هنّ نماذج أمهات مقاومات، بالصبر والحرف، وعند الله هنّ من "الجنّة تحت أقدامهم"، فبوركن من كنز دنيوي زرعن حب الله ورضاه في زوايا الأرض، ويحصدن نتاجهن حلماً، هدية جميلة في عيدهن.
هي لحظة اللقاء، حينما تحتضنه مكلّلة بلهفة المشتاق.. تضمه إلى صدرها غير آبهة بكل ما عانته خلال تسعة أشهر خلت، حملته في أحشائها روحاً ترتوي من عروقها، ويتغذى من فؤادها... وتُكمل مشوار الأمومة، تربّيه "كل شبر بندر"، هو طفلها، فلذة كبدها، وهي أمه، هي الدنيا، وما بين الأم وولدها حرفان يختصران أبجديّة الأمهات، أكثر الناس إحساساً بولدها، ومحبة له تتخطى البحار..
غدير مطر / الجامعة اللبنانية - كلية الإعلام
تنظر أم يوسف إلى الصورة المعلّقة أمام ناظريها، تستقي الكلمات من عيني ابنها الشهيد يوسف وكلها فخر بولدها الذي غدا طيفاً، "عيد الأم هو أجمل الأعياد" تبدأ حديثها، مكفكفة عبرات عزّة ولوعة فراق، هي أم شهيد وشهادته أجمل هديّة منه في عيدها.
أمّا الحاجة كاريمان (أم أحمد) لم تتوقف يوماّ عن التفكير بأنّه عليها إكمال طموحها وهو الشهادة الجامعية، ولو بعد إنهاء أولادها تحصيلهم العلمي، في حين أنّ الحاجة صبحيّة (أم أحمد) حقّقت حلمها "بتحصيل أولادها أعلى المراتب الدراسيّة"..
في عيدي أزوره
"كان يوسف مثله مثل الأولاد، لكن كان هذا اليوم بالنسبة له يوم مقدّس"، هو الشهيد يوسف حلمي حلاوي الذي انضم حديثاً إلى قافلة الشهداء، شهداء الدفاع المقدّس" هؤلاء الشباب الذين التزموا بالدفاع عن أرضنا وأعراضنا وديننا، هم من رحم أمهات عظيمات، كنت أتمنى الانضمام إليهنّ دائماً" تقول أم الشهيد يوسف.
هو أجمل الأعياد، مشاعر تحلّت بها قبل ارتفاع ابنها شهيداً، "لكن هذه الأيام اختلفت قليلاً عن سابقاتها، فيوسف أشعرني بالعزة أكثر، خصوصاً في هذا اليوم" تتابع متزوّدة بالصبر من نظراتها المسلطة على صورته معتزّاً "برشاشه"، هي حققت "رجاءً خاصاً" حلمت به ووصلت إليه.
حلّ عيد الأم هذا العام، وولدها يوسف منزله بعيد عنها، تمسح دموعها بيدها التي هزت مهده صغيراً، وتهز رأسها متمتمةً بكلمات مشتاقة : "هو حاسس فيي، كنت حابي اطلع عالقبر نهار عيد الأم زوره، بس ظروفي أجلت الزيارة للسبت"، وتؤجّل الإجابة عن أحاسيسها في عيد الأم مع غياب يوسف إلى لحظات ذلك اليوم، إلا أنّه "عازز عليّي عدم وجوده" تقول، ففي السنة الماضية، آخر عيد أم احتفل به يوسف " كان مميزاً بالنسبة له، احتفل به من قلبه" تتابع بحسرة.
"لديكم كنز بين أيديكم، لا تُضيّعوا دماء الشهداء" تُخاطب أم يوسف كل الأمهات، راجيةً منهن تعليم أولادهن " الحفاظ على هذه الدماء، والحفاظ على كرامتنا التي منحونا إياها هؤلاء الشهداء".
ولم تنس أم يوسف أن تبارك لأمهات الشهداء "هذا العيد وهذه الدماء"، وتفخر بابنها وبكل الشهداء قائلة :" فزنا ورب الكعبة بأن منحنا الله هذا الفخر"..
نتعلّم سويّة
تُواكب الحاجة كاريمان الأسعد سليم ( أم أحمد) أولادها بدراستهم الجامعيّة، بعدما شعرت بأنّ أولادها أصبحوا "قادرين الإتكال على أنفسهم دراسياً "، فبالنسبة لها "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك".
تتابع الأسعد دراستها العليا (ماجستير سنة ثانية - فلسفة وإلهيات) في إأحدى جامعات بيروت، مؤكدة أنّ " الأم قدوة لأولادها، فلو أنها تراخت في حمل الكتاب أمام أولادها" في الفترة التي كانت ترعاهم فيها علميّاً " لكانوا هم تراخوا أيضاً"، لكنها كانت دائمة الاستماع إلى المحاضرات، وحضور الندوات"، هذا الأمر دفعهم إلى إكمال علومهم، والمثابرة في طلب العلم".
تفتخر الأسعد بأولادها كما يفتخرون هم بها، فهي لم تُقصّر يوماً "في رعاية أولادها"، معتبرة أن " تنظيم الوقت من الأمور الأساسيّة في الحياة"، فهي أعطت أولادها "كل ما يحتاجه أي ولد من والدته". ولعلّ أجمل هداياهم في عيدها شهادة جامعيّة قيد تحصيلها، بعدما كبروا.
تشبه حال الأسعد حال ملاك كحيل (60 عاماً) التي تكمل دراستها الجامعية، في الجامعة اللبنانيّة( قسم الصحافة)، هي أم لأربعة شبان أنهوا تحصيلهم العلمي بتفوق، فغدوا "مثالاً لها"، لتتابع دراستها "حباً بالعلم ولاختصاص الصحافة"، تجلس إلى مقاعد الدراسة قرب شباب من عمر أحفادها، مزهوة بأجمل نعم الباري عليها، نعمة العلم.
هديّتي تفوقهم
تُطلق الحاجة صبحيّة صفير( أم أحمد) العنان لابتسامتها الورديّة، عند سؤالها عن عدم اكمالها لمشوارها الدراسي.. وتعبر أنفاق الأسئلة المستفزة بسلام، مختصرة كل الأجوبة، فبالنسبة لها تفوق أولادها هو "أكبر نجاح حققته في عمرها"، مؤكدة أن خصالها التي زرعتها فيهم "أينعت". هي الأم المعلّمة في احدى المؤسسات الإجتماعية، والمتوقفة عن دراستها عند السنة الجامعيّة الثانية (اختصاص علم النفس)، مختلفة عن الأسعد وكحيل في المستوى التعليمي، لكنهن متشابهات، هنّ أمهات أنجبن إلى الدنيا أبناء صالحين متفوقين.
تحب صفير متابعة دراستها الجامعيّة، إلا أن "الظروف لا تسمح"، وتقول مازحةً " ما مضى من العمر أكثر من الأيام القادمة"، ثم تشير إلى أولادها قائلةً :" هم فخري، أنا أكملت دراستي ونجاحي باتمامهم لتحصيلهم العلمي وتفوقهم"، ولا تغفل صفير عن مطالبتها بهديتها في عيد الأم، مؤكدة:" تفوقهم ونجاحهم أجمل الهدايا".
هنّ أجمل الأمهات، منهنّ من قدمت فلذة كبدها شهيداً مغواراً، فكانت شهادته الهديّة، ومنهن من تكمل دراستها مواكبةً أولادها، وشهادتها الجامعية هديتها، وأخرى تُطالب بأجمل الهدايا، تفوق أولادها العلمي.
هنّ نماذج أمهات مقاومات، بالصبر والحرف، وعند الله هنّ من "الجنّة تحت أقدامهم"، