حتى فوكوياما، في «نهاية تاريخه» الشهير، لم يقدر في صفحاته الأخيرة إلا أن يعرج على «إعادة إحياء الأصولية الإسلامية»، كاحتمال من الظواهر الاستبدادية البديلة الممكنة، كما سمّاها.
ماذا يحصل فعلاً بين السعودية وقطر؟ لماذا وصلت الأمور إلى هذا الحد من الصراع العلني، والقطيعة الدبلوماسية المنذرة بسلسلة من الحروب الخفية أو حتى الظاهرة؟ على المستوى الآني الراهن، قيل ان أحد اسباب الصراع هو استمرار الدوحة في تمويل الحركات الإسلامية الخارجة عن الطاعة السعودية.
وهو ما يثير حساسية تاريخية لدى السعوديين، باعتبار أنفسهم مرجعية كل الحركات الإسلامية في العالم. هم من يخلقها، وهم من ينمّيها ويغذّيها بالمال والفكر. وهم من يئدها ويقتلها متى شاء.
جان عزيز/ جريدة الأخبار
قاعدة أصرّت الرياض على تجسيدها في الواقع العملي، منذ أفغانستان، وما قبل وما بعد. ولو كان الثمن خروج مسخ «القاعدة» من رحم تلك القاعدة السعودية بالذات.
ثم قيل إن بعض السبب عسكري مباشر. كأنما القطريين أحبوا «زكزكة» خادم الحرمين، فأرسلوا من يساعد الحوثيين. أولئك الذين باتوا، بقدرات متواضعة جداً وتكاد تكون بدائية، يهدّدون «جيش المملكة العظيم». هذا الجيش الذي نُسجت حوله أدبيات سعودية مدفوعة ومستأجرة ومستكتبة، أساطير من نوع «أبطال عاصفة الصحراء» و«درعها»، ومرسل رائد فضاء إلى العالم الخارجي، وهاضم أو بالع مئات مليارات الدولارات على برامج تسليح من أكثر الأسلحة تطوراً... كلها هُزمت أمام شراذم حوثية.
فلا بد من ذريعة للفشل. فمثّلتها قطر. وصارت الحجّة أن القطريين يتآمرون علينا وعلى جيشنا في اليمن. ولا بد من الردّ عليهم... وتكرّ الأسباب الأخرى. البعض يقول إن أحدها جيوبوليتيكي، يتعلق بمصر مباشرة وباستحقاقاتها الوشيكة. هناك زيَّن السعوديون لأنفسهم أنهم وجهوا ضربة قاضية إلى حركة الإخوان المسلمين، وأن انتخابات الرئاسة المصرية المقبلة ستؤكد ذلك. فيما يقال هناك أيضاً ان القطريين لا يزالون يموّلون الإخوان ويقصفون بواسطة سواتل «الجزيرة» فرق الجيش السيسي الناصري الساداتي المباركي المتجدّد نفسه. وهم، بالتالي، يهدّدون بعدم استكمال الإنجاز السعودي الأكبر والأوحد في سراب «الربيع العربي»، وصولاً إلى حديث عن أسباب أمنية داخلية، منها أن أموال الدوحة وحياكتها المخابراتية، لم تعد توفر الداخل السعودي، بين تباين مناطق ومذاهب من خارج النظام، أو حتى بين تمايز أجنحة من داخله...
كل الأسباب المباشرة قد أعطيت وكُتبت وحُللت. لكن ماذا عن بعد آخر للأزمة؟ ماذا عن بُعد تلك المواجهة الكبرى بين «الإسلام» وبين النظام العالمي المنبثق من سقوط الاتحاد السوفياتي؟ كل النظريات التي قاربت ذلك النظام، أفردت مكاناً للإسلام في تلك المواجهة بالذات. حتى فوكوياما، في «نهاية تاريخه» الشهير، لم يقدر في صفحاته الأخيرة إلا أن يعرج على «إعادة إحياء الأصولية الإسلامية»، كاحتمال من الظواهر الاستبدادية البديلة الممكنة، كما سمّاها. هانتينغتون وضع كل الإطار النظري للمواجهة. برنارد لويس حاول تقديم الحلول والمعالجات. وبالتالي، لا يمكن للعقل السياسي الغربي إلا أن يكون واعياً لهذه النظرية منذ ربع قرن، متيقظاً لكل تجلياتها ومقتضياتها. لا بل لا يمكن قراءة أحداث منطقتنا في العقدين الماضيين إلا على ضوء ذلك.
والمسألة لم تعد في نطاق فوبيا «نظرية المؤامرة». الأميركيون أنفسهم كتبوا ما يكفي ويشي عن «استخدام» واشنطن للجدار الإسلامي من أجل محاصرة موسكو الشيوعية شرقاً، منذ الخمسينات. في مقابل «استخدامها» المسيحية الديمقراطية لمحاصرتها غرباً. والفكرة في شقها الإسلامي على الأقل، لم تكن مبتكرة ولا مسجلة باسم العقل الأميركي. قبل واشنطن كان النازيون، على ما يبدو، اول من حاول استخدام «الإخوان المسلمين» لذلك. بعدهم ورث الأميركيون الفكرة والمشروع، وحتى اشخاصه أنفسهم من ألمان و«إخوان» لاستكمال الحصار على امبراطورية ستالين.
بعد سقوط موسكو، صار التركيز على تكييف المعادلة. كأنما العقل الغربي نفسه صار يفكّر: بالأمس استخدمنا الإسلام لمحاصرة الشيوعية. اليوم ماذا نستخدم لمحاصرة الإسلام؟ نظرية الحدود لا تنفع هنا. إذ لا حدود للأممية الإسلاموية. حتى الصراع الفكري لم يُجد كثيراً. بدليل قدرة الإسلام طيلة عقود على استيعاب متناقضات إيديولوجية غريبة ومستغربة. يكفي دليلاً أن صار لديه ماركسيون إسلاميون، وعلمانيون إسلاميون، وأقليات دينية إسلامية، وليبراليون إسلاميون... وصولاً إلى دمجه كل الإيديولوجيات التي حاولت اختراقه، وتعايشه معها بل هضمها وتحويلها غالباً أدوات في صراع إسلاميته مع «الآخر».
هكذا أسقط العقل السياسي الغربي في صراعه مع الإسلام، نظرية «الاحتواء المزدوج». لم ينشر جيوشه المباشرة أو المستعارة عند تخوم امبراطوريته، كما فعل مع موسكو الماركسية. باستثناء حقبة جنون بوش الابن طبعاً. بل ذهب ذاك العقل إلى الداخل الإسلامي مباشرة. على طريقة فيلم «يوم الاستقلال» الهوليوودي. حيث رئيس أميركا ينقذها وينقذ العالم من الغزو غير البشري. المطلوب زرع الفيروس داخل المركبة «الخارج – أرضية» نفسها. والفيروس داخل «المركبة الإسلامية» يعني فيروسين اثنين: تفجير الفالق المذهبي السني ــــ الشيعي. وتفجير الفالق العرقي العربي ــــ غير العربي...
بعد أكثر من عقد على انطلاق تلك الحرب، يتصرف العقل السياسي الغربي وكأنه انتصر. كان لا يزال يحتاج إلى معركة حاسمة أخيرة لإعلان انتصاره. معركة في قلب المركبة المعادية. فإذا بها تقدم له على طبق من ذهب أسود مثل النفط، أو شفاف مثل الغاز: ها هي المعركة الأخيرة، لا بين مذهب وآخر داخل الإسلام، ولا بين عرق وآخر. بل داخل الأكثرية المسلمة نفسها. بين الإخوان والوهابيين. آخر معركة، وأكثرها عنفاً وشراسة. عملية سحب السفراء من قطر وكل الكلام السياسي الذي رافقها، ليسا إلا مجرد البداية. وإن أمكن للعقل السياسي الغربي أن يعتبرها أول النهاية لآخر معركة له في هذه المنطقة.