ومعظم العملاء الذين كانوا مشاركين في هذه العملية كانوا من المثقفين: من المؤرخين والخبراء في الفنون وفي الآداب. كانوا بمعظمهم من جامعيي «يال» و»هارفرد» و»برنستون». وكانوا من أصحاب الذوق الرفيع!
تحت عنوان عريض: «وكالة المخابرات المركزية: سي.آي.أي. والأدب» حاورت مجلة «النوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية الكاتب البريطاني الكبير آيّن ماكيوان الأكثر شهرة حالياً في بلاده بين معاصريه وصاحب الرواية الجديدة «عملية السن الطيبة» الصادرة في لندن والتي يتناول فيها العالم الغامض والسري للحرب الباردة الثقافية في السبعينات من القرن الماضي، كما يتحدث ماكيوان عن الظروف الحالية في بلاده وشؤون ثقافية وأهمها «قضية سنودن«.
لآيّن ماكيوان نحو عشر روايات أهمها: «شمسيّ» و»آمستردام» و»يوم السبت» و»على شاطئ سيشيل» و»الولد المسروق»، والأخيرة حازت «جائزة فيمينا للرواية الأجنبية» في باريس العام 1993. جريدة المستقبل اللبنانية تقتطف من حديثه الطويل الى «نوفيل أوبسرفاتور» أبرز محطاته المهمة التي فضحت مسائل غامضة تربط المخابرات والجاسوسية بعالم الأدب.
ونظراً لأهمية الحوار نعيد نشر مقاطع منه على موقعنا، كونه يثبت مقولة الباحثة والصحافية الأميركية فرانسيس ستنر سوندرز في كتابها "من الذي دفع للزمّار؟!".. والذي قمنا باستقرائه في صفحة "قرات لكم" في موقعنا تحت عنوان :"من يدفع للزمار؟!..كيف تزوّر الوعي وتصبح الثقافة حربة للتحكّم بالعقول ؟!".
وفي ما يلي مقاطع من الحوار :
[واحدة من النقاط البارزة التي تنطلق منها روايتك هي «فضيحة انكاونتر»: عام 1967، علمنا أن هذه المجلة الأدبية الليبرالية كانت ممولة من قبل «وكالة المخابرات المركزية: سي.آي.أي.«. ما كانت مقومات هذه الحرب الثقافية الباردة في انكلترا بالتحديد؟
- هذه الحرب الثقافية الباردة بدأت تحديداً في نهاية الأربعينات في الولايات المتحدة الأميركية بمبادرة من «وكالة المخابرات المركزية: سي.آي.أي.« التي بدأت بتمويل المشاريع تحت غطاء مؤسسات مثل «التجمع من أجل حرية الثقافة» وذلك بعد أن اكتشفوا ان الأعداء والمنافسين التابعين للتوتاليتارية السوفياتية كانوا من الشيوعيين السابقين المتحررين الذين اتحدوا مع اليسار الديموقراطي. وبالتحديد انه اليسار الديموقراطي الذي استهدف «وكالة المخابرات المركزية: سي.آي.أي.« من خلال مساعداته على عمليات النشر وعبر تسهيل اللقاءات والتبادل بين ممثليها.
ومعظم العملاء الذين كانوا مشاركين في هذه العملية كانوا من المثقفين: من المؤرخين والخبراء في الفنون وفي الآداب. كانوا بمعظمهم من جامعيي «يال» و»هارفرد» و»برنستون». وكانوا من أصحاب الذوق الرفيع! فقد أنفقوا أموالهم من أجل مهرجانات ضخمة ورفيعة المستوى، مهرجانات موسيقية معاصرة في باريس حيث كان الموسيقيون يلعبون سترافنسكي وشونبرغ وستوخاسن...
في أوروبا مرحلة الخمسينات وبالكاد قد انتهت الحرب كان من النادر أن تقام الحفلات الفخمة ومع هذا كان الفنانون المعنيّون يسافرون في مقاعد الدرجة الأولى. وكان الهدف الأول اقناع مثقفي اليسار بديناميكية الثقافة الشرقية. وبالنسبة الى «السي.آي.أي.« الخطران الكبيران على أمن أوروبا تمثلا بالحزبيين الشيوعيين الفرنسي والايطالي. ومجلة «انكاونتر» بدأت تتلقى المساعدات المالية في الوقت نفسه مع مجلة ألمانية وكذلك مع مجلة «بروف» في فرنسا المقربة من ريمون آرون. كانت مجلات مهمة ورائعة وتستقبل كتاباً من اليمين ومن اليسار. ولكن كانت توجه دائماً الى هذه المجلات تهمة التعاطف مع السياسة الخارجية الأميركية.
ولذا، كانت توجّه أيضاً الانتقادات للاتحاد السوفياتي في مرحلة كانت لا تزال تتقبل فكرة أن يرتبط مثقفون بريطانيون (أو حتى فرنسيون) بالحزب الشيوعي السوفياتي على الرغم من الدعاوى في موسكو والغولاغ وسحق الحركة الرافضة والمعارضة في ألمانيا الشرقية وفي هنغاريا. وبالنسبة الى العديد من المثقفين، لم يكن الموضوع يتعلق بالدفاع عن النظام السوفياتي بقدر ما كان يصبو الى جعل الاتحاد السوفياتي يتواجه مع العالم الحر. وهذا بالتحديد ما كانت تسعى إليه «السي.آي.أي.« وما يهمني في كل هذه العملية وما لفت نظري حيالها هو أنها كانت تجري في سرية تامة على عكس ما كان يحصل في مشروع «مارشال».
وكان من الأفضل والأسهل تمويل جولة أوروبية «لأوركسترا بوسطن السمفونية» مثلاً أو أي معرض طليعي. هذا الخيار للسرية أوصل العملية الى الفشل والى التدمير الذاتي. من ناحية ثانية، بمقدار ما تتوسع أي مؤسسة بمقدار ما تزيد مصاريفها وبالتالي يتطلب الأمر مصاريف اضافية. وهذا ما حصل مع «السي.آي.أي.« التي رصدت ميزانية للثقافة غير محددة. وكلما كان الاتحاد السوفياتي يرسل نحو البلدان الغربية فرقة البولشوي أو الفرق الانشادية الخاصة بالجيش الأحمر كانت «السي.آي.أي.« ترسل بالمقابل الفنون المتعلقة بالتعبيرية التجريدية. وكيف كان الصراع؟ هذا ما كانت تجيب عنه فكرة «السوفت باور»... «القوة الناعمة». كلهم كانوا يكتبون في مجلة «انكاونتر»، الشاعر الكبير ستيفن سبندر مثلاً. انا ايضاً شاركت في نشر قصص قصيرة فيها... لا اعرف اذا كنت سأصاب بالدهشة في تلك المرحلة لو عرفت التفاصيل التي اعرفها اليوم ولكن في الواقع ان المجلة استمرت سنوات طويلة بعد الفضيحة الى حين توصلت الى ايجاد ممولين جدد حين انسحبت «السي. آي. أي.« من المهمة.
الثقافة والعملاء السريون
[ ولكن أليس في الامر ما يمكن ان يسحر روائياً شاباً بأن يعرف بأنه يتم تمويله من قبل عملاء سريين ليكتب كل ما يريده وحتى ان تتصل به مثلاً جاسوسة خارقة المواصفات؟
- في الواقع، هذا حلم! ولكن هذا لم يحصل معي، للاسف الشديد. ولو كنت العكس لما كنت اخبرتك بذلك... بجدية اقول لك إنني لما كنت اقبل ان اعمل في مجلة تمولها مؤسسة ثقافية مثلاً لا اعرف هويتها، ومثل كل ابناء جيلي لكنت رفضت لو عرفت بأن عملي ستموله مثلاً «ام 15» او «ام 16» هذا مع أنني لم أكن من اليسار المتطرف. وبكل صدق أضيف أن ما من كاتب خلال مرحلة الحرب الباردة كان يكتب ليرضي «السي. آي. أي.«. ولكن ما حصل ان «السي. آي. أي.« كانت تعي بكل بساطة ان عليها تشجيع اليساريين. وبعد كل هذا، اعلن اورويل مع بداية العام 1948 ان العدو الاكبر للاشتراكية الصادقة يتمثل في الاتحاد السوفياتي. وقد كلفها هذا عداوة الشيوعيين المتشددين الارثوذكسيين. هذا وخلال المرحلة الماكارثية، عدد كبير من العملاء في «السي. آي. أي.« الموجودين في أوروبا والذين كانوا يتعاطون مع اليسار الديموقراطي تم عزلهم وإبعادهم لأن ماكارثي اتهمهم بأنهم من الشيوعيين! كان هناك ما يشبه «الكوباوية» في مشروع تشجيع حرية التعبير والتعددية والفكر المعارض والحداثة.
الجاسوسية
[ الحرب الباردة والجاسوسية تركتا أثراً عميقاً لدى الكتّاب البريطانيين من غراهام غرين وجون لوكاريه الى مارتن أميس وجوناثان كوو، من أين أتى هذا التقليد الأدبي؟
- من المهم أن نتذكر أن الحرب الباردة كان يمكنها ان تدمر كوكب الارض والانسانية بأكملها. ونكتشف الآن اننا أكثر من مرة كنا على وشك اندلاع حرب نووية: فالى جانب ازمة الميليشيات في كوبا، كانت هناك انذارات عديدة بقيت طي الكتمان ويصرح عنها اليوم. فالاحتمال كان وارداً ان يكبس الزر احد الطرفين بالخطأ او ربما بسبب قراءة سيئة للمعطيات: ذات مرة قرأت الرادارات ان هناك قنابل قاصفة وكان الامر مجرد مرور لطيور البط المتوحش». وبعيداً من هاجس احتمال لنهاية العالم في ما يشبه «الابوكاليبس»، سممت الحرب الباردة الحياة الفكرية والثقافية بمجرد فرضها «الفكر الثنائي» خاصة في المانيا.
وغالباً ما كنت اسافر الى برلين وكان ذلك ما قبل سقوط جدارها، وكنت أسأل أصدقائي الكتّاب من المانيا الغربية لماذا لا يخصص أحدهم كتاباً عن هذا الجدار خاصة أنه موضوع ساحر ومشوق أدبياً: ولكن كانوا جميعهم من اليسار تقريباً ومجرد فكرة تخصيص كتاب للجدار كان يعني الاصطفاف في خانة الاميركيين و»السي. آي. أي.«. وكان الجميع يعتبر انه من السهولة والكسل غض النظر عن هذا الموضوع وتجاهله ببساطة. هذا الفكر الثنائي او المزدوج كان يشكل جزءاً من السلسلة التي كانت تربط الكتّاب ببعضهم في مرحلة الحرب الباردة.
ولم يتغير الوضع إلا بعد اتفاق هلسينكي حيث بدأت النقاشات المضادة حول مسائل تتعلق بحقوق الانسان في الشرق وحيث بدأت فكرة تقبّل الحريات الموروثة من تاريخ عصر النهضة والتي تستحق أن نحارب من أجلها: حرية التجمع، التعددية، الحرية الفردية وحق الانسان بحريته الحميمة، ويكون من الافضل لو كان رئيس جمهورية اميركا يفكر على هذا النحو أيضاً! وهذا الموضوع أعطى افكاراً جريئة أيضاً الى كتّاب القطاع السوفياتي المنشقين. من هنا يمكن القول ان الحرب الباردة كانت لها نتائجها القوية على الحياة الثقافية لمجرد انها اجبرت الجميع على اتخاذ قرار للاصطفاف في هذا المخيم او ذاك!
من جهة ثانية، كان هناك تقليد حقيقي في رواية الجاسوسية البريطانية وايضاً الرواية الخيالية البريطانية. وتكمن قوة الروائيين البريطانيين في انهم وعلى الرغم من انتشار الحداثة لم يفقدوا حسهم بالواقعية الاجتماعية والبعد التوثيقي. وهذا ينطبق ايضاً على الكتاب الاميركيين اذ بالنسبة لهم الهدف الاول من الرواية هو نقل الواقع وتصوير واقع الانسان «هنا» و«في هذه اللحظة».
في حين ان الادب في كل اوروبا يعتبر ان «هنا» و»في هذه اللحظة» مجرد تفصيلين يعنيان الصحافيين، اما الكاتب فيحدق في حائط قبالته ويفكر في الوجود والقضايا بشكل مجرد. أما كل ما تم الاحتفاظ به في انكلترا فينطوي على غريزة «التحقيقات» اكثر منه الالتزام السياسي.
نلفت هنا إلى أن علاقة «السي. آي. أي.« بالمؤسسات الثقافية العربية لم تنقطع حتى الآن، وهي تمول مشاريع وفرقاً مسرحية ومجلات نسائية ومراكز أبحاث ومشاريع سينمائية ومهرجانات وانتاجات فنية، تحت مسميات عدة ومن خلال واجهات شتى مثل فورد فاونديشن، وسواها. ولها مسؤولون ثقافيون في عدد من البلدان العربية منها لبنان، مصر، تونس والاردن... وقد أثيرت المسألة في أكثر من مناسبة وندوة.