معلّم اليوم ليس معلّم الأمس، فأن يكون حائزاً إجازة تعليميّة أو ماستر في التربية والتعليم، هو أمر أوّلي في تجهيز نفسه للمهمة. الاكتساب العلمي لا يكفي، ما لم يكن مقروناً بمهارات استخدام وسائل تقنع...
معلّم اليوم ليس معلّم الأمس، فأن يكون حائزاً إجازة تعليميّة أو ماستر في التربية والتعليم، هو أمر أوّلي في تجهيز نفسه للمهمة. الاكتساب العلمي لا يكفي، ما لم يكن مقروناً بمهارات استخدام وسائل تقنع تلامذة اليوم. التكوين الفكري والاجتماعي والنفسي عامل أساسي للمعلّم في محاورة تلامذة متنوعين في انتمائهم وهويتهم الاجتماعيّة والدينيّة والثقافيّة.
فاتن الحاج / جريدة الأخبار
من معلّم قيل فيه «من علمني حرفاً صرت له عبداً»، إلى معلّم ينافس آلة إلكترونية تسبقه في نقل المعلومات، حدث انقلاب كبير في صورة المهنة. التلميذ الجديد الذي ينمو في عصر رقمي بات حتماً ينتظر معلّماً جديداً مرناً في استيعاب التغيير السريع. لكن مهلاً، المعلم ليس مجرد وسيلة تنقل معرفة فاتت مدتها، بل إنسان يحاور آخر، باعتباره مشروعاً اجتماعياً وعاطفياً غير منتهٍ. المعلم مسؤول عن مساعدة التلميذ في بناء شخصية نقدية وخلق منهجيات تفكير وتحليل وجعله ملتصقاً بمجتمعه.
مهنة كل المهن
«المعلم هو سقف التربية؛ إذ لا يتجاوزه في هذه المهمة منهج تربوي أو وسيلة اتصال وتواصل»، هذا ما يقوله أستاذ مقررات الإنسانيات وعلم النفس والتربية في الجامعة اللبنانية الأميركية د. محمود ناتوت. برأيه، المعركة الأولى في صناعة معلم جيّد هي استقطاب كليات التربية في الجامعات لنخبة من طلاب يتمتعون بصفة أساسية هي حب التعلم المستمر، وأن لا تكون هذه الكليات خياراً أخيراً يلجأ إليه الطلاب، على قاعدة أن التعليم «مهنة النساء» أو «مهنة من لا مهنة له»، فيما يجب أن تكون هي «مهنة كل المهن».
غير أنّ الواقع يختلف في كثير من الأحيان؛ فقد ينتسب إلى كلية التربية أشخاص ليسوا مؤهلين ليصبحوا معلّمين، كما تقول عميدة كلية الفلسفة والعلوم الإنسانية في جامعة الروح القدس الكسليك د. هدى نعمة. برأيها، هذا النقص الأساسي في التكوين الفكري والنفسي، يرافق الطالب الجامعي، ويعوق تقدّمه في ميدان التأهل للتعليم والتربية.
وإذا كان الطالب مؤهلاً لمواجهة المهنة، وحصّل تعليماً جامعياّ أولياً مناسباً، فهو مدعو، بحسب نعمة، إلى مواصلة تحصين إعداده الأولي، عبر التجاوب مع حلقات التدريب للتنمية المهنية المستدامة.
التلميذ مشروع غير منتهٍ
المعركة الثانية، بحسب ناتوت، هي أن يتدرج الطالب في التعليم منذ الصف الجامعي. ليس كافياً، كما يقول، ما تفعله الجامعات بالتركيز على النظريات وطرائق التدريس فحسب؛ «فمن يعلّم المعلم يجب أن يكون نموذجاً جيداً في التعليم وليس أستاذاً محاضراً لا يطبق ما يبشّر به؛ فالطرائق تصبح تفاصيل، إذا لم يعرف الطالب في كلية التربية أنّ ما ينتظره في مهنة المستقبل هو مشروع فكري واجتماعي وعاطفي غير منته، ولا يمكن هذا الطالب ــ المعلم أن يكون مقتنعاً سلفاً بأنّ هناك تلامذة أذكياء وآخرين أغبياء بالمطلق. التلامذة جميعهم مفكرون ويجب على المعلم أن يعاملهم على هذا الأساس وأن لا يكون هناك مكان لمقولة: أنا أعرف وأنتم لا تعرفون». أسوأ معلم، بحسب ناتوت، من يأتي إلى التعليم لأنّه لم يعد لديه حل ثانٍ، أو أن يدخل التعليم فقط لأنّه يريد أن يعلم أولاده مجاناً في المدرسة الخاصة وعندما يتخرجون يترك المهنة، أو أن يكرس صورة التلميذ الناجح الذي يأخذ علامة كاملة، أو أن يدخل التعليم وعينه على منصب إداري.
مثل هذا التغيير يأخذ وقتاً، هذا ما تقوله عميدة كلية التربية في الجامعة اللبنانية د. زلفا الأيوبي؛ «فهناك معلمون مقتنعون بأنّ ما يفعلونه على مدى سنوات طويلة هو التعليم الصحيح، وهم غير مستعدين بأي شكل من الأشكال لتقبّل الطرق الناشطة التي ندرسها في كلياتنا، وهناك نموذج ثانٍ من المعلمين يعتقد في عقله الباطني أنّه يتفاعل مع التلامذة بمجرد أن يسأل سؤالاً ويجيبونه عنه، حتى لو كان يطلب منهم إعطاءه الإجابة التي أعدها سلفاً، فيما تفرض الطرائق الحديثة تفاعلاً بين المعلم والتلامذة وبين التلامذة أنفسهم في الوقت نفسه، عبر طرح سؤال مفتوح ليس له جواب واحد، باعتبار أن المعلم لا يملك دائماً الحقيقة الكاملة».
ثقة التلامذة بقدرة المعلم
حتى يقنع المعلم تلامذته، يجب أن يكون هو الآخر مشروعاً غير منتهٍ، يقول ناتوت. برأيه، ليس مبرراً أن يكتفي بما درسه في الجامعة، بل هو مطالب بتثقيف نفسه باستمرار وابتكار أساليب جديدة في التعليم مع مواكبة حثيثة للتطورات التكنولوجية.
بل أكثر، ترى نعمة أن المعلم يحتاج إلى استخدام الوسيلة الحديثة في نقل المعرفة ليكون قادراً على تمكين التلميذ من صحة استخدامها، فيحدّد له مكامن قوة المعلوماتيّة ومكامن ضعفها أو تأثيرها السلبي في التلقي، وأن يقوم المعلّم بمثل هذا الدور يعني أن من واجبه الاطلاع على كل جديد في حقل تعليمه و«ألّا تفوته ثقة التلامذة بقدرته التعليميّة والتربوية»، على حد تعبير نعمة. يتدخل ناتوت ليقول: «لا معنى للصفات الطوباوية من مثل التعليم رسالة وشهادة وتضحية؛ فإذا نسي المعلم نفسه، فلا يستطيع أن يهتم بتلامذته».
تحديات السياسات التربوية
بعد التخرّج في كليات التربية ودخول المعلم الصف، تبدأ المعركة الثالثة مع المدرسة والسياسات التربوية. هنا، قد ينسف المعلم كل ما يدرسه في كليات التربية من نظريات وطرائق وتقنيات عند أول احتكاك مع بيئة المدرسة. سيسمع عبارات من مديرين ومنسقين مثل: «انسوا كل شي تعلمتموه في الجامعة. هناك منهج دراسي لازم تخلصوه»، أو «بأي صفحة صرتوا بالكتاب؟». المهمة تصبح أكثر تعقيداً مع صفوف الشهادات الرسمية، أي البريفيه والثانوية العامة، فالمنهج المثقل بالمواد لا يترك وقتاً للتثقيف ولا لابتكار طرق جديدة في التعليم.
وتشير أبحاث تربوية إلى أن بيئة المدرسة تؤثر في نوعية التعليم؛ فالنظام السلطوي القائم على المحاسبة الصارمة والتراتبية غير الشفافة وانعدام روح الزمالة المهنية لتبادل الأفكار وطرائق التعليم، ينسف مشروع المعلم من أساسه.
يعلق ناتوت: «المعلم مهما كان مبدعاً يصبح مثل المدرسة، إما يحترق أو يترك المهنة بعد سنوات قليلة». يأسف لأن يكون الارتقاء المادي في المهنة، ولا سيما في المدارس الرسمية هو الخروج منها، كأن يتولى المعلم منصباً إدارياً ويترك التعليم «لا مجال هنا ليتطور المعلم وينمو من خلال مهنته، فيضطلع بمهمة معلم خبير مثلاً كما في كل دول العالم».
ثم إنّ بدعة التعاقد مثلاً لا تنسجم، بحسب ناتوت، مع الفلسفات التربوية المعاصرة التي تدعو إلى الديناميكية في التعليم وأهمية أن يتابع المعلم النمو الفكري والعاطفي والاجتماعي للمتعلم، سائلاً: «كيف سيفعل ذلك إذا كان سيعطي حصته ويخرج من المدرسة أو أنه سيركض من مدرسة إلى أخرى، فلا يختلط بأي من مكونات البيئة المدرسية من زملائه المعلمين وأهالي التلامذة والإدارة».
ومن تحديات السياسات التربوية، كما تشرح نعمة، عدم السماح لأي كان بأن يدخل القاعة الدراسية. مطلوب، كما تقول، من الدولة وإدارة المدرسة الخاصة إجراء امتحان نفسي، وعلمي، وعلائقي لكل إنسان يرغب في أن يصبح معلماً. برأيها، لا تكفي مباريات مجلس الخدمة المدنية كورقة عبور إلى الصف... المباريات يجب أن تكون لكلّ معلّم في التعليم الخاص والرسمي، ومن طريق مجلس خدمة مدنية مشترك، وباختبارات متواصلة.
إلّا أن الأيوبي تفترض أنّ «الشهادة التي يحملها متخرجو كلية التربية في الجامعة اللبنانية، وهي جامعة الدولة وجامعة الوطن، يجب أن تكون الورقة التي تسهل عبورهم إلى التعيين التلقائي في المدارس الرسمية، حتى من دون الخضوع لمباراة». لكن الأيوبي نفسها تقر بأنّ دور كلية التربية في سبعينيات القرن الماضي لم يعد هو نفسه اليوم؛ فالطالب لا يدخل الكلية موظفاً يأخذ منحة ويخضع لتأهيل يضمن ولوجه إلى الوظيفة العامة. الشهادة باتت حرة، تقول، لكنها تجزم بأنّ الإعداد لا يزال كما هو، بل طورنا مناهجنا لتحقق التوازن بين مقررات مادة الاختصاص وطرائق التعليم ومواد التكنولوجيا. يؤسفها أن يُستبدَل بمتخرجي الكلية المؤهلين الذين يذهبون في معظمهم إلى مدارس خاصة، معلمون متعاقدون قد يكونون في بعض الأحيان من غير أصحاب الاختصاص ولا تتوافر فيهم الكفايات العلمية والنفسية مثل إدارة الصف ومواكبة التطور العقلي للتلميذ والأخلاقيات المهنية. وإذا كانت الكلية تضع المعلم على السكة، كما تقول الأيوبي، «فلا بد أن تتم مواكبته بدورات مكثفة تطاول جميع الكفايات في السنتين الأوليين من عمله في المدرسة». هذه هي إحدى مهمات المركز التربوي للبحوث والإنماء، أو هذا ما ينتظره منه المعلمون على الأقل، فلا تكون التنمية المهنية المستدامة محصورة ببرنامج التدريب المستمر غير الفعال في أكثر الأحيان، كما يقولون، لأنه يقتصر على دورة من هنا ودورة من هناك، وفي عز العام الدراسي، مقترحين أن يكون التدريب خلال شهر أيلول من كل عام دراسي. برأيهم، لا يزال المركز أو العقل المنظم للتربية في لبنان عاجزاً عن القيام بمهمته بسبب التدخلات السياسية والمحسوبيات والزبائنية. ومن نتائج ذلك، استمرار تراجع التعليم الرسمي لمصلحة المدارس الخاصة التي تستقطب 70% من تلامذة لبنان.
تمهين التعليم
بعد آخر من الإعداد يقاربه مسؤول الدراسات في رابطة التعليم الأساسي الرسمي، عدنان برجي. يقول إنّ كليات التربية في الجامعات، بما فيها كلية التربية في الجامعة اللبنانية، تركز على إعداد معلمين للحلقتين الأولى (الأول والثاني والثالث أساسي) والحلقة الثانية (الرابع والخامس والسادس أساسي)، علماً بأنّ تلامذة الحلقة الثالثة أو المرحلة المتوسطة هم الأكثر تسرباً من المدارس. كذلك إنّ الإعداد المختلف بين الجامعات يؤدي، بحسب برجي، إلى شخصيات مختلفة للمعلم.
يؤكد أنّ «المباراة السنوية عبر مجلس الخدمة المدنية تسمح وحدها باستيعاب الطاقات الجديدة وتجديد الدم في الجسم التعليمي الرسمي. أما في التعليم الخاص، فلا رقابة على المدارس التي تقوم بدوراتها التدريبية الخاصة التي لا يمكن قياس مدى فعاليتها». لا يملك برجي إحصاءات لعدد المعلمين الذين يدرّسون في غير مواد إجازتهم، لكن يجزم بأنّ عددهم ليس قليلاً وليسوا جميعاً متعاقدين، بما أنّه ليس هناك في التعاقد التزام بمواد الاختصاص. بل المفارقة التي يسجلها برجي أن من بين الناجحين في المباراة المحصورة في عام 2009 والمعينين في ملاك التعليم الأساسي الرسمي من يحمل البكالوريا القسم الثاني والامتياز الفني والشهادة التوجيهية من سوريا ومصر، ومنهم من لديه إفادات!
إذا أرادت الدولة أن تستقطب أصحاب الكفاءات إلى التعليم، فعليها أن تدفع للمعلم ما يستحقه من رواتب وحوافز حتى لا يكون في أدنى السلم الوظيفي، يقول برجي. يطالب بخطة تستمر أربع سنوات للتخلص من بدعة التعاقد، وبتمهين التعليم، أي عدم قبول معلم ما لم يكن قد حصل على إذن بمزاولة المهنة، تماماً مثل الأطباء والمهندسين والصيادلة.
يمكن القول في كثير من الأحيان إن مهنة المعلم تكاد تكون «مهنة من لا مهنة له» بسبب غياب القواعد والأصول التي ترعى المهنة والالتزام بها، وكأن معلم المدرسة يندرج في أدنى طبقات المجتمع. أمّا الانعكاس على النظام التعليمي فهو واضح، راجعوا أسباب الحروب التي اندلعت عندنا وتندلع في محيطنا، فتجدوا أن السبب الرئيسي هو معلّم مدرسة لا يحمل شهادة جامعية، بل صاحب عقيدة وابن بيئة الواسطة.