بين 5 حزيران/ يونيو 2013 تاريخ استعادة مدينة القصير و17 اذار/مارس 2014 تاريخ استعادة مدينة يبرود، محطات عديدة في الأزمة السورية تنقلت الجماعات المعارضة المسلحة خلالها من نكسة الى اخرى
علي عبادي
بين 5 حزيران/ يونيو 2013 تاريخ استعادة مدينة القصير و17 اذار/مارس 2014 تاريخ استعادة مدينة يبرود، محطات عديدة في الأزمة السورية تنقلت الجماعات المعارضة المسلحة خلالها من نكسة الى اخرى: فمن تسليمها بالعجز عن إسقاط النظام من دون تدخل عسكري أجنبي مباشر، الى إلقاء الملامة على الأطراف الدولية الداعمة لهم بعدم تقديم أسلحة "نوعية"، الى محاولات مستميتة لإحداث خروق متفرقة في الجبهات المختلفة في مطار منغ العسكري بريف حلب وريف اللاذقية الشمالي وبلدة مهين في حمص وصولاً الى الغوطة الشرقية. جاء توقيت استعادة يبرود مركز منطقة القلمون الاستراتيجية وبالسرعة والمهارة التي تمت بهما لتحدث شقاقاً بين الجماعات المسلحة بشأن تحديد من هو "الأب" لهذه الهزيمة المنكَرة، وقلقاً لدى الدوائر الإقليمية وفي مقدمها "اسرائيل" حول تداعيات هذه المعركة على الحسابات العسكرية في معادلة الصراع المفتوح وعلى مسار الأحداث في سوريا.
كان تحرير القصير نقطة تحول هامة في أحداث سوريا تسارعت بعدها محاولات التعويض في جبهات أخرى. لكن هذه المحاولات من حلب الى الساحل الى ريف دمشق وحمص وحماه لم يُكتب لها نجاح يذكر بل إن الجيش السوري تمكن من استعاد أغلب المواقع التي احتلتها المجاميع المسلحة، بل وحقق نقاطاً إضافية، كما في حال طريق خناصر- السفيرة وصولا الى شرقي حلب التي استأنف مطارُها الدولي رحلاته في الأيام الأخيرة.
لم تُرد الجماعات المسلحة والدول التي وراءها التسليم بمغزى هذا التحول، ظلت تسعى وراء مكسب ميداني تستثمره معنوياً وسياسياً، لكنها اضطرت لاحقاً الى الإقرار بأن لا حل عسكرياً لا سيما في أعقاب تراجع الولايات المتحدة عن التدخل العسكري في سوريا في ايلول/ سبتمبر الماضي. ونذكُرُ جميعاً الرهانات التي عقدت في الصيف الماضي، بدفع سعودي، على تحقيق إنجاز عسكري في حلب لحساب المعارضة، ثم في الغوطة الشرقية في الخريف الماضي لتهديد العاصمة مجدداً، ثم على جبهة درعا في الجنوب في الشتاء لاختراق الدفاعات حول دمشق. لكن هذه الرهانات جميعها أخفقت واضطر رُعاتها الى الانسحاب من المشهد السياسي بعدما تأكدوا من أن الوضع الميداني غير مُبشّر، في ضوء خيبة الأمل من أداء المعارضة وانقساماتها.
