السلطة السياسية الأميركية تحاول محو التاريخ النضالي للعمال الأميركيين من خلال اعتبار أنّ الأول من أيار (مايو) ليس عيداً للعمال، بل «لإعادة تأكيد الوفاء للولايات المتحدة والاعتراف بإرث الحرية الأميركية».
يواصل المفكر الشهير تحليلاته الذكية للسياسات الأميركية حيال أزمات العالم. كتابه «صناعة المستقبل»، الذي انتقل أخيراً إلى المكتبة العربية، يضم 50 مقالاً تناول فيها مواضيع عدة بشراسته النقدية المعهودة.
بالنشاط المذهل ذاته، يتابع المفكر الأميركي نوام تشومسكي (1928) إصدار مؤلّفاته التي قاربت المئة. 50 مقالاً هي محتوى كتابه «صناعة المستقبل: الاحتلال، التدخّلات، الإمبراطوريّة والمقاومة» (2012) الذي صدرت نسخته العربية أخيراً (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر). تتناول المقالات مواضيع شتى في السياسة الخارجية الأميركية: صعود الصين كقوة عالمية جديدة، تطورات أميركا اللاتينية، البرنامج النووي الإيراني، الصراع الفلسطيني _ الإسرائيلي، وحركة «احتلوا وول ستريت».
جاءت فكرة عنوان الكتاب رداً على التصريح المنسوب إلى كبير مستشاري الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن «نحن صنّاع التاريخ... وأنتم، جميعاً، ستحللون أعمالنا لا أكثر». سنجد في التصدير الذي قدّم فيه جون ستيكني (المحرر في «نيويورك تايمز») للكتاب الاقتباس الشهير لماركس «لا تقتصر المهمة على فهم العالم بل على تغييره». وقد ورد على لسان تشومسكي خلال خطابه الموجّه إلى متظاهري حركة «احتلوا»، وأكمله تشومسكي بالقول «لكن لا بد من التيقن أنّ تغيير العالم يحتاج حتماً إلى فهمه». بهذه الروح النقدية، سيتابع تشومسكي مقالاته لتحليل أحداث العالم، وللنقد الشرس للسياسة الأميركية.
رغم تركيز الكتاب على كوريا الشمالية، وأميركا اللاتينية والصين، إلا أنّ تشومسكي يُفرد مقالات عدة للحديث عن المنطقة العربية، ولا سيما الوضع الفلسطيني المأسوي سياسياً وإنسانياً. في هذه المقالات، يبدو تشومسكي، كعادته، شديد القسوة في انتقاده لـ«الوسيط الأميركي» (عبارة تستخدمها وسائل الإعلام للتغطية على حقيقة الانحياز الأميركي لإسرائيل) خلال استعراض تاريخ المفاوضات المتعثرة منذ عام 1967. هو يحمّل مسؤولية إخفاقها لإسرائيل والولايات المتحدة بالقدر نفسه، إذ يعتبر أن الولايات المتحدة «شريك كامل» في الاعتداء والاحتلال. ويشير ساخراً إلى أنّ مفاوضات طابا عام 2001 كادت تحقق النجاح لأن الولايات المتحدة «لم تكن موجودة كوسيط».
ويبدو تشومسكي في هذه المقالات متذبذباً في رؤيته للحل النهائي للقضية الفلسطينية. يعرض التوقّعات بشأن «حل الدولتين»، فيما تميل تحليلاته إلى حل الدولة الواحدة، عدا أفكاره الأناركيّة المتمثلة في هجومه على مبدأ السلطة السياسية والعسكرية بحد ذاته، سواء كان ذلك بشأن الولايات المتحدة أو إسرائيل أو حتى مصر وإيران. انتقاده الصريح لنائب الرئيس ديك تشيني الذي صرّح بأن الإدارة الأميركية «لا تسير وفقاً لتقلب نسب استطلاعات الرأي»، لا يعني بأن تركيبة السلطة و«فكرة الديموقراطية الأميركية» هما وحدهما المشمولتين بالانتقاد، بل أيضاً طبيعة السلطة القائمة على مبدأ الاقتراع كل أربع سنوات من قبل الشعب الذي «يختار بين مرشحين، ثم عليه أن يلتزم الصمت».
إنّ تشومسكي يبدو هنا قريباً من أفكار آلان باديو الرافضة لـ«الديموقراطية البرلمانية»، وأفكار سلافوي جيجك المفكِّكة لـ«فرضية الديموقراطية الرأسمالية». ويتّضح هذا التقارب في المقالات التي تتناول الوضع الاقتصادي العالمي (الأميركي بشكل أخص) بعد الأزمة المالية عام 2008، إذ يتفق باديو وجيجك على أن ما يجري على الأرض هو انتقاد خجول للرأسمالية ومحاولة لـ«استبدال الرأسمالية المتطرفة برأسمالية معتدلة». وهذا يتفق مع رؤية تشومسكي الذي يلاحظ بأنّ السلطة السياسية الأميركية تحاول محو التاريخ النضالي للعمال الأميركيين من خلال اعتبار أنّ الأول من أيار (مايو) ليس عيداً للعمال، بل «لإعادة تأكيد الوفاء للولايات المتحدة والاعتراف بإرث الحرية الأميركية». ولذلك دعا متظاهري حركة «احتلوا» إلى «إنشاء مجتمعات تعاونية قد تشكّل ركيزة (...) لتجاوز العقبات التي تواجهنا والصدام الذي بدأ»، وإن هذا الصدام طبقيّ بالضرورة، ولو لم يصرّح تشومسكي بذلك بشكل مباشر.
بعيداً عن المظهر الخارجي للمقالات الذي يبدو تحليلاً للسياسة الخارجية فحسب، يمكننا ملاحظة أن الرسالة الضمنية لتشومسكي هي تلك المتعلقة بـ«إعادة السياسة إلى الشعب»، وانتزاعها من أيدي القلة الحاكمة، سواء كانت علمانية أو دينية، عسكرية أو مدنية، سياسية أو اقتصادية. يقول في مقارنته الحرب على أفغانستان بالحرب على فيتنام: «تذكّرنا مذكرة وكالة الاستخبارات بأن للدول عدواً داخلياً، ألا وهو الشعب.
ولا بد من السيطرة عليه عندما تتعارض سياسة الدولة مع رغبته»، أو حين يشير دائماً إلى ضرورة «استشارة السكان»، سواء كان ذلك أثناء تحليله للسياسة الخارجية، أو في مناقشته للأراضي المتنازع عليها في المفاوضات الفلسطينية _ الإسرائيلية. ربما تكون هذه الرسالة الضمنية هي السبب الأكبر في كون تشومسكي أحد أكبر المتعرضين لمآسي الرقابة، رغم الانتشار الكبير لكتاباته في المحور المعادي للسياسات الأميركية.
ما يُنشر لتشومسكي هو ما تسمح به الرقابة السلطوية بعيداً عما قد يُفهم منه انتقاد صريح أو ضمني لسلطة هذه الدولة أو تلك؛ وكتاب «صناعة المستقبل» مثال واضح، فليس ثمة سلطة تنجو من انتقاداته اللاذعة، سواء كانت حليفة «معتدلة» للولايات المتحدة كالسعودية أو بريطانيا أو إسرائيل أو مصر أو السلطة الفلسطينية، أو عدواً «متطرفاً» كإيران أو كوريا الشمالية أو فنزويلا أو «حماس».
ورغم أنّ الفترة التي يغطيها الكتاب تسبق «الربيع العربي»، إلا أنه لا يخلو من بعض الإشارات والتنبؤات بشأن مستقبل العالم العربي الذي «يغلي بفعل الانتفاضات»، وليس مصادفة أن تتمحور المقالات الأخيرة من الكتاب (في عامي 2010 و2011) حول موضوعين أساسيين، هما: استيلاء الشركات على السلطة الفعلية للدول، والانهيار التدريجي للأنظمة في العالم. ولهذا يختتم تشومسكي كتابه بأن مصدر الخطر الفعليّ من الغليان الشعبي في هذه المنطقة أو تلك هو الاستقلال. مع أن السياق الذي وردت فيه العبارة يشير إلى الاستقلال عن السياسة الأميركية، إلا أن الرسالة الضمنية تتوضح تدريجاً بأن المعنى هو الاستقلال عن أي سلطة، وعن كل سلطة.
جزء ثانٍ
«صناعة المستقبل» هو الجزء الثاني من سلسلة الأعمدة المضادة (Op-ed) التي يكتبها تشومسكي شهرياً لصحيفة «نيويورك تايمز». صدر الجزء الأول «تدخلات» عام 2007 (صدرت ترجمته العربية تحت عنوان «مداخلات» عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» ــ 2008)، وضمّ المقالات المنشورة بين عامي 2002 و2007. أما الكتاب الثاني فضمّ المقالات المنشورة منذ شهر نيسان (أبريل) 2007، وصولاً إلى تشرين الأول (أكتوبر) 2011.