السيد حسن نصرالله طرح السؤال: ماذا يعني أن تصبح إسرائيل دولة يهودية؟..وما هي إلا أشهر قليلة حتى ارتفعت أصوات قادة الكيان يطالبون باعتراف بيهودية "إسرائيل"..إلى اين ستؤدي بهم وبنا هذه المطالبة العنصرية
ها نحن وصلنا إلى الجزء الثالث من هذا التحقيق، بحال تمكنت أن تصبح إسرائيل دولة يهودية صافية الهوية والانتماء والدين، هل يشكّل هذا منعطفاً تاريخياً لها ولشعوب المنطقة؟!، وهل يعني ذلك عزلة تامة لهذا الكيان في قلب المنطقة العربية والإقليمية المتنوعة الأديان والأعراق؟!..
"إسرائيل" بالفعل هي دولة يهودية الآن ..!
باحثون في الشأن الإسرائيلي لا يرون حقيقة لهذا الطرح، فإسرائيل هي الآن دولة يهودية في حدود الأراضي الفلسطينية التي تحتلها، فأي فرق تشكلّه على نفسها ومحيطها؟!. هذا التساؤل طرحه الباحث عباس إسماعيل رئيس قسم الشؤون الإسرائيلية في قناة الميادين في اتصال هاتفي مع موقع المنار، فهو لا يرى أنها تقع في عزلة ولا أنها وحيدة في المنطقة التي تحيط بها، بل معظم الدول تقيم أحسن العلاقات معها، فأي عزلة وأي خطر يتهددها وهي بالفعل دولة يهودية الآن ؟!!.
وربما تصريح لوزير الخارجية الأميركية جون كيري عرّاب المفاوضات منذ أيام قليلة جداً يؤيد هذه الرؤية عندما ينتقد موقف نتنياهو المصر على الحصول على اعتراف فلسطيني بيهودية إسرائيل بأن: «مسألة الدولة اليهودية قد حلت في قرار الأمم المتحدة 181 من العام 1947»، مضيفا أن القرار يأتي على ذكر «الدولة اليهودية» 44 مرة. وادعى كيري أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قال في العام 1988 ومرة أخرى في العام 2004 إنه يوافق على أن تكون إسرائيل دولة يهودية.
عرض "مبدأ تبادل الأراضي" يؤكد هشاشة واقع "يهودية إسرائيل"
في المقابل، يظهر تناقض فاضح عندما لفتت صحيفة «هآرتس» إلى تصريح كيري في كانون الأول الماضي، الذي جاء فيه أنه «علينا أن نبحث عن سلام يعترف بإسرائيل كدولة يهودية». كما لمح كيري، بحسب الصحيفة نفسها، الى أن موضوع الدولة اليهودية ورقة مساومة فلسطينية في المفاوضات مع اسرائيل.
ونسأل أيضاً لماذا إذاً هناك تفاوض حول ما يسمى تبادل الأراضي، فوزير الخارجية الأميركية لوّح بحال من الفوضى يمكن أن تجتاح المنطقة اذا أخفقت خطته، ورأى بأن رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو قدم تنازلا كبيرا جدا واتخذ قرارا في غاية الصعوبة يمنح الفلسطينيين الفرصة لإضفاء الشرعية على المفاوضات واتفاقية الاطار المتمثل بعرضه "مبادلة الاراضي". نتنياهو في السياق عرض 52 كيلومترا مربعا من أراضي الجليل المحاذية لشمال الضفة الغربية وهي مساحة جغرافية تضم كتلة ديموغرافية قوامها نحو 300 الف مواطن فلسطيني يفترض أن يصبحوا جزءا من الدولة الفلسطينية الجديدة بعد الاتفاق. عمليا تنظر أوساط فلسطينية معارضة للمفاوضات لفكرة نتنياهو الأخيرة بارتياب شديد على أساس أنها قد تكون بروفة لـ"تنقية" دولة اسرائيل وتكريس يهوديتها وترحيل عرب 1948 الى المساحة الجغرافية الجديدة لدولة فلسطين.
يسوقنا هذا إلى الحديث عن تعذّر الفصل بين "يهودية الدولة" في إسرائيل، وبين الواقع الديموغرافي القائم هناك بين اليهود والعرب. إذ إن لبوس الطابع اليهودي للدولة الصهيونية يتطلب توافر معادلة ديموغرافية تميل فيها كفة الميزان لمصلحة العنصر البشري اليهودي، وهو ما لايمكن تحقيقه إلا على حساب فلسطيني العام 1948.
الخوف القادم من "القنبلة الموقوتة"
المشهد الديموغرافي بدأ يشير وفق العديد من الدراسات "الإسرائيلية" المستقبلية إلى أن اليهود سيصبحون أقلية ابتداء من نهاية العقد الحالي. وستنحسر نسبتهم مع نهاية العام 2020 إلى نحو 40% من السكان، مقابل 60% من الفلسطينيين. أما داخل ما يسمى "الخط الأخضر" الذي يضمّ نسيجاً بشرياً مكوّناً من 20% من فلسطيني 48 ونحو 80% من اليهود، فتشير الدارسات إلى أن اليهود سيفقدون امتياز كونهم أغلبية سكانية مع حلول العام 2048، العام الإفتراضي للاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيس إسرائيل، والذي لا يتوقع أن يحتفل به وفق التقليد الصهيوني المتبع، بحسب ما جاء في دراسات كثيرة حول الوضع المستقبلي لدولة الكيان الغاصب.
هذا المشهد الديموغرافي المرعب جيّش قادة الكيان لإيجاد حل يحافظ على الوضع البنيوي البشري داخل "إسرائيل"، عما هو عليه. فيهودية الدولة تفرض تحقيق يهودية مستقرة متحررة من خطر تزايد ديموغرافي عربي، وأي شي عكس ذلك يمكن أن يحوّل "إسرائيل" إلى دولة ثنائية القومية، الأمر الذي يعني فشل المشروع الصهيوني الذي قام على شعار بناء "وطن قومي لليهود" في فلسطين ..!.
وبناء عليه كان إجماع صهيوني على نزع فتيل ما أسموه "القنبلة الموقوتة" (الواقع الديموغرافي العربي في فلسطين) عبر خيارات ثلاث:
الأول : التخلص قدر الإمكان من الوجود العربي داخل أراضي ألـ48
الثاني : الحد من التزايد الديموغرافي لفلسطيني الـ 48
الثالث : زيادة عدد اليهود داخل "إسرائيل"
فيما يخص الأول، والثاني فهناك إجراءات عديدة يقوم بها قادة الكيان، من ترحيل قسري وهدم البيوت للفلسطينيين بمبررات واهية وبناء المزيد من المستوطنات والمستوطنات، وكذلك جرت محاولات أخرى ترمي إلى فرض توطين اللاجئين الفلسطينيين في بلدان الشتات. ويؤكد البروفسور أرنون سوفير أنه إذا أردات "إسرائيل" أن تبقى دولة يهودية، فعليها أن تبدأ بنقل أجزاء من منطقة المثلث وشرقي القدس إلى السلطة الفلسطينية في خطوة انفصالية من طرف واحد، أو في إطار مفاوضات ومعنى هذا، التخلص من 400 ألف مواطن عربي، منهم 210 الاف من شرقي القدس و190 ألفاً من المثلث.
وفي موقف طريف وساخر من "سوفير" وهو يطرح حلاً للمشكلة يرى وجهاً أخر سلبياً لعملية الترحيل إذ يقول :"إذا طردناهم جميعاً من سيجمع القمامة في إسرائيل، من سيبني البلد، من سيوفر الخضروات، ومن سيقدّم الطعام في المطاعم؟ّ". وعثرت لكم على تعبير "ألطف" من هذا التعبير ومثيراً للسخرية والاشمئزاز في قول لأحد كبار الفكر الصهيوني المؤسسين "يسرائيل زانغويل"، في كتابه "صوت أورشليم"، المنشور بالإنكليزية بعنوان "The Voice of Jerusalem" ، من جملة ما يقوله :"ولمّا كانت فلسطين هي الوطن القومي اليهودي، فلا بد لجيرانهم من أن يجدوا لأنفسهم مكاناً أخر..أليست الجزيرة العربية ومساحتها مليون ميل مربع كلها لهم؟ ليس ثمة ما يدعو العرب إلى التمسك بهذه الحفنة من الكليومترات .. فمن عاداتهم وامثالهم المأثورة طي الخيام والتسلل، دعهم الآن يُعطون المثل بذلك".
تهديد حقيقي أمام مئوية "إسرائيل"
كما جاء في دراسة الصحفي اليهودي الأميركي "بنجامين شفارتس" في العام 2005، والتي نشرت في مجلة أتلانتيك" الأميركية التي تصدر في بوسطن، تحت عنوان بالغ الدلالة "هل ستبقى إسرائيل قائمة حتى عام الذكرى المئوية لتأسيسها؟!". ويسود الاعتقاد أن الهلع الذي حصل في إسرائيل بعد صدور هذه الدراسة في ربيع 2005، ما كا ليحدث إلا في ظروف تجعل من الممكن تصديق نتائج الدراسة، لاسيما وأنها اعتمدت على نتائج وتقديرات ديموغرافية كان قد نوصل إليها العالمان "سيرجي دي لافرغولا" و" أرنون سوير" وهما من أبرز علماء الديمغرافيا في "إسرائيل".
إضافة إلى ما تقدم هناك عاملان أساسيان في هذه العملية المتوقعة، وهي الهجرة والهجرة المعاكسة إلى إسرائيل وخارجها. الهجرة إلى الكيان باتت في نسبة منخفضة ملحوظة بشكل كبير تصل إلى 20 ألف مهاجر سنوياً، وهي وضعاً مأساوياً بالنسبة إليها. والهجرة المعاكسة، الهجرة من إسرائيل"، باتت تتجاوز سنويا الأرقام المسجلة عن الهجرة اليهودية إليها. وحتى هذه الهجرة، فإن معظم التقارير الإسرائيلية تقرّ بأن ثلث المهاجرين من دول الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا الشرقية هم ليسوا يهوداً.
ويبدو أن ما يسمونه "يهود الشتات" ينحو هو أيضاً نحو التناقص لا الزيادة، لاسيما في الولايات المتحدة الأميركية التي تناقصت أعداد اليهود فيها بنحو 300 ألف نسمة في أقل من جيل واحد، بحسب النتائج التي توصل إليها العالم الديموغرافي الإسرائيلي "سيرجي دي لا فرغولا".
الدولة اليهودية عقبة أمام "الدولة اليهودية"
لقد تحوّل مطلب الاعتراف بيهودية إسرائيل إلى عقبة حقيقية أمام يهودية إسرائيل نفسها، باعتراف محللين إسرائيليين، إذ إن هذه "العقبة الصغيرة" تحولت بالتدريج إلى عقبة لا يمكن تخطيها، وكيري أوضح السبب. إذ قال موضحا :«أعتقد أنه كان من الخطأ أن يعرض أناس معينون هذا الموضوع بشكل متكرر كعنصر حاسم». ويعتقد الأميركيون أنه كلما رفع نتنياهو من صوت مطلبه، تقلصت فرصة أن يتمكن عباس من التجاوب معه. كلما جعلت إسرائيل هذا المطلب أشد جوهرية، بدا للجانب الآخر رمزا للخنوع ولا يمكن قبوله، حتى لدى زعيم "أشد شجاعة" من عباس. وهذا رأي إسرائيلي.
وذكر الصحفي حيمي شاليف في صحيفة "هآرتس" يوم أمس، أن زعيما يهوديا فخوراً قال في مداولات مغلقة في نيويورك، «صحيح أن الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية معناها اعتراف الفلسطينيين بأن روايتهم كاذبة»، والفلسطينيون يميلون لتصديق تفسيره. كما يتعذر عليهم الاكتفاء بالوعد ألا يتضرر الفلسطينيون مواطنو إسرائيل، كما يسمونهم، خصوصا وقتما يسمى نتنياهو ان الكنيست «يهودي»، ويقترح وزير الخارجية نقل مئات الآلاف منهم إلى السيادة الفلسطينية، ويسن الكنيست قانون الحكم الذي يمنع على العرب، خلافا لرأيهم، إنشاء حزب واحد وموحد.
يبدو أنهم، أي الأميركيون، عندما تبنوا شعار نتنياهو الاعتراف بيهودية إسرائيل بدا لهم معقولا ومقبولا، بل إن قسما منهم آمن بأن نتنياهو بإثارته الأمر منح عباس ورقة مساومة جديدة لم تتوفر له سابقا. "وهما لم يأخذا بالاعتبار أن هذا المطلب يخرج النمر من مربضه ويعيد الجانبين للتحصن بين صخور وجودهما ومبرر صراعهما من الأساس". والكلام لحيمي شاليف. ويبدو أن هذا الصحفي محق في تصوره هذا، إذ أعاد المفاوضات إلى نقطة الصفر، وبالنسبة إلينا يرسّخ عقيدة الصراع الذي بدأ مع ثيودور هرتسل عندما أسس "لدولة إسرائيل" انطلق من كتابة "دولة اليهود"، أي أن القادة الصهاينة كانوا منذ الخطوات الأولى لمشروعهم إنما يريدون المضي نحو إقامة معزل (غيتو) يهودي، لكن على نطاق واسع.
إن الإصرار الآن، وبعد وصول المشروع الصهيوني إلى منتهاه، من حيث الجغرافيا والديموغرافيا، على يهودية الدولة، إنما ينطلق من نزعة عنصرية شوفينية متعصّبة تفرض على أي قومية أخرى تعيش في إطاره، الانصياع لكل القوانين الدينية والوضعية اليهودية. وهذا يعني أننا أمام مشروع تهويد البشر والحجر، فمن شاء الخضوع والالتزام فليخضع لهذه الشروط ومن لم يشأ فما له سوى الرحيل أو الترحيل طوعاً أو كرهاً. وهذا الوضعية يؤكدها الباحث في الشؤون الإسرائيلية إحسان مرتضى لموقع المنار، ويتابع مؤكداً أنه بطبيعة الحال هذا الإكراه لا يتناسب مع ما ترفعه إسرائيل من شعارات الديموقراطية وحرّيات تقرير المصير وهو لا يتناسب أيضاً مع الثقافة الغربية المعلنة التي تدّعي احترام كرامة الإنسان وحقوقه المدنية والسياسية.
كما وأنه لن يؤدّي إلا الى الاستفزاز والتحدّي لكن ما هو ومن هو غير يهودي، الأمر الذي سيؤدي مع مرور الوقت إلى حصول التصعيد والمواجهة أكثر فأكثر لدى كل الفرقاء الموجودين حالياً داخل فلسطين المحتلّة. وكل فصل سيؤدّي إلى ردّ فعل مماثلة ومعاكسة في الاتجاه. أي أن المطالب الإسرائيلية ستجابه بمطالب تصعيدية دينية وقومية من قبل المسلمين والمسيحيين في فلسطين والمنطقة والعالم الأمر الذي سيجعل إسرائيل في المستقبل تقف فوق صفيح ساخن وملتهب في مواجهة كل الأصوليات القومية الدينية وصولاً إلى السلفيات التكفيرية وإلى نشوب حرب حضارات وأديان لن تنتهي بمئات السنين.
ويؤكد الباحث مرتضى أن هذا يعني أن الإصرار على يهودية الدولة لن يكون في صالح إسرائيل العلمانية الديموقراطية التي تسعى للذوبان في المنطقة بشكل عضوي والاستفادة من خبراتها الاقتصادية والأمنية الهائلة. يهودية الدولة ستعني العزلة والطلاق البائن مع المنطقة وأهلها وستعني فتح الأبواب مشروعة أمام التحريض والتحريض المضاد الأمر الذي يتناقض تماماً مع المصلحة البراغماتية للدولة الكيان، علماً بأن المحرضين الذين يصرون على مثل هذه المطالبة إنما هم المتطرّفون اليمينيون والمتعصبون القوميون الذين يتحكّمون حالياً بمصير الدولة وسياساتها الخارجية من أمثال نتنياهو وليبرمان وبنيت وسواهم.
وننتهي بسؤال أخير : هل مشروع الشرق الأوسط الجديد الحالم بتقسيم المنطقة إلى دويلات قومية ودينية وإثنية يلتقي مع مشروع إقامة دولة يهودية صافية في منطقتنا؟!..
مراجع للبحث :
الكيان الصهيوني بين يهودية الدولة وانهيارها، ندى الشقيفي المريني، مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية
مقال "عقبة الدولة اليهودية"، حيمي شاليف، صحيفة هأرتس، ترجمة جريدة السفير، في 17/3/2014.