يبرود: الإنجاز النظيف والخاطف
تأتي معركة استعادة يبرود لتوجه ضربة أخرى الى أحلام كل المراهنين على تغيير الوضع العسكري سواء في محيط دمشق او في حمص او في اتجاههما. كان كمين العتيبة في الغوطة الشرقية الشهر الماضي إنذاراً صادماً لكل الإستعدادات التي قيل إنها تتم للتحرك من درعا في اتجاه العاصمة. ومعركة تحرير يبرود جاءت لتكمل الرسالة من واقع جغرافي صعب (تضاريس وجبال جرداء) ومناخ قاس شتاء وتحدٍّ عسكري غير بسيط يتمثل في وجود آلاف المسلحين في مناطق سكنية وتحت الأنفاق عقدوا العزم- كما كانوا يقولون- على إفشال اختراق حصونهم وإيقاع كلفة بشرية عالية في الطرف المهاجِم. كل تلك الصعوبات تم تذليلها والتغلب عليها، وسقطت حصونهم في مدة قصيرة بأسرع مما تصور المسلحون، وبدون كلفة عالية على الطرف المهاجِم او خوض حرب شوارع كبيرة او حدوث تدمير واسع. ما السر في ذلك؟ ولماذا كانت معركة يبرود أسهل نسبياً من معركة القصير؟ وهل ستكون بداية تحولات دراماتيكية أسرع وأشد وقعاً من تلك التي شهدناها بعد معركة القصير؟
لا ريب في أنه، من طرف الجيش السوري وحزب الله، تمت الإستفادة من الخبرات المتراكمة ومن أهمها تجربة القصير التي تتسم بمنبسط من الأرض لكنه كثيف عمرانياً وحاشد تسليحياً، ووُضعت الخطط في يبرود على أساس تحقيق الهدف تدريجياً بعد عزل معاقل المسلحين الجبلية والقيام بعمليات نوعية اعتماداً على معلومات استخبارية تم جمعها بطرق شتى. وكان التوجه هو تضييق الخناق رويداً رويداً لدفع المسلحين الى الاستسلام او الانسحاب من أرض المعركة، من دون الاضطرار الى خوض معركة اقتحام سابقة لأوانها. أمكن من خلال عمليات اقتحام أولية إحداث ثغرة في دفاعات هذه الجماعات والنفاذ منها الى نقاط أخرى. لم يستطع المسلحون استيعاب تداعيات هذه العملية التي قُتل أثناءها عدد من قادتهم، فوقعوا في حال اضطراب مريعة، وبدأ فرار بعضهم ليثير موجة شائعات واتهامات متبادلة بالجبن والخيانة. وكرّت سُبحة الفرار و"الانسحاب التكتيكي" بصورة فوضوية لا مثيل لها، الأمر الذي أدى الى استعادة المدينة بكاملها.
كانت نتائج معركة يبرود صاعقة حتى لأكثر المتشائمين من قادة المعارضة المسلحة الذين توقعوا الصمود لبعض الوقت -على الأقل- ليتمكنوا من إشغال الطرف المهاجِم واستنزافه بكلفة عالية قبل وصول إمدادات من جهة ما أو الانسحاب الى مواقع أخرى عند الضرورة. ويعود تحقيق هذه النتيجة في الجانب العسكري الى تعزّز خبرة الجيش السوري، ومعه حزب الله، في معارك المدن واتباع تكتيكات متناسقة بهدف شلّ فاعلية الخصم الذي لم يتمكن لحدّ الآن من استيعاب عِبر المعارك السابقة وتقدير قوة الطرف المقابل.
أهمية يبرود
يعود اهتمام الجيش السوري بمدينة يبرود الى انها باتت ملاذاً آمناً للجماعات المسلحة التي فرت من معارك سابقة في القصير وحمص وريف دمشق، ومنطلقاً لشن هجمات مؤذية على مناطق خلفية في بلدة معلولا ذات الآثار التاريخية الفريدة في ريف دمشق (حيث احتجزت الراهبات) وبلدة مهين بريف حمص ( حيث مستودعات سلاح رئيسة للجيش) ومناطق أخرى تطل على طريق حمص- دمشق. ولا ننسى ان موقع القلمون يمثل ثقلاً جغرافياً هاماً وعقدة مواصلات تربط ريف حمص بريف دمشق وصولا الى الاراضي اللبنانية المصدر الهام للتسلح والتمويل والإرتباط، وكانت توجد في هذه المنطقة مخازن سلاح للجيش وضع المسلحون أيديهم عليها قبل أكثر من عام. كما تمثل القلمون أهمية خاصة للجيش السوري بسبب إطلالتها على طريق دمشق – حمص الدولي الذي تتيح السيطرة عليه تأمين الإمدادات لقواته في العاصمة وريفها، كما تمنع المسلحين من إيصال الإمداد لقواتهم في ريف دمشق.
وتفيد استعادة القلمون، وصولاً الى إغلاق منافذ التهريب عند الحدود اللبنانية، في تأمين العاصمة بشكل أفضل، حتى لو بقيت جيوب مسلحة في ريف دمشق. وباستطاعة القوات المسلحة السورية في المرحلة التالية التركيز- وفق الأولويات التي تحددها- على الجبهة الوسطى في حمص وحماه ، والجبهة الشمالية في حلب وإدلب، والجبهة الجنوبية في درعا والقنيطرة.
أما حزب الله فيعود اهتمامه بمنطقة القلمون الى كونها تمثل قاعدة للجماعات المسلحة المتطرفة التي باتت تتحكم بمسار الوضع فيها وتطلق تهديدات جدية باتجاه لبنان، وترسل منها باتجاهه السيارات المفخخة. وينظر حزب الله باهتمام خاص الى أي محاولة من هذه الجماعات للسيطرة على طريق دمشق- بيروت أو المناطق التي تقع في الفناء الخلفي لقواعد المقاومة، بما يهدد بيئتها الاستراتيجية او طرق إمدادها. وسبق أن حدد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في شهر ايار/مايو 2013 الغاية من القتال في سوريا بـ "تحصين المقاومة وحماية ظهرها وتحصين لبنان وحماية ظهره"، مشدداً على ان "سورية هي ظهر المقاومة وسندها والمقاومة لا تستطيع ان تقف مكتوفة الأيدي ازاء كسر ظهرها".
وتضيف معركة يبرود نقاطاً الى رصيد حزب الله الذي يعزز حضوره وإمكاناته وينظر العدو الاسرائيلي الى تمركزه في سلسلة جبال لبنان الشرقية وما بعدها على أنه يصعّب على جيشه حصر رقعة المواجهة في أية حرب مقبلة. وبعد الانفجار الأخير بموكب عسكري اسرائيلي في مزارع شبعا المحتلة، اتسم موقف العدو بالحذر الشديد لأنه يدرك أن حزب الله، مدعوماً من سوريا، بمقدوره النيل من الجيش الاسرائيلي انطلاقاً من نقاط جديدة لم تكن متوفرة له من قبل.
نكسات وتخبط
التطورات الأخيرة تثبت أن اليد العليا في الميدان هي للجيش السوري، وأن الجماعات المسلحة تُراكمُ الهزائم وتبحث عن تبريرات لإقناع مؤيديها بأن ما جرى ليس أكثر من "نكسة"، بل إن بعضهم ذهب الى انه "إنجاز" في القدرة على الصمود لفترة طويلة و"تنظيم" انسحاب المدنيين والمقاتلين من المدينة! مُغْفلاً كل الأساطير والتهديدات بعظائم الأمور التي نُسجت قبيل استعادتها من قبل الجيش (لاحظ مدير "المرصد السوري لحقوق الانسان" المعارض رامي عبد الرحمن لجريدة "النهار" اللبنانية ان "المؤشرات كانت واضحة منذ وصول القوات المهاجمة الى تخوم يبرود بأن المدينة ستسقط، لكن ليس بهذه السرعة، مستغرباً كيف ان بعض قيادات جبهة النصرة مصرّة على نفي سقوط يبرود برغم البث المباشر من هناك). وهذه مفارقة تستحق التوقف لأنها تشير الى ان العقلية التي لا تزال تسيّر المعارضة المسلحة تقوم على الإعتقاد بأن في وسعها قلب المعادلة وإسقاط النظام، وهذا ما يطيل عمر الأزمة ويزيد من الخسائر.
إفتقاد هذه المعارضة الى الحسابات العقلانية يقودها من هزيمة الى أخرى، والإنفصالُ عن الواقع يدفعها الى ادعاء القدرة على اجتراح المعجزات بسلطان "إلهي" هذه المرة. هكذا يصبح الله قيد إشارة المقاتلين الذين يدعونه عبر مواقع التواصل الإجتماعي طلباً لعجائب فلا يُستجاب لهم، من دون أن يبحثوا عن الأسباب؛ لقد أوهموا أنفسهم إبان معركة القصير - استنادا الى فهم خاطئ للدين وللأسباب الطبيعية - بأنهم سينتصرون فيها لا محالة ولن تقوى أي قوة على طردهم من القصير، وظل هذا الإعتقاد يساورهم الى الأيام القليلة الأخيرة من المعركة. وقبيل معركة يبرود أعادوا نسج الأسطورة ذاتها، فاعتقدوا أنها ستكون "مقبرة" للجيش السوري وحزب الله، لكنهم ولّوا الأدبار عندما حمي الوطيس. كيف تفسر المعارضة المسلحة هذه التراجعات؟ بالتأكيد ستجد – كما حصل بعد معركة القصير- جُملاً إلتفافية تقول إنها كانت مجرد معركة ومجرد "ابتلاء"، كما عبّر أحدهم من بعيد وهو يزيّنُ للمتراجعين استمرارهم في هذا المسلسل الانتحاري الذي يذهب بالكثير من الأرواح.
برغم ذلك كله، يمثل أي انتصار عسكري للجيش السوري تقدماً مضطرداً لمنطق الدولة وتراجعاً لطروحات الجماعات المسلحة التي تواجه تحدياً صعباً في إقناع حاضنتها الشعبية بجدوى خياراتها الجذرية، وفي إقناع الكثير ممن حملوا السلاح- اعتقاداً منهم بأن النظام سيسقط قريباً- في البقاء على هذا المسار. وقد لاحظنا ارتفاعاً في نسبة الشباب الذين يقومون بتسوية أوضاعهم ونشاطاً في تحرك المصالحات في العديد من المناطق. بهذا المعنى، فإن العمل العسكري يؤتي ثماراً إيجابية في اتجاه إعادة سوريا الى المسار الطبيعي، على أن يكون مرفقاً بمعالجات سياسية واجتماعية استثنائية للعبور الى بر الأمان.
التأسيس لانتصارات جديدة
ما بعد يبرود ليس كما قبلها. مرحلة يُتوقع أن تنفتح على تطورات عسكرية قد تتكثف فيها المواجهات بهدف إبعاد سطوة المجموعات المسلحة عن منشآت حيوية وطرقات رئيسية وتأمين تواصل قطعات القوات المسلحة واستعادة ثقة المواطن بالدولة والتمهيد لإنجازات جديدة تقف فيها القيادة السورية على أرضية أكثر ثباتاً، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبتّ في مستقبل مفاوضات جنيف. واذا كانت معركة استعادة القصير أضعفت الرهان على إسقاط النظام، فإن معركة استعادة يبرود من شأنها أن تقطع الشك باليقين وتؤسس لتراجع بعض الجماعات والأفراد عن حمل السلاح طريقاً للمعارضة، خاصة بعدما تأكد أن هذا السبيل كان مؤلماً ومكلفاً لسوريا وشعبها ووَضَعهما على حافة الإنزلاق الى التجزئة والإرتهان لقوى كبرى تتربص بالبلاد. وتبقى المشكلة الأساسية مع الجماعات العقائدية المتطرفة او تلك المرتبطة بمحاور اقليمية ودولية تريد لها الاستمرار في المواجهة حالياً بانتظار أمر ما.
وهناك معطى دولي جديد قد يساعد مهمة القيادة السورية في استعادة المناطق الخارجة عن السيطرة، ويتمثل هذا المعطى في الإنشغال الدولي بأزمة أوكرانيا والتي زادت من التباعد بين روسيا والمعسكر الغربي. وهذه الأزمة مرشحة لكي تمتد زمنياً ولا يبعد أن يمارس كلا الطرفين فيها أقصى ضغوطه على الآخر. وفي حين يأمل بعض المعارضين أن تضعف شوكة روسيا او ان توافق على تقديم تنازلات في سوريا لحفظ مصالحها في القرم، فإن ذلك لا يعدو أن يكون أملاً ورهاناً يضاف الى ما سبقه من آمال ورهانات، خاصة ان الأزمة في اوكرانيا ليست عابرة وهي تختصر معركة نفوذ مريرة بين روسيا واميركا على أبواب اوروبا بما يعيد أجواء الحرب الباردة. وفي وسع القيادة السورية ان توظف الهامش الزمني المتاح أمامها لفرض وقائع جديدة على الأرض تصب في مصلحة إنهاء او تقليص الأخطار التي تعيشها سوريا وتخفيف معاناة شعبها.