بين حالة الضبابية الإقليمية والتطورات في سوريا: هل يقع الإسرائيليون في إغراء "الحساب القاتل"؟
علي عبادي
بين حالة الضبابية الإقليمية والتطورات في سوريا: هل يقع الإسرائيليون في إغراء "الحساب القاتل"؟
تثبت الغارة الإسرائيلية الأخيرة على موقع للمقاومة الإسلامية على الحدود اللبنانية - السورية أن ثمة ترابطاً يتأسس أكثر فأكثر بين مجرى الصراع في سوريا ومسار الصراع الطويل بين محور المقاومة والكيان الصهيوني. ليست الأحداث على أرض سوريا بعيدة عن حسابات "اسرائيل" وتدخلاتها المتكررة، فهذه المرة السادسة التي تتدخل فيها الطائرات المعادية في قصف أهداف في سوريا ولبنان منذ كانون الثاني/ يناير 2013، كما تذكر مصادر العدو. وهذا التدخل يعكس في المقام الأول محاولة للتأثير في مجرى الصراع الدائر بالوكالة على أرض سوريا والذي يهدف في الأساس الى وضع قوى دولية واقليمية مؤثرة يدها عليها وفصل المقاومة عن عمقها الاستراتيجي، ويرمي في المقام الثاني لإحباط أية استعدادات أو جهوزية للحرب المقبلة بين المقاومة وإسرائيل.
ليس من باب الصدفة مطلقاً ان الغارات الاسرائيلية استهدفت في المرات السابقة طرفاً محدداً هو الجيش السوري الذي يتصدى لحرب عصابات منظمة على طول الأرض السورية وعرضها، بينما يحظى الطرف المقابل بعناية اسرائيلية لافتة تتجلى بضرب إمكانات هامة لدى الجيش السوري وتمكين الجماعات المسلحة من الافادة من المناطق المنزوعة السلاح في الجولان المحتل لمهاجمته، مروراً بتزويد هذه الجماعات بمعطيات اسرائيلية عسكرية عن تحركات وانتشار الجيش السوري والتشويش على اتصالاته، كما حدث إبان معركة الغوطة الشرقية في الخريف الماضي، وصولاً الى استقبال جرحى هذه الجماعات في المستشفيات الاسرائيلية والعناية بهم قبل إعادتهم لمواصلة القتال. ولا تجد هذه الجماعات أية غضاضة في فتح قنوات اتصال مع الجيش الاسرائيلي لتجنب أية احتكاكات غير مقصودة معه قد "تلهيها" عن حربها مع الجيش السوري وللإفادة من الخدمات التي تقدمها سلطات الاحتلال لها على الصعيد اللوجستي. إنها حالة تطبيع تذكّر بـ"الجدار الطيب" الذي أقامه جيش الاحتلال في سبعينيات القرن الماضي على حدود لبنان الجنوبية قبل تأسيس سعد حداد "دولة لبنان الحر" على رقعة من أرض الجنوب.
القلق من التطورات السورية
واذا كانت الغارات الاسرائيلية الماضية ترافقت مع، أو سبقت، هجمات للجماعات المسلحة في دمشق او في غوطتها الشرقية او في محاور أخرى، فإنها اليوم تجد وظيفة لها على حدود لبنان الشرقية، من خلال تعطيل أية محاولة يقوم بها الجيش السوري والمقاومة للإمساك بسلسلة جبال لبنان الشرقية وصولاً الى مرتفعات القلمون وما يعنيه ذلك من إطلالة استثنائية على المواقع الاسرائيلية المقابلة والتوفر على عمق حيوي للعمليات العسكرية في الحرب المقبلة بين محور المقاومة واسرائيل. فضلاً عن ذلك، ثمة مصلحة اسرائيلية في منع إلحاق هزيمة كبيرة بالجماعات المسلحة في القلمون وما قد يتركه ذلك من تعزيز خاص لمكانة الجيش السوري في القتال الجاري على أرضه وموقع حزب الله في توازن الردع الإقليمي.
لقد أرسل الجانب الاسرائيلي إشارات مكثفة في السنوات القليلة الماضية عن نيته التحرك لمنع وصول أي سلاح "كاسر للتوازن" بين جيشه والمقاومة، وهو يقصد خصوصاً صواريخ متطورة مضادة للطائرات الاسرائيلية التي تتمتع بالتفوق الجوي او للسفن الاسرائيلية التي تجوب عرض البحر المتوسط او صواريخ أرض- أرض ذات مدى طويل ودقة عالية تستطيع اصابة أهدافه الحيوية العسكرية والاقتصادية على امتداد مساحة فلسطين المحتلة. وهذه الحجة قد تكون صحيحة جزئياً، لكن العدو يخبئ خلفهاً قلقاً عميقاً من مسار الصراع الحالي على أرض سوريا، برغم حديثه المتواصل عن "انشغال" حزب الله في القتال الدائر هناك. اذ ان انجلاء هذه الحرب عن هزيمة المحور الذي يرعاه الغرب، و"اسرائيل" من خلف الستار، سيقرّب على الأرجح موعد الحرب المقبلة بين المقاومة و"اسرائيل"، والأخيرة لا تريد الانتظار الى نهاية القتال في سوريا لتقرر الخطوة التالية. فإذا تبين لها أن لمحور المقاومة اليد العليا في الميدان، قد تجد أن من مصلحتها التدخل وشن ضربات استباقية لمنع هذا المحور من استثمار أي انتصار في المعادلة الاستراتيجية على امتداد خريطة الصراع. ومن هنا نشهد الحضور الاسرائيلي المكثف عسكرياً وسياسياً في الجولان: في اتجاه جنوب سوريا من خلال اطلالة نتنياهو الأخيرة والاعلان عن تشكيل فرقة قتالية بمواجهة الوضع جنوب سوريا لناحية درعا والقنيطرة، وفي اتجاه لبنان وعبره شرقاً باتجاه سوريا لتعطيل مفاعيل التحرك العسكري الجاري على أرض القلمون.
"جس نبض" والبيان - الرد
لقد مثّلت الغارة الاسرائيلية على موقع حدودي لحزب الله جس نبض مدروساً، وقد تكون هدفت - والله أعلم - الى عدم إيقاع خسائر بشرية كبيرة تفادياً لعواقب متدحرجة يعرف العدو انه سيكون من الصعب هضمها. وربما كان بإمكان الحزب تجاهل هذه الضربة وعدم الإعلان عن حصولها ما دام انها لم توقع إصابات او تلحق به أضراراً جسيمة. وهذا من شأنه أن يعفيه من مواجهة إحراج داخلي يتربص به ويقوم على التشكيك والتشفي، وإحراج اسرائيلي عسكري يدفعه الى التزام موقف دفاعي بحت. لكن أي صمت سيعني ان حزب الله تقبّل "الصفعة" ولو مؤقتاً، وسيفتح باباً لغارات أخرى ربما تكون مؤلمة، ومن شأنها أن تضع المقاومة مستقبلاً في موقف لا تـُحسد عليه. وبعد الغارة بقليل، حسِب الاسرائيلي انه كسب نقطة وان حزب الله "ابتلع لسانه" ولن يجرؤ على الاعتراف بما حصل، تاركاً لوسائل الإعلام الاسرائيلية ولبعض الاعلام اللبناني الذي يتفنن في اختراع الوقائع لحسابات سياسية داخلية ان تتسابق للتكهن بخسائر حزب الله. وكان إعلان الحزب عن حصول الغارة وليد قرار يهدف الى إبلاغ الاسرائيلي ان ما من ضرورة للضرب والاختباء، واذا لم يكن جريئاً في الاعتراف بأفعاله بقدر جرأته في الإغارة، فعليه أن يعلم ان المقاومة لديها دائماً ما تقوله لجمهورها، ولديها أيضاً الجواب الذي لا يريح العدو ويدفعه الى القلق المستمر والبقاء لفترة طويلة في حال تأهب مكلفة امنياً، كما حصل بعد اغتيال القائد الحاج عماد مغنية.
الآن تتعدد السيناريوهات الاسرائيلية حول طبيعة رد حزب الله، بين القيام بقصف صاروخي على مستوطنات او مواقع عسكرية، والقيام بعمليات تسلل عبر الحدود وتنفيذ عمليات قنص واغتيال شخصيات اسرائيلية رفيعة المستوى. ويصحب ذلك اجراءاتٌ مختلفة تمتد الى السفارات الاسرائيلية عبر العالم، وهذا يدلل على المصداقية التي يستشفها العدو في بيان حزب الله، برغم استنتاجات بعض المعلقين الاسرائيليين الذين يرغبون في رؤية حزب الله في صورة المشغول بنفسه في حرب سوريا والعاجز عن الرد على "اسرائيل". ولخّص أحد المستوطنين لصحيفة "معاريف" الاسرائيلية صورة لم تُمحَ من ذاكرة الاسرائيليين منذ تسعينيات القرن الماضي بالقول: "لقد تعلمنا ان نصرالله ينفذ ما يقوله ويتعهد به..."، وهذا بالضبط ما تخشاه "اسرائيل" وتسعى دوماً لتغييره، ورغبتها دائماً ان تُلاقي أعداء يقولون ما لا يفعلون ولا تعير لهم بالتالي حساباً يذكر.
تراكم القدرات وخطأ الحسابات
هناك أيضاً ما يخشاه الاسرائيلي الى درجة الهوس، وهو تطور قدرات حزب الله القتالية تكتيكاتٍ وتسليحاً، فضلاً عن تصميمه الدؤوب على المس بقدرات "اسرائيل" الردعية. وكما ان حزب الله بعد حرب تموز 2006 تطور نوعياً وكمياً في جميع المجالات عما كان عليه قبلها، هو اليوم بعد انخراطه في الحرب الى جانب سوريا حقق قفزة نوعية مختلفة عن تلك التي عرفها قبلها. في ما مضى، كان بعض القادة الاسرائيليين يفاخر بأن عقيداً في الجيش الاسرائيلي أكثر كفاءة من جنرال في الجيش الأميركي، بسبب المراس الاسرائيلي في الحروب المتتالية مع العرب، في مقابل قلة مشاركة الأميركيين في الحروب في فترة ما قبل أفغانستان 2001. تصح هذه المقارنة على واقع حزب الله اليوم الذي يكتسب خبرات في الميدان مع تمرس على مختلف ألوان تكتيكات حرب العصابات والحرب النظامية في آن معاً، وهو يختبر جهوزيته ليس في مجال المناورات والتدريبات، كما يفعل الاسرائيلي، بل في معارك حقيقية.
وهذه الخبرة التي تجعل حزب الله في موقع المبادرة والقدرة على التكيف مع هجمات العدو والانتقال منها الى الهجوم المضاد، تمثل فارقاً لم يدرك الاسرائيلي كل أبعاده، لكنه بالتأكيد يعرف ما معنى تراكم الخبرات وترميم نقاط الضعف التي تظهر في الميدان وزيادة نقاط القوة. وعلى ذلك، فإن حرب سوريا - برغم ما تمثله من خسارة لبعض الإمكانيات- كانت فرصة استثنائية مكنت المقاومة من اختبار جاهزيتها وتطوير أدائها وقدراتها. واذا كانت المقاومة قد فاجأت "اسرائيل" ببعض ما كان لديها في حرب 2006، وتسببت بخيبة ثقيلة للاستخبارات العسكرية الاسرائيلية أشار اليها تقرير فينوغراد، فإن المفاجأة ستكون أشد وقعاً في أية حرب مقبلة، بالقياس الى التطورات النوعية المستجدة على هذا الصعيد.
واستناداً الى ما سبق، يخاطر الاسرائيلي باستفزاز حزب الله اذا كان يعتقد أن المقاومة ليست في وارد التعامل مع حربين في الوقت نفسه. لقد ارتكب خطأ قاتلاً آخر مرة عندما ظن عام 2006 ان الفرصة مؤاتية لسحق حزب الله من الجو قبل البر. وهو اليوم يعود الى تقدير مسبق فيه بعض المبالغة بأن حزب الله لن يحول طاقته القتالية الرئيسية جنوباً، في حال فرضت الحرب عليه. في هذه الحالة، يستطيع حزب الله أن يكيف قدراته ويمنح الأولوية للساحة الأكثر مصيرية، وقد تكون الحرب الاسرائيلية - اذا وقعت - فرصة له لكي يسعى الى انتزاع انتصار تاريخي ثالث يثبّت أركان مشروع المقاومة ويعجّل في تحقيق أهدافها القريبة والبعيدة. والسؤال المهم هنا هو ما اذا كان الاسرائيلي مستعداً لأن ينزلق مرة أخرى الى مغامرة غير متيقن من الفوز فيها، أو أن يفدي بنفسه الجماعات التي تحققُ، من حيث تدري او لا تدري، هدفه في ضرب مشروع المقاومة.
ملاحظة أخيرة، تذكّر الغارة الاسرائيلية في توقيتها المتوافق مع صياغة البيان الوزاري للحكومة اللبنانية أن العدو الصهيوني لا يزال يتربص بلبنان وان المقاومة لم تكف عن ان تكون عقبة في طريق هيمنته واستباحته للبنان أرضاً وسماءً ومياهاً، وبالتالي فكل محاولة لتجاهلها او اسقاطها من الحساب يغري العدو باستفراد المقاومة وتكثيف ضغوطه على الحكومة اللبنانية لوضعها أمام استحقاق تنازع داخلي يقدم خدمة جليلة للإحتلال فحسب.
للتواصل مع الكاتب : aliabadi2468@yahoo.com