنى له برأيها لأنه الحزب في نهاية المطاف يمجّد الجهاد العسكري بأفضلية تفوق الجهاد الأكبر الذي يعد إسلامياً الأصعب أمام المرء لينجح في اختبارات إيمانه، رغم أنها تعود وتقول إن تمجيد الجهاد العسكري أو الأصغر على نحو يفوق تمجيد أنواع جميع أشكال الجهاد، يقتضي ضمنياً تنفيذ الجهاد الأكبر، لأنه يشترط على المرء التغلب على نفسه وعلى خوفه من الموت بصورة خاصة كي يتمكن من مجابهة عدوه.