لا قضايا في لبنان تستدعي اهتمام القضاء والسياسيين.. لذلك تفرغوا للإعلام. المجرمون المعروفون بالأسماء والعناوين، يسرحون ويمرحون في عرض البلاد وطولها، وعين القضاء مغمضة عنهم، وأيادي السياسيين تحميهم
ايلي الفرزلي
لا قضايا في لبنان تستدعي اهتمام القضاء والسياسيين.. لذلك تفرغوا للإعلام.
المجرمون المعروفون بالأسماء والعناوين، يسرحون ويمرحون في عرض البلاد وطولها، وعين القضاء مغمضة عنهم، وأيادي السياسيين تحميهم.
يُقتل اللبنانيون كل يوم في الطرق ويُسرقون ويُخطفون ويتشردون وتنتهك حقوقهم في المواطنة، والفاعلون يبقون مجهولين. الدولة تتحلل على أيدي مسؤوليها، وهؤلاء يتحسسون إذا قال عنهم صحافي القليل.. وهم يرتكبون الكثير الكثير.
ثمة من يريدنا أن نرضخ، أن نكون أدوات، أن نصدق أنهم يريدون مصلحة لبنان، أنهم يتنافسون ويختلفون على نهضة البلد.
القضاء الذي يدين الصحافة كل يوم، والذي خص جريدة «الأخبار» مؤخراً بثلاثة أحكام غريبة من نوعها، والذي غرّم «السفير»، قبل سنتين، بخمسين مليون ليرة، لنشرها استطلاع رأي.. مجرد استطلاع رأي بعد ساعات من انتهاء المهلة، هو القضاء نفسه الذي لا يجرؤ على إصدار الأحكام بحق موقوفين يقبعون منذ سنوات في السجون، ولا يجرؤ على توقيف المجرمين ومحاكمتهم.
تحرير القضاء من قبضة السياسيين هو المطلب الأول. عندها لن تجد قاضيا يرى نصف الحقيقة ويتعسف في استخدام القانون، فيحوله أداةً للظلم بدل العدالة. ولن ترى سياسياً يصدر الحكم ويلقنه للقاضي، فيعيد تلاوته. «دولة» لا تستطيع أن تحكم سجنا لا يمكن أن تؤتمن على بلد.
اليوم، ثمة مجرم واحد يصلح لتحميله وزر كل الجرائم: الإعلام يذّم المرتكبين، سياسيين كانوا أم أصحاب نفوذ. يفضح بعض ما تقترف أيديهم كل يوم. هذا أيضاً غير مستحب. يعكّر صفو الفراغ المستحب في كل مؤسسات الدولة، ولذلك لا بد من تدجين الإعلام. الأدوات موجودة دائماً والقضاء أبرزها حالياً، مع الأسف.
ليس القضاء كله مداناً بالتآمر مع السياسيين ضد الحريات. من السهل إيجاد من يقول «أمرك سيدي» ليحمي نفسه من الجور ويمنّي النفس بترقية أو منصب ربما لا يستحقه.. ولكن هناك قضاة يرفع لبنان رأسه بهم.. ولكن أين هؤلاء ممن هاجر العشرات منهم سعياً وراء لقمة عيش كريم.
عندما ينتقد صحافي مسؤولاً، يفعل ذلك للمصلحة العامة، إلا في ما ندر. وعندما يفضح ممارسات خاطئة يفضحها لمصلحة المواطنين أيضاً. قانون العقوبات يحمي الصحافي في هذه الحالة، إلا إذا أغمض القاضي عينه عن الحقيقة، كما يجري حالياً. منذ أربع سنوات والحريات الإعلامية تتراجع، حتى وصلت إلى الحضيض اليوم. لم يكن الوضع بهذا السوء لا في زمن الوصاية السورية ولا في أيام الحرب الأهلية ولا حتى من قبلها.
ربما إذا حكم القاضي بالعدل لن يبقى في منصبه، لكن ذلك لا يبرر له التواطؤ غير المباشر أو المباشر مع المرتكبين.
لمن لا تسعفه الذاكرة، فقد سبق أن سجن وزير النفط شاهي برصوميان بعدما كان قد رفع دعوى قدح وذم ضد جريدة «النهار». اعتبر القضاء أن التشهير بشخصية عامة ارتكبت مخالفات أمرٌ مشروع، فكان من الطبيعي أن يعاقب من قام بالمخالفة لا من فضحها كما يجري اليوم. ووفق المعادلة التي تجد من يعززها، يمكن لمن يشاء أن يدعي على صحافي بتهمة القدح والذم فيربح الدعوى، ولكن الصحافي لا يمكنه أن يفعل الأمر نفسه. السياسي محمي بحصانته والنافذ لديه من يحميه.
قررت محكمة المطبوعات أن تحيد عن الهدف الذي أنشئت من أجله. لم يعد همها حماية الحريات الإعلامية إنما تأديب الإعلاميين. إذا كان كل صحافي سيعاقب إذا قال للمرتكب أنت مرتكب، فماذا سيتبقى من الحريات وأولها حرية الإعلام وماذا سيتبقى للناس؟
لا يدعي الإعلام بطولات. يقوم بواجبه فقط، ولن تردعه أحكام جائرة من هنا أو هناك. أراد وزير العدل اللواء أشرف ريفي أن يفتتح إنجازاته في الوزارة بتحويل صحافي إلى القضاء. هذا حقه، ربما. ولكن يفترض بالقضاء أيضاً أن ينظر بما كتبه الصحافي. إذا كتب الزميل ابراهيم الأمين أن رئيس الجمهورية سبق وزور جوازات سفر، فهذا ليس تفصيلاً. أليس من واجب القضاء التحقق من الواقعة، وبعدها يصدر حكمه على الأمين براءة أو إدانة. ماذا اذا كان الاتهام صحيحا، هل يعتبر مساً برمز وحدة البلاد؟
الاجتهاد الفرنسي، مصدر القانون اللبناني واضح في هذا المجال، الصحافة حارسة المواطن وإذا انتقدت فهي تنتقد للصالح العام. الرئيس الفرنسي وفضائحه، حتى الشخصية، تتصدر الصحف والمجلات، ولم يقل أحد أن رمز البلاد يهان، ولم يُحل أي صحافي إلى المحكمة.
كتب الراحل غسان تويني مقالاً في بداية السبعينات تعرض فيه للرئيس سليمان فرنجية، فأحاله مدعي عام التمييز آنذاك إلى محكمة المطبوعات طالباً من رئيس المحكمة يوسف جبران التشدد بالعقوبة لأنه أراد أن «يربي السعادين (الصحافيين) فيه»، فما كان من جبران إلا أن قام بالعكس مكتفياً بتغريم تويني بخمسين ليرة، بالرغم من أنه كان يعرف أنه سيقال من منصبه.
الحريات الصحافية لطالما تقلبت نزولاً وصعوداً تبعاً للحاكم، إلا أن الوضع اليوم يبدو الأكثر سوءاً.
«السفير» نفسها تعرضت للتوقف عن الصدور 3 مرات بقرارات صادرة عن الحكومة اللبنانية، كان آخرها عام 1993 حين صدر قرار قضائي بتعطيل الجريدة عن الصدور لمدة أسبوع بتهمة «نشر وثيقة تتضمن معلومات يجب أن تبقى مكتومة حرصاً على سلامة الدولة».
كانت تلك الحادثة سبباً مباشراً في تعديل قانون المطبوعات، فمُنع تعطيل الصحيفة قبل صدور الحكم بالإدانة، كما مُنع توقيف الصحافيين احتياطياً. هل يحتاج الإعلام اليوم لضحية جديدة.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه