القضية تتجاوز بأبعاد مسألة خلاف على قضية وسحب سفراء. هي حرب شعواء بكل ما في الكلمة من معنى، ولكن بلغة ناعمة. لا يبدو أيّ من الطرفين أنه مستعد لتقديم تنازلات أو إبداء ليونة
فؤاد إبراهيم
القضية تتجاوز بأبعاد مسألة خلاف على قضية وسحب سفراء. هي حرب شعواء بكل ما في الكلمة من معنى، ولكن بلغة ناعمة. لا يبدو أيّ من الطرفين أنه مستعد لتقديم تنازلات أو إبداء ليونة. والنتيجة أزمة هي الأخطر التي تتهدد مجلس التعاون الخليجي، وتداعياتها لا شك في أنها ستصيب المنطقة كلها، من مصر إلى سوريا مروراً بفلسطين ولبنان.
بيانان ناعمان رغم سخونة المعركة. بيان ثلاثي سعودي إماراتي بحريني يطلق أول شرارة حرب كان وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل قد توعّد بشنّها على الجارة الصغيرة قطر في حال قررت عدم الالتزام بالتعهد الخطي الذي وقّعه أميرها الشيخ تميم آل ثاني في الرياض في 23 تشرين الثاني الماضي بوساطة أمير الكويت صباح الأحمد. وتضمن التعهد الخطي التوقف عن دعم الإخوان المسلمين، وعدم إيواء قيادتهم المصرية والسعودية، والتوقف عن دعم الحوثيين في اليمن، وعدم القيام بأي عمل يسيء إلى استقرار السعودية والبحرين والإمارات من خلال دعم أفراد محسوبين على تيار الإخوان، أو جماعات معارضة تسعى للتغيير في هذه الدول.
كلمات البيان الثلاثي جاءت ناعمة، بمقدمة طويلة حول مبدأ التعاون، المفردة التي تكررت كثيراً، قبل أن يختم بقرار سحب السفراء من الدوحة.
البيان لفت الى عنصر كان مفقوداً في تحليل العلاقات الخليجية، وهو الخلفية التي تأسست عليها الاتفاقية الأمنية الخليجية، والتي أريد منها «الاتفاق على مسار نهج يكفل السير ضمن إطار سياسة موحدة»، أي بمعنى آخر، إعادة إنتاج الوصاية السعودية داخل إطار مجلس التعاون الخليجي، وهو بالدقة المحور الذي يدور حوله الخلاف بين قطر والسعودية على وجه الخصوص.
توقف البيان الثلاثي عند اللقاء المنعقد في الكويت في 17 شباط (فبراير) الماضي برعاية أميرها الشيخ صباح الأحمد، والذي حضره أمير قطر الشيخ تميم، فيما حضر وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي. فماذا جرى في اللقاء؟
مصادر خليجية ذكرت أن سعود الفيصل بدا موتوراً طيلة اللقاء، وتجاوز حدود اللياقة في التخاطب مع رئيس دولة، فقام بتوجيه اتهامات مباشرة لقطر بأنها تهدّد أمن السعودية ومصر بدعم «الإخوان»، وأن قطر تحوّلت الى مأوى لكل من يريد القيام بأعمال تضر بالاستقرار في مصر ودول الخليج، إضافة الى اتهامه لقطر بدعم الحوثيين في اليمن. أبقى الفيصل نبرة خطابه مرتفعة في حضور أميري الكويت وقطر ووزراء خارجية دول المجلس، ثم تلا قائمة تدابير عقابية ضد قطر في حال عدم التزامها بالتعهد، ومن بينها: سحب السفراء، وإغلاق الحدود البرية، ومنع الطائرات القطرية من استخدام المجال الجوي السعودي، وإلغاء عضوية قطر من مجلس التعاون الخليجي، ومن الجامعة العربية بالاتفاق مع مصر. مصادر سياسية مقرّبة من السعودية حمّلت أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مسؤولية ما جرى، بسبب وقوفه الى جانب «الإخوان» حتى بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي، فيما التزمت الدوحة الصمت حيال التصعيد الاعلامي السعودي الذي سبق قرار سحب السفراء. وكان أمير الكويت قد طلب من الرياض تأجيل قرار تنفيذ التدابير العقابية الى ما بعد قيامه بوساطة لتسوية الخلاف. لم يشأ القطريون الوصول بالخلاف الى نقطة الانفجار، وفي الوقت نفسه عدم قبول منطق الإملاءات، وإلزام الدوحة بما ينبغي أن تكون عليه سياستها الخارجية، وعلاقاتها مع الدول الأخرى، ومواقفها من القضايا السياسية الإقليمية والعربية والدولية. وهذا ما حاول البيان الناعم الصادر عن مجلس الوزراء القطري القيام به عبر وضع الخلاف في إطاره المحدد. قال إنه «لا علاقة للخطوة التي أقدم عليها الأشقاء في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين بمصالح الشعوب الخليجية وأمنها واستقرارها، بل باختلاف في المواقف حول قضايا واقعة خارج دول مجلس التعاون».
ما يجدر الالتفات إليه أن الخلاف السعودي القطري لا يقتصر على المعلن من أسباب وردت في البيان الثلاثي، فثمة قضايا خلافية عميقة تعود الى 1913 حين قرر عبد العزيز، مؤسس الدولة السعودية الحديثة، إلحاق قطر بإقليم الأحساء، بعد احتلاله. ولم يعترف عبد العزيز بحدود قطر إلا بعد عامين بضغط من بريطانيا عبر وكيلها السياسي المعتمد. وبالرغم من توقيع الاتفاقية الحدودية بين قطر والسعودية سنة 1965، أرسلت الأخيرة صبيحة 30 أيلول 1992 كتيبة عسكرية للسيطرة على مركز الخفوس الحدودي، على خلفية تجمع قبلي في المناطق المتنازع عليها بين البلدين، حيث يتوزع أفراد قبيلة مُرّة في هذه المناطق. وبعد إحباط الانقلاب العسكري في قطر عام 1995، كشفت الحكومة القطرية عن تفاصيل تتعلق بتورّط السعودية في الانقلاب بالتعاون مع بعض أفراد القبيلة، وأدى إلى إسقاط جنسية المئات من قبيلة آل مرة وتهجيرهم. فترات متقطّعة من الهدوء بين الدوحة والرياض، ما تلبث أن تشهد انتكاسة وتوتراً حاداً، كما حصل بعد بث قناة «الجزيرة» برنامجاً تلفزيونياً في عام 2002 عن تاريخ السعودية باستضافة شخصيات سعودية وخليجية وجّهت انتقادات صريحة للملك عبد العزيز، فأدى الى سحب السفير السعودي في الدوحة حمد صالح الطعيمي مدة ست سنوات. وعادت العلاقات بين الرياض والدوحة الى طبيعتها بعد زيارة قام بها أمير قطر السابق الشيخ حمد الى السعودية ولقائه وليّ العهد الأسبق الأمير سلطان في آذار 2008. وتم تعيين سفير سعودي جديد في الدوحة. وخلال فترة القطيعة بين الرياض والدوحة، عقدت الأخيرة تحالفات واسعة مع سوريا وإيران وحركات المقاومة في فلسطين ولبنان، ونجحت في أن تصبح لاعباً إقليمياً فاعلاً حيث رعت أكثر من مشروع مصالحة، لبنانية، ويمنية، وفلسطينية، وعربية، فيما كانت السعودية تتمسّك بما تعتقده حقاً حصرياً لها في إدارة السياسة الخارجية الخليجية. على أيّ حال، فإن الخلاف بين الرياض والدوحة ما لبث أن تفجّر مجدداً على خلفية تباين المواقف حيال العدوان الاسرائيلي على غزة في كانون الأول 2008 ــ كانون الثاني 2009، وسعي قطر الى عقد قمة عربية طارئة في الدوحة لجهة تشكيل موقف عربي مشترك والضغط على مجلس الأمن الدولي لإرغام الاسرائيليين على وقف العدوان، ولكن السعودية قاطعت القمة.
وفي أيار 2010 تحسّنت العلاقات بين البلدين، واستجاب أمير قطر السابق، الشيخ حمد، لطلب الملك عبدالله العفو عن عدد من السعوديين المتورّطين في المحاولة الانقلابية التي وقعت عام 1995.
ومع بدء الربيع العربي، بدا ما يمكن وصفه بتحالف الضرورة بين قطر والسعودية وبقية دول مجلس التعاون عموماً في مواجهة تداعيات الحراك الشعبي الذي كان يقترب من تخوم الخليج. ومع اندلاع الأزمة السورية، شهدت العلاقة القطرية السعودية مرحلة غير مسبوقة من التعاون والتنسيق في سياق مشروع دعم المعارضة بكل أشكالها لإسقاط النظام، في وقت كانت فيه قطر تواصل دعمها لحكومة (الإخوان) في مصر، ولم يكن ذلك مرضياً للسعودية والإمارات. يبقى معطيان هما الأخطر في ملف العلاقة السعودية القطرية: الأول قطري، عبارة عن تسريب مكالمة هاتفية بين وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم مع الرئيس الليبي السابق معمر القذافي في كانون الثاني 2011 حول فكرة تقسيم السعودية، حيث تحدث الوزير السابق حمد عن خطة «إنهاء السعودية على يده وأن قطر موجودة وستدخل يوماً الى القطيف والشرقية... وأن الملك عبدالله مسكين، مجرد واجهة، وأن الحاكم الفعلي هو سعود الفيصل، وأنه منته وستقسّم بعده السعودية الى عدة مناطق». ووصف بن جاسم النظام في السعودية بأنه «نظام هرم». وكشف عن أن «أمريكا وبريطانيا طلبتا منه تقريراً عن الوضع في السعودية، وأعربتا له عن نيّتهما في إطاحة النظام الملكي هناك، إلا أنهم يتخوفون من البديل الذي سيكون إسلامياً غير مرغوب فيه».
المعطى الآخر، هو التصريح الاستفزازي الذي أطلقه رئيس الاستخبارات العامة في السعودية بندر بن سلطان حين وصف قطر بأنها «300 شخص وقناة، وهذا لا يشكل بلداً»، وجاء ذلك في وقت قررت فيه السعودية انتزاع الملف السوري من القطريين والأتراك معاً، ثم جاء تخطيط وتمويل الانقلاب العسكري في مصر بغطاء شعبي في 30 حزيران (يونيو) 2013 ليسدّد ضربة قوية لحليف قطر، أي «الإخوان»، ودخول الحكم الجديد في مصر في خلافات مع قطر على خلفية وقوفها مع الرئيس المخلوع محمد مرسي وحكم الإخوان عموماً. الخلاف السعودي القطري أخذ أبعاداً جديدة، خصوصاً بعد خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ يوسف القرضاوي في جامع عمر بن الخطاب في الدوحة بعد اعتكاف دام ثلاثة أسابيع، والتي عرّض فيها بالموقف الإماراتي إزاء ما يجري في مصر بعد إطاحة حكم «الإخوان»، حيث أضاف عنصراً جديداً في الخلاف السعودي القطري. التهديدات السعودية لم تعط نتيجة ولم تثن قطر عن مواصلة سياستها إزاء الواقع الجديد في مصر، الذي ترى فيه انقلاباً قاده العسكر ودعمته السعودية والامارات، وترى أن مواقف الشيخ القرضاوي منسجمة مع الخط السياسي العام للقيادة القطرية. الآن وقد نفّذت السعودية الى جانب الإمارات والبحرين أول التهديدات ضد قطر، ينتظر من الأخيرة ردّ فعل على الطلب السعودي بالالتزام بالتعهد، وفي حال تمسّكت الدوحة بمواقفها، فإن ثمة مواقف تصعيدية متوقعة، رغم أن المعطيات المتوافرة، وكما توحي لغة بيان مجلس الوزراء القطري، لا تفيد بتراجع من جانب الدوحة. لا ريب أن قطر أمام تحديات كبيرة، ولكنها لا تزال قادرة على حشد عناصر قوة من أكثر من مكان، من خلال إعادة تموضع سياسي، وتسوية الخلافات السابقة مع الدول التي كانت متحالفة معها. في نهاية المطاف، فإن الأوضاع السياسية الاقليمية والدولية غير المستقرة والسريعة التبدّل تفتح الباب أمام احتمالات عديدة.
الكويت تسعى لرأب الصدع
قال رئيس مجلس الأمة الكويتي، مرزوق الغانم إنه يتطلع إلى أن يتمكن أمير الكويت صباح الصباح (الصورة) من رأب الصدع بين دول الخليج بعد قرار السعودية والإمارات والبحرين سحب سفرائها من قطر. ونقلت وكالة الأنباء الكويتية (كونا) عن الغانم إعرابه عن الأمل في أن «يتمكن سمو الأمير كعادته في تقريب وجهات النظر، وأن يوفق سموه في احتواء هذا الموضوع في أقرب فرصة ممكنة»، مضيفاً: «نتابع بقلق وانزعاج بالغين سحب سفراء السعودية والإمارات والبحرين من قطر». وأعرب عن أمله ألّا يؤثر سحب السفراء على القمة العربية المقبلة في الكويت، وأن تكون القمة «فرصة لتقريب وجهات النظر ورأب الصدع».
من جهة أخرى، أعلن الناطق باسم وزارة الخارجية المصرية بدر عبد العاطي أن السفير المصري في الدوحة موجود في القاهرة منذ 3 أسابيع، مشيراً إلى أن القاهرة تدرس الموقف بعد سحب السعودية والبحرين والأمارات سفراءها من قطر.
www.al-akhbar.com
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه