ما أن ينتهي مجلس النواب من الاقتراع على الثقة بحكومة الرئيس تمام سلام حتى يستعد الأفرقاء للاستحقاق الرئاسي. بالتأكيد ليست المهلة الدستورية منذ الثلاثاء مؤشر افتتاح الجدل
نقولا ناصيف
ما أن ينتهي مجلس النواب من الاقتراع على الثقة بحكومة الرئيس تمام سلام حتى يستعد الأفرقاء للاستحقاق الرئاسي. بالتأكيد ليست المهلة الدستورية منذ الثلاثاء مؤشر افتتاح الجدل، بل استباق استحقاق 2014 بقواعد جديدة: مرشحا تحدٍّ يرسمان السقوف العليا والعتبات الدنيا.
يواجه فريقا 8 و14 آذار، للمرة الثانية، انتخابات رئاسة الجمهورية منذ نشوء تكتليهما للمرة الأولى عام 2005. وخلافاً لما كانا عليه في استحقاق 2007، عندما بكّرا في الخوض فيه، أشهراً قبل نهاية ولاية الرئيس إميل لحود، من خلال السجال المستفيض في النصاب الدستوري لجلسة الانتخاب، وتلويح قوى 14 آذار بما رفضه الفريق الآخر، وهو فرضها مرشحها بنصاب النصف +1، ها هما في الاستحقاق الثاني يتحدثان باحتشام عن الدستور. لا يجتهدان، حتى الآن على الأقل، في تفسير المادة 49، إلا أنهما وضعا قواعد مختلفة لإدارته.
لا جدل في نصاب انعقاد المجلس، ولا في فرض مرشح أحدهما على الآخر، ولا التلويح بالاستعانة بالخارج لبلوغ الفوز. في استحقاق 2007 قالت قوى 14 آذار إن لديها أكثر من مرشح من صفوفها، وسمّت أسماء مؤهلة كالنائبين بطرس حرب وروبير غانم والراحل نسيب لحود، وتركت للوقت غربلتها وصولاً الى مرشح وحيد، بينما امتنعت قوى 8 آذار، وتحديداً حزب الله، عن الجهر بدعم ترشيح الرئيس ميشال عون من غير إظهار تخليها عنه، إلا أنها لم توح مرة بأن لديها مرشحاً آخر.
اليوم، بعدما استنفد تأليف حكومة الرئيس تمام سلام أشهراً من الوقت الطبيعي لولوج الاستحقاق الرئاسي قبل بلوغ المهلة الدستورية، يبدو فريقا 8 و14 آذار حائرين أمامه، ولا يملك أي منهما مبادرة التحرّك حياله أو اتخاذ مواقف صريحة منه. لم تصدر كذلك إشارات جدية من المجتمع الدولي، والغرب خصوصاً، بإزاء الانتخابات المقبلة، ما خلا بضعة مواقف عابرة.
وباستثناء المواصفات التي تناولها الرئيس السوري بشار الاسد أخيراً عن «الرئيس الممانع»، فإن أياً من الدول العربية لم يُظهر، حتى الآن على الاقل، حماسة للاضطلاع بدور مباشر في «صنع» الرئيس اللبناني الجديد. وهو سبب إضافي للاعتقاد بأن الاستحقاق لا يحظى بأي منزلة مهمة في أي مكان في العالم، على غرار استحقاقات سابقة. دعم الغرب بلا تحفّظ خيارات دمشق في تسمية الرئيسين الياس هراوي وإميل لحود عامي 1989 و1998، وكذلك التمديد للهراوي عام 1995. وناوأها حينما عمدت الى تمديد ولاية لحود، بأن حمل مجلس الأمن على إصدار القرار 1559 لفرض منعه عام 2004. اجتمعت قطر وسوريا ومعظم العرب في تسوية الدوحة لانتخاب الرئيس ميشال سليمان وإن متأخراً ستة أشهر.
للمرة الأولى، لسنوات خلت، يبدو الاستحقاق أشبه بكرة في ملعب مهجور لا لاعبين أشداء على أرضه.
وأكثر من أي وقت، وخصوصاً في انتخابات 2007، يتصرف الزعماء الموارنة على أنهم مفتاحها، بينما يلتزم الطرفان السنّي والشيعي الصمت وتفادي الخوض في أبسط تفاصيل الاستحقاق، بما فيها المواصفات الغامضة والملتبسة. بل يتراءى في الظاهر كأن الاستحقاق عالق بين مرشحين كلاهما يتحدث عن ضرورة انتخاب «رئيس قوي»، ولكل منهما تفسيره الخاص ـــ المناقض للآخر ـــ لـ«الرئيس القوي». لا يجد أحدهما، حتماً، في منافسه رئيساً قوياً. هما عون ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. إلا أن مرشحين آخرين من ضمن تكتّلي 8 و14 آذار، كالرئيس أمين الجميّل والنواب بطرس حرب وسليمان فرنجية وروبير غانم، لا يشاطرونهما وجهة النظر نفسها. لا يرى أي منهما نفسه مرشحاً قوياً بالمواصفات تلك، ولا يصدقون أنها هي التي تقود الى المنصب ما لم يحدث ما ليس في الحسبان.
استعاد جعجع في ذكرى 14 آذار في «البيال» خطاباً مشابهاً للرئيس بشير الجميل ـــ وكان لا يزال قائداً لـ«القوات اللبنانية» ـــ في عيد حزب الكتائب في تشرين الثاني 1981، طرح فيه آنذاك مواصفاته هو للرئاسة، في حقبة يصعب على أي أحد أن يصدق انتخابه. في خطاب كان أقرب الى سبيكة في صوغ معانيه المباشرة والمضمرة والمتماسكة، تحدث بشير عن نفسه. كذلك فعل جعجع بعد أكثر من ثلاثة عقود في خطاب مماثل افتقر الى السبك المتين. عندما اجتاحت إسرائيل الجنوب السنة التالية، 6 حزيران 1982، قال بشير لوزير الإعلام آنذاك ميشال إده، عند مدخل قصر بعبدا، على مسمع السفير السوفياتي الكسندر سولداتوف: آسف ميشال. أنا مَن سيكون. في ما مضى كان أبدى لإده دعمه له لرئاسة الجمهورية.
وقع ما ليس في الحسبان، ما يفترض أن يكون عون وجعجع ينتظران حدثاً في أهميته على الأقل من أجل وصولهما.
لم يحظَ أحدهما بعد بتأييد حليفه السنّي أو الشيعي. وقد يكون من المبكر توقّع هذا التأييد إذا حصل. لم يوحِ عون وجعجع في آن بأن إعلان ترشحهما تم بالتنسيق مع حلفائهما، أو في أحسن الأحوال حظي بموافقة الحليف على افتتاح معركته. يتصرّفان كأنهما يتوخيان استدراج حلفائهما الى خيارهما، ويحرجان المرشحين الآخرين في قوى 8 و14 آذار كما خارجهما: لا محل لهم بينهما ما دام كل منهما يمثل رأس حربة الغطاء المسيحي للفريقين الشيعي والسنّي.
يقولان أيضاً بوصول مرشح يمثل حيثية استثنائية في صفوف جمهوره، وإن على المسيحيين في المقابل أن يختاروا هم رئيسهم من ضمن الاصطفافين. لم يعن عون وجعجع، في كل ما قالاه عن الاستحقاق حتى الآن، سوى تأكيد رفضهما الضمني والمبكر فتح أبواب خيارات أخرى على غرار تجربة 2007: لا تعديل للدستور لإزالة المانع من طريق مَن يحظّر انتخابه، ولا مرشح باهتاً من خارج الاشتباك السياسي المعلن بين قوى 8 و14 آذار.
لم يتسلح أحدهما بتفسير خاص لنصاب جلسة الانتخاب، وذهبا معاً الى المنطق الطبيعي لانتخاب الرئيس وهو اجتماع النواب واكتمال النصاب ومباشرة الاقتراع. لم يمانعا في المنافسة كي يفوز مَن يحز الغالبية النيابية. قالا بانعقاد المجلس، وجزَمَا بأن انتخاب الرئيس يكون من الدورة الثانية، لأن أياً منهما لن يسعه الفوز من الدورة الاولى.
بل لعل الأهم في ترشيح عون وجعجع، وجهاً لوجه، أنهما يسقطان من حساب الاستحقاق وصول «رئيس توافقي»، نقيض «الرئيس القوي»، الى رئاسة الدولة، ويفصحان عن موقف مشترك هو خوض الاستحقاق بمرشح تحدٍ واستفزازي ينتمي الى فريق دون آخر، لكن في وسعه ــ لأنه كذلك ــ منح الضمانات التي يطلبها معارضوه، وقادر في الوقت نفسه على فرض تطبيقها من غير تنصّله من حلفائه.
على نحو يتوخى استعادة تقاليد الانتخابات الرئاسية التي عرفت، على مرّ عقود، أكثر من دورة اقتراع وأكثر من منافسة قبل بلوغ قاعة الاقتراع ثم إبانها، يدفعان الاستحقاق في وجهة تكرار ثنائية الترشح: كميل شمعون وحميد فرنجية في انتخابات 1952، فؤاد شهاب وريمون إده في انتخابات 1958، سليمان فرنجية والياس سركيس في انتخابات 1970، الياس سركيس وريمون إده في انتخابات 1976، وصولاً الى آخر منافسة شهدها البرلمان قبل أن ينقطع عنها نهائياً، وكانت عام 1989 بين رينه معوض وجورج سعادة والياس هراوي.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه