26-11-2024 08:24 PM بتوقيت القدس المحتلة

«أبو عرب» ... رحل الجسد وبقيت «توتة الدار»

«أبو عرب» ... رحل الجسد وبقيت «توتة الدار»

«رحل فنان الشعب ابن مخيم حمص الذي أحبه البسطاء والفقراء والفدائيون والمثقفون وأمهات وأخوات الشهداء... غنى بصوت يشبه رنين الذهب

«أبو عرب» ... رحل الجسد وبقيت «توتة الدار»«ما أحلى الوحدة يا ثوار... ترد الأرض تعيد الدار»، بهذه الكلمات ملأ رمز الأغنية الفلسطينية «أبو عرب» بصوته باحة الفندق الذي أقام فيه في رام الله، في المرة الأولى التي وطأت فيها قدماه ثرى فلسطين، في 2011، منذ أجبر على ترك قريته «الشجرة» التي اجتاحتها العصابات الصهيونية وطردت أهلها في العام 1948.

بديعة زيدان/ جريدة الحياة

«كنت متيقناً من العودة، كنت أحلم بذلك، لطالما حدّثت نفسي بأنني قد أرحل من دون زيارة فلسطين، وأن أحد أبنائي أو أحفادي سيزورها عني، لكنني أزورها»، قالها أبو عرب الذي ترى فلسطين في عينيه الضامرتين خلف نظارة سميكة، وفي تجاعيد وجهه، وكوفيته المرقطة.

كان خبر وفاة أبو عرب أو «توتة الدار» كما وصف، بمثابة الصاعقة على محبيه وأصدقائه، حيث عجّت مواقع التواصل الاجتماعي بصوره وأغنياته والعبارات العاطفية التي نعته بأسى.

ذاع صيت أبو عرب كمغن في الأعراس في قريته قبل 1948، حيث كان يغني العتابا والميجانا. الستينات والسبعينات من القرن العشرين، كانت الفترة التي حفرت أغنياته عميقاً ولا تزال في وجدان الفلسطينيين والعرب. قال مرة ببرودة أعصاب المنتصر: «ماذا تتأمل من شخص عاش طفولته في ظل ثورة 1936، وأول شبابه في ظل نكبة 1948، وجرب «اللجوء وعيشة الخيم وبيوت التنك»... هذه المشاعر مع «قليل من الموهبة»، انعكست على كلمات أغنياته وألحانها.

وكان يفتخر بأن أغنياته ومن بينها «هدي يا بحر هدي»، و «من سجن عكا»، و «يا يما لو جانا العيد»، و «يا بيروت الغربية»، وغيرها لا تزال تعيش ويرددها الصغير قبل الكبير رغم مرور عقود على ظهورها.

كان أبو عرب وحيداً بين أربع بنات، «كانت والدتي تخاف عليّ كثيراً، خاصة أنني كنت في السابعة عشرة من عمري في العام 1948»، كما قال ذات مرة في لقاء جمعه وعدداً من الصحافيين كانت «الحياة» حاضرة بينهم. وأضاف: «أتذكر كيف توجه بعض رجالات القرية إلى عمّان والشام لشراء «بواريد» يدافعون فيها عنا بعد أن باعوا «ذهب نسوانهم»... قاومنا، خاصة بعد أن أرسلنا النساء والأطفال والشيوخ إلى كفر كنا وعين ماهل والناصرة. في فجر السادس من أيار (مايو) 1948 حشدت العصابات الصهيونية ألفي مسلح مقابل قرابة السبعين منا. أبي خرج للقتال، وخالي».

وتابع: «أتذكر أنه قالها بحزم «إبراهيم خليك هون»، هي سبع ساعات فقط واحتلوا الشجرة. اختبأت برفقة ستة مسلحين في مغارة بضع ساعات، وكان معي ابن عمي جميل، قبل أن يتمكن شبان من صفورية من صد العدوان وإعادة السيطرة على الشجرة بعد دحر القوات الصهيونية منها، إلا أنهم عادوا واحتلوها بعد أن هاجمونا».

رحلة الهجرة، كما ذكرها أبو عرب، بدأت من الشجرة باتجاه كفر كنا، ومنها إلى عرابة البطوف، ومنها إلى بنت جبيل في الجنوب اللبناني، حيث رحّلهم الصليب الأحمر إلى عين الحلوة، ومن هناك إلى حمص التي توفي فيها أول من أمس.

وقلّة يعرفون أن أبو عرب هو لقب لفنان اسمه الحقيقي إبراهيم محمد صالح، ولهذا اللقب حكاية تتعلق بحماسته للقومية العربية، وتيار جمال عبد الناصر الذي التقاه مرة واحدة وصافحه بحرارة، علماً أنه كان يقود التظاهرات المؤيدة للريس والقومية والوحدة العربية في سورية، لقدرته على الارتجال ولفترات طويلة، وصوته الخطابي المميز. فلُقِّب بداية الأمر بـ «أحمد سعيد سورية»، ثم بـ «أبو العروبة»، ومن ثم «أبو عرب». وحين رزق مولوداً سمّاه عرب، مع أن ابنه البكر محمد، وبالتالي هو أبو محمد، لكنه اشتهر منذ مطلع خمسينات القرن الماضي بـ «أبو عرب».

أبو عرب في أمسية له في رام اللهوعبّر الفنان والشاعر الراحل عن فخره بأنه رثى كل شهداء الثورة الفلسطينية من كل الفصائل، وبأنه فلسطيني الانتماء غير متعصب لفصيل، ولعل ذلك كما يرى وراء عدم تقديم دعم له لتسجيل أغنياته التي سجلها على نفقته.

وكما قال الكاتب والروائي يحيى يخلف وزير الثقافة الفلسطيني الأسبق: «رحل فنان الشعب ابن مخيم حمص الذي أحبه البسطاء والفقراء والفدائيون والمثقفون وأمهات وأخوات الشهداء... غنى بصوت يشبه رنين الذهب. غنى للعودة إلى البلاد وزهورها والمسارب التي سلكها الفلاحون والثوار، كما غنى لشرفاتها التي تترقب إطلالة السبع الذي أطلت بارودته والسبع ما طل، والبحر الذي تزمجر أمواجه فيهدهدها صوته الحنون لتهدأ وكأنه يعيد إنتاج زمجرة أمواج بحيرة طبرية التي هدهدها المسيح ومشى فوقها وصولاً إلى حوارييه»...

هو «شاعر الثورة الفلسطينية» و «شاعر المخيمات» و «الذاكرة الحية للتراث الغنائي الفلسطيني» و «صوت الثورة» و «مطرب الثورة الأول» و «المقاوم بالأغنية» و «أبو العربان» و«العروبي». كان حلمه أن يزور فلسطين، الحمد لله أنه زارها وغنى لها فيها عام 2011، بعد 63 عاماً من الغياب القسري عنها.