وزارة العدل، مثلها مثل قيادة قوى الأمن الداخلي والعلاقات العامة والهاتف وكل الريالات والسلاح والخطابات، تحت أمر زعامة أشرف ريفي و«خرطوش فرده»
غسان سعود
وزارة العدل، مثلها مثل قيادة قوى الأمن الداخلي والعلاقات العامة والهاتف وكل الريالات والسلاح والخطابات، تحت أمر زعامة أشرف ريفي و«خرطوش فرده»، لا العكس. يلقى هذا الأمر استحسان الطرابلسيين الذين أحبطهم أصحاب المشاريع الكبيرة التي لا يرون منها شيئاً.
أجرة الموقف في سوق الحدادين للنهار كله ألفا ليرة. يقبضها صاحب الموقف موصياً الزبون بشراء قهوته من البائع اللبناني الذي يقف عند المدخل قبالة الآخر السوري. على طول الطريق، تتكرّر صورة البائعين المتاجرين، واحد بوطنيته والآخر بأزمة بلده الإنسانية. واحد في دكانه والآخر خلف بسطته على الرصيف. ينتهي النقاش مع التجار المتذمّرين من المزاحمة السورية باعتراف هؤلاء بأن للنازحين السوريين الفضل في السيولة التي تبقي المدينة على قيد الحياة اقتصادياً: مقابل كل بائع سوري يخطف زبوناً من البائع اللبناني، هناك زبونان سوريان يشتريان من البائع اللبناني.
على جانبَي الطريق نفسه، تستعيد صور اللواء أشرف ريفي، بفضل الأمطار، بهاء ألوانها، بعدما انتقلت، أخيراً، بسحر ساحر من أعمدة الإنارة وجدران الأملاك العامة إلى شرفات المنازل وأسطح البنايات، وحلت أسماء حقيقية محل «ابن البلد» الذي اعتاد اللواء المتقاعد توقيع صوره باسمه. «مزحة ريفي صارت جد»، يقول أحد المحامين الطرابلسيين: بعد إقناعه نفسه، اقتنع الآخرون أيضاً بأنه زعيم!
انتقال ريفي من المحاور إلى الوزارة لن يكون مجرد تفصيل في حياته. كل من يعرف حجم استغلاله، خدماتياً وإعلامياً وسياسياً، لموقعه في قوى الأمن الداخلي يردد ذلك.
في سوق الخضر، لا تعرض فاكهة باب أول أو ثاني أو حتى ثالث. «ما عاد أحد ممن يهتمون لشكل ما يأكلونه وطعمه يأتي إلى هنا»، يقول أحد الباعة. «السوبرماركات» التي لم يهضمها أهل المدينة سابقاً تزدهر منذ عامين على أطرافها. حالها في ذلك كحال الـ«مولات» والمدارس التي استحدثت فروعاً بعيدة عن قلب المدينة الذي تعاني مدارسه التاريخية مشاكل جمّة.
في السوق، المزاحمة كبيرة بين صور ريفي والنائب محمد كبارة ومؤيديهما. يشبه الأخير ريفي أكثر ممّا يتخيّل كثيرون: لا والد ريفي كان نائباً ولا والد كبارة كان كذلك. والثاني، كما الأول، لا يملك مصرفاً، وليس أي من جَدّي هذا أو ذاك مفتياً يعرض عمامته في صالون منزله ليلوّح بها كلما دعت الحاجة. ليس هذا فقط؛ الاثنان أبعد ما يكونان عن التديّن المعروف به رجالات المدينة التقليديون، من الرئيس عمر كرامي إلى الرئيس نجيب ميقاتي. كذلك فإن عقيدة الاثنين السياسية واحدة: خدمات وإسماع الجماهير ما تحبّ سماعه. كل هذا يجعل ملعبهما واحداً. لا ريفي ولا كبارة يراهنان على النقابيين والمثقفين والحزبيين السابقين: يركض الاثنان، يومياً، خلف من يرضيهم ميقاتي موسمياً. ولعل هذا ما يجعل التنافس على أشده بينهما. في حسابات كبارة، في المدينة خمسة مقاعد للطائفة السنية، فوز الرئيس نجيب ميقاتي والوزير محمد الصفدي والنائب سمير الجسر بثلاثة منها محسوم أياً كانت التحالفات في المدينة، ويفترض بريفي خطف أحد الكرسيين المتبقيين، ليتعين على كبارة منافسة نحو عشرين مرشحاً على المقعد المتبقّي، يتقدمهم النائبان السابقان مصطفى علوش (الذي ينتمي، بخلاف كبارة، إلى تيار المستقبل) ومصباح الأحدب (الذي ينتمي، بخلاف كبارة أيضاً، إلى نادي وجهاء 14 آذار).
تسهب المدينة في الحديث عن تعويض الرئيس سعد الحريري معنوياً على الجسر غداة استبعاده عن الحكومة عبر دعوته إلى مرافقته إلى مصر، فيما لم يسأل أحد عن مشاعر كبارة الذي كان يأمل توزير صهره النائب زياد القادري، أو عديله النائب سمير الجسر، ليستعيد بعض النفوذ الخدماتي الذي أخذه ريفي منه. وفي هذه الجهة من المدينة، يتوزع النفوذ على أربعة: إلى جانب ميقاتي وكبارة وريفي، هناك نفوذ تاريخي لعائلة كرامي ممثلة اليوم بالوزير السابق فيصل كرامي. تيار المستقبل مجرد راية زرقاء تصلح لملء الخزان بالوقود أو الحصول على «كرتونة إعاشة» مرة، أو الظهور بمظهر المواكبين للموضة مرات. أما فعلياً، فسيقصد المواطنون إحدى المرجعيات الأربع، حصراً، في حال وقوعهم في أزمة ما. وعليه، يمكن ميقاتي، في حال تفاهم على خطة عمل جدية مع كرامي وكبارة، أن يضع حداً لظاهرة ريفي. كذلك يمكن ريفي، في حال تواضع وقبل التنسيق مع ميقاتي وكبارة، أن يوجه ضربة قوية لزعامة آل كرامي في معقلهم الرئيسي في المدينة. اجتماع ثلاثة ضد أي من الأربعة كفيل بإنهائه. أما انقسامهما اثنان هنا (ريفي وكرامي!) واثنان هناك (ميقاتي وكبارة!) فينتج منه توازن مرعب.
في باب التبانة، تبلل قطرات المطر الوجوه المتجهمة، كأنها تكسر الجليد النفسيّ أيضاً بين المتوترين من أبناء طرابلس وكل الآخرين. يعطل الشتاء المتأخر القلة القليلة من التجار الذين ما زالوا يسترزقون، فيما يؤشر المتجر المقفل بين كل ميكانيكيّ وآخر إلى نتائج الركود الذي تعاني منه المنطقة. وتلعب الأزمة الاقتصادية الدور الرئيسي في نجاح «قادة المحاور» في تجنيد المقاتلين، بعد عجز هؤلاء عن تحقيق انتصارات معنوية وتراجع الدعم المالي لهم وتغيير تيار المستقبل وجهة تعبئته، في ظل غياب قوى حزبية أو مدنية تخرج المواطنين من الفخ الذي أوقعوهم فيه.
من كاراج إلى آخر، تبين أحاديث المواطنين، غير الموثقة، أن الحرب الأهلية «خرّجت»، هنا أيضاً، أثرياء جدداً. ويتصدر القائمة المحسوبون على ريفي. فأحد سلفيّي التلفزيونات بات يملك أكثر من تسع شقق سكنية في منطقة أبو سمرا، واشترى أخيراً أرضاً كبيرة في منطقة القبة ليشيد عليها مجمعاً سكنياً. أحد «قادة المحاور» يستفيد من الهدنة، بين جولة قتالية وأخرى، ليسيح في أوروبا. «قائد» آخر اشترى لأسرته شقة سكنية في منطقة المعرض، أبعد ما يكون عن محوره المفترض. أحد النواب العكاريين مشغول منذ عام بالتجارة عن كل شيء آخر. يخوض نواب المستقبل حروباً بعضهم ضد بعض لحصول المقربين منهم على تلزيمات الطعام والمساعدات الاجتماعية وصناديق الإعاشة المخصصة للاجئين السوريين. تغيّرت سيارات المحسوبين أمنياً على ريفي. المسؤولون عمّا يعرف في المدينة بـ«طابق ريفي» أثروا جميعاً. ومن يصعد سطح إحدى البنايات المطلة من أبو سمرا على المدينة، يلاحظ أن لون الطابق الأخير في بناياتها مغاير للون الطوابق الأخرى، بعد تخصص إحدى المافيات في شراء أسطح البنايات وتعمير طابق مخالف لرخصة البناء عليه، تمهيداً لبيع الشقة السكنية والسطح هذه المرة. تراجعت تجارة الصابون والألبسة والخضر وغيرها في المدينة، وتزدهر منذ عامين تجارة السلاح والمواد الغذائية والدواء، ولكل قطاع من هذه مافيا جاهزة خاصة به.
أولوية ريفي لا تزال طرابلس، يردد أحد المقربين منه. متمثّلاً بآل كرامي، لا بالرئيس ميقاتي، يضع الوزارة في تصرف الزعامة. بين النقابيين عموماً، والمحامين والأطباء خصوصاً، يصعب العثور على «ريفيّ» باستثناء المحامي طارق شندب الذي انتقل من رفع الدعاوى شمالاً ويميناً على الرئيس السوري بشار الأسد وغيره، إلى الدفاع عن عمر الأطرش.
وزير العدل يعمل من دون فريق عمل فعليّ. تكفيه زوجته وشقيقها وطارق الزهر وهيثم مبيّض و«الشيخ» بلال دقماق و«ابن البلد». وهو يجد، على نحو خيالي فعلاً، الوقت للتواصل مباشرة مع السعوديين، والتنسيق مع حزب الله، والذود عن كرامة رئيس الجمهورية، وملاحقة الصحافيين، ومتابعة المشروع الأمني للحريريين في لبنان، والتعرف إلى وزارة العدل، وتنظيم لقاءات يومية مع قضاة لا يعرفهم، وتثبيت حضوره الطرابلسي، والرد على اتصالات بائع القهوة وصاحب موقف السيارات ومدير المستشفى والأم التي طردوا ابنها من المدرسة. وهو بادر فور إنهائه التقاط الصورة التذكارية في قصر بعبدا إلى لقاء من يعتقد أنهم المفاتيح الرئيسيين في الملعب الطرابلسي: أقنعهم بإيجابية ما تحقق، وعدهم بمضاعفة ما اعتاد توفيره لهم، وحثّهم على الدفاع بقوة عنه في موقعه الجديد. أما المنظومة الأمنية التي اجتهد العام الماضي للتفرد بقيادتها، فأعاد تسليمها بحلتها الجديدة الى العقيد المتقاعد عميد حمود بمجرد تسلمه وزارة العدل. وينتظر، بحسب معلومات أمنية، أن يبدأ حمود ترتيباً جدياً لهذه المنظومة بإشراف ريفي، بحيث تبعد نهائياً العناصر غير المنضبطين، ليختزل المشهد الأمني الطرابلسي بمجموعتين رئيسيتين؛ واحدة سعودية الهوى يتزعمها حمود والأخرى يقودها حسام صباغ.
شعبياً، تبدو واضحة استفادة ريفي من غضب جمهور 8 آذار من توزيره لإشعار الطرابلسيين بأنهم حققوا انتصاراً بهذه الخطوة. يفيده أيضاً إحباط الرأي العام ممن كان يتوقع منهم الكثير، فيما يفاجئهم إيجاباً ريفي الذي لم يكونوا يتوقعون منه شيئاً. ولا أحد يبالي، في هذا السياق، بتغطيته مخالفة لابن عمه هنا، أو ارتكابه جريمة بحق الأملاك البحرية هناك، ولا أحد يسأل من أين له كل ما بات له أو من سطوة أحد أفراد أسرته عليه. غيره يفعل هذا وأكثر، لكنهم لا يجيبون على هواتفهم ولا يجدهم المواطن حين يطرق بابهم.
إن تنسى هذه الأحياء عند ذكر ريفي، فلا تنسى النائب السابق محمد بك حمزة الملقب بمحمد الفاتح. كان الأخير أحد «قبضايات» ثورة الـ58 الذين استظرفهم الاستخباري الأول في تاريخ لبنان وسوريا عبد الحميد السراج، فمدّه بالسلاح لإمداد الثوار و«تمنى» على الرئيس رشيد كرامي ضمه إلى لائحته عام 1960 فقبل على مضض، مفترضاً أنها الوسيلة الأنسب لإنهاء نفوذ آل المقدم في المدينة باعتبار «الفاتح» صهرهم. انتقل حمزة من قيادة البوسطة إلى قيادة الجماهير، متوّجاً عهده النيابي بتدشين شبكة مجارير جديدة في المدينة، لم يكد المحتفلون بها يعودون إلى منازلهم ويستخدمون الحمامات حتى سدّت مساربها فطافت المجارير في المدينة.
في تاريخ هذه المدينة أيام مشرفة، وأخرى مماثلة لأيامنا الحالية.
يرد على الأسد... ويتحفظ
لا يترك الوزير أشرف ريفي مناسبة لرفع الصوت «وأخذ الجمهور» إلا يستغلها. يوم امس، قرر الرد على الرئيس السوري بشار الأسد، فغرّد على «تويتر» قائلاً: «ليس من شأن رئيس النظام السوري بشار الأسد ان يختار للبنان رئيس جمهوريته»، مشدداً على ان «زمن الوصاية انتهى ولن نقبل ان يمس أحد بسيادة لبنان ومؤسساته».
من جهة أخرى، قال ريفي قبل جلسة مجلس الوزراء أمس «إن الأمور حول البيان الوزاري متعثرة»، لافتا إلى أن «الوضع يتجه نحو استقالة رئيس مجلس الحكومة تمام سلام وإعادة تكليفه».
وأضاف: «اذا لم يذكر انسحاب حزب الله من سوريا، والغاء مظاهر الامن الذاتي في اللبوة وعرسال في البيان الوزاري، فحكماً سأتحفظ».
http://www.al-akhbar.com/node/202672
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه