المخيّم ليس فاعلاً ولا يستطيع أن يكون فاعلاً حتى لو شاء ذلك. هو مفعولٌ به، تستخدمه جميع القوى الناشطة في لبنان، سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية.
فلسطينيون انتحاريون غب الطلب. والطلب يتزايد عليهم، في هذه الأيام، للقيام بعمليات دموية مذهبية مدانة بكل المقاييس. إن اختيار فلسطينيين من قبل مشغّليهم للقيام بهذه الأعمال غير بريء لأنها تبعدنا عن فلسطين وتحوّل حياة الفلسطينيين في لبنان الى جحيم مضاعف.
هذا عدا عن أن الحرب المذهبية، مهما كانت مبرراتها، هي لاإنسانية وغير أخلاقية، وهي مدمّرة، والرابح فيها خاسرٌ. حتى الآن، يتخذ تورط الفلسطينيين في هذه الحرب الإجرامية طابعاً فرديّاً بعد نجاح المخيمات في لجم محاولات التوريط العام، وخاصة تلك التي قام بها أحمد الأسير. هل يدوم هذا النجاح؟ سؤال برسم المعنيين الفلسطينيين واللبنانيين.
لمزيد من التوضيح، ولتفويت الفرصة على المتربصين بالفلسطينيين والبيئة الحاضنة للمقاومة في لبنان، ودفاعاً عن المصلحتين اللبنانية والفلسطينية، أكرّر ما كتبت منذ 10 سنوات، في أكثر من مقالة: السلاح في المخيمات عديم الجدوى فلسطينياً. ولقد أثبتت الأحداث المتتالية أن هذا السلاح ليس بدون فائدة فقط، وإنما بات يشكل خطراً حقيقياً على الفلسطينيين اللاجئين في لبنان، بالإضافة إلى خطره على اللبنانيين. فبعد توقيع اتفاقية أوسلو، وقبل ذلك بعد إنجاز اتفاق الطائف، ما عاد لسلاح القوى الفلسطينية في لبنان أي دور وطني حقيقي/ عملي.
ومن الأسباب الرئيسية التي قضت على الوظيفة الوطنية لهذا السلاح أزمة العمل الوطني الفلسطيني الشاملة التي جعلت الفصائل عاجزة عن استخدامه بما يتوافق مع الأهداف الوطنية. لذلك، فإن لجوء أي فلسطيني في لبنان في الظروف الحالية، فرداً كان أو مجموعة، إلى استخدام السلاح بحجة إحقاق الحق الفلسطيني أو أي حجة أخرى لا يخدم سوى أعداء الشعب الفلسطيني. والمصيبة الكبرى أنه مع تفاقم الأزمة وزيادة وهن الجسم الفلسطيني، صار هذا السلاح معرضاً للاستثمار من قبل الآخرين خدمة لأجندات إقليمية ودولية منافية للمصالح الفلسطينية. وما يُؤسف له أن صورة المخيم قد تشوّهت من جراء ارتكابات قلة قليلة من سكانه، فعند حصول أي حادث أمني في لبنان، تُوَجَّه التهمة إلى المخيمات، وبالذات عين الحلوة. وترتفع الأصوات المتعصبة لشيطنة المخيم بجميع سكانه، معتبرة إياه البؤرة الأمنية المسؤولة عن كل مصائب لبنان.
المخيم ضحية
المخيم هو الضحية الأكثر تأثراً من جراء الأحداث الأمنية التي يشارك فيها أحد الفلسطينيين أو بعضهم؟ ولتوضيح ذلك، ألفت نظر حَسَني النية من اللبنانيين (لن ينفع مع سيّئي النية أي توضيح) أن مسؤولية المخيم لا يمكن أن تكون أكبر من مسؤولية أي قرية أو بلدة أو مدينة لبنانية يخرج منها شخص/ مجموعة يرتكب جريمة ما (هل يمكن وضع اللوم على البيسارية لأن انتحاريّي السفارة والمستشارية الثقافية الإيرانيتين خرجا منها)؟ ولمزيد من التوضيح، لا بد من التّدقيق في انتماءات (الفكرية، السياسية، الحزبية...) أو في ولاءات هؤلاء الفلسطينيين الذين يُقدِمون على ارتكاب الأعمال المهدّدة للأمن والسلم الأهلي.
ستجدون حتماً أنها لا تختلف عن انتماءات وولاءات أمثالهم من اللبنانيين. وللعلم، فإن الفلسطيني ما عاد صاحب قرار في الوضع الأمني السياسي في لبنان. إنه اليوم منفّذٌ ليس إلا، وهو في كل الأحوال ليس الرأس المدبّر (رأس الأفعى). لنفحص ولاءات الفلسطينيين في لبنان: التنظيمات الفلسطينية المعهودة وهي مشلولة ومفلسة سياسياً وتأثيرها محدود جداً من الناحية الأمنية وهي على تنسيق كامل مع الدولة اللبنانية، وخاصة أجهزتها الأمنية.
وبالنسبة لحماس، فقد تكوّنت في لبنان بالأساس من عناصر فلسطينية كانت تنتمي إلى الجماعة الإسلامية الممثّلة بنواب في مجلس النواب اللبناني، وهي على تنسيق كامل وعضوي مع الشقيقة الإخوانية؛ أما بعض الفلسطينيين الذين شاركوا في أحداث عبرا، فما هم إلا أتباعٌ للأسير؛ وهناك عناصر فلسطينية مقاومة تنتمي إلى حزب الله، مقابل عناصر أخرى تنتمي إلى حزب المستقبل. جمعية المشاريع الخيرية التي تمثّلت سابقاً في البرلمان لها أتباع في المخيم. أحد الفلسطينيين من سكان مخيم ضبية كان معتقلاً بتهمة مشاركته في الارتكابات التي أوقف من أجلها جعجع.
أضف إلى ذلك، يوجد في المخيم عددٌ لا يستهان به من المتعاملين مع استخبارات الجيش وفرع المعلومات. وقائمة الانتماءات والولاءات تطول ولا حصر لها. أما بالنسبة إلى المتطرفين الإسلاميين، فهم ظاهرة عالمية ولا يُعقل تحميل مسؤولية أعمالها لمخيّم لا يملك مقوّمات رعاية هكذا ظاهرة، ومساحته حوالى 1 كلم مربع ومحاط بأسوار وأسلاك شائكة، والدخول إليه والخروج منه لا يتمان إلا عبر نقاط تفتيش تابعة للجيش اللبناني. وما يُؤسف له أن أحداً من الذين لا يملّون من توجيه الاتهامات للمخيم معتبرين إياه بؤرة أمنية تصدّر الإرهاب لا يكلّف نفسه أن يطرح سؤالاً حول كيف يدخل المخلّون بالأمن الى المخيم ويخرجون منه، وكيف يدخل السلاح إليه ويخرج منه، ومن يرعى ذلك؟.
باختصار شديد: المخيّم ليس فاعلاً ولا يستطيع أن يكون فاعلاً حتى لو شاء ذلك. هو مفعولٌ به، تستخدمه جميع القوى الناشطة في لبنان، سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية. ولهشاشة الوضع السياسي الاقتصادي والاجتماعي في المخيم، صارت هذه القوى تنظر اليه كأداة للاستثمار في مشاريع تتعارض مع القضية الفلسطينية ومصلحة اللاجئين في لبنان، وقد نجحت نسبياً. إذاً، المخيم هو الضحية وليس الجلاد؛ والدفاع عن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان لا يعني إلقاء التهمة على اللبنانيين لأن ذلك يعني الوقوع في نفس الخطأ. إنّ جلّ ما نتوخّاه هو تبيان حقيقة أننا في مركب واحد، والأذى الذي يصيب اللبناني يصيب الفلسطيني أيضاً، والعكس صحيح. وأن بناء الموقف يجب أن يتم على أساس سياسي فكري وقانوني، لا على أساس الهوية الوطنية، الدينية، الطائفية أو المذهبية.
شرح الواقع الفلسطيني في لبنان من هذا الجانب، الذي قلّما يُسلّط الضوء عليه، لا يهدف إلى تبرير الأعمال الإجرامية المرتكبة ورفع المسؤولية عن منفّذيها (ولا عن المرجعيّات الفلسطينية) أو التخفيف من هوْلِها، كما جرت العادة في لبنان عندما يكون المتورطون لبنانيين. فهؤلاء المرتكبون يستحقّون أشد العقوبات، ولا جدال في ذلك. إن جُلَّ ما نصبو إليه هو معالجة جذر المشكلة واستهداف كل المتورطين وإظهار حجم المسؤولية الفلسطينية الحقيقي. هؤلاء المتطرفون الفلسطينيون لا يملكون أجندة فلسطينية، وهم فرعٌ لأصلٍ موجود في كل المنطقة والعالم، والشعب الفلسطيني لا يتحمّل مسؤولية أكثر من الشعب اللبناني أو أي شعب آخر، وربما يتحمَّل أقل من غيره لأنه لا يملك دولة تمثله وترعى شؤونه وتطبق القانون.
أما في ما يخص بسط الدولة سيادتها على المخيمات، فدون ذلك عقبات كبيرة. إحداها، وجود جماعات فلسطينية مسلحة، وهذا أمر معروف ويكثر الحديث عنه. لكن هناك عقبة مُهمَلة تتمثّل في أن الدولة لا تحبذ تحمّل المسؤولية الأمنية في المخيمات لأن هذا يفرض عليها مسؤوليات اجتماعية واقتصادية تجاه سكان المخيم، وهي من المحرمات التي تؤدي إلى التوطين بحسب ما يعتقد أركان الدولة. ولأن دولة القانون والمؤسسات ليست أولوية لدى الزعماء اللبنانيين، فإنهم لا يرغبون في تغيير واقع المخيم ليكون الشمّاعة التي يعلّقون عليها عجزهم في إرساء الأمن في عموم لبنان.
من المسؤول؟ المسؤولية جماعية وتقع على عاتق جميع المرجعيّات والقوى اللبنانية والفلسطينية، وإن شئتم الإقليمية والدولية، التي ترى في ظاهرة التطرُّف الإرهابي خطراً على كل ما هو إنساني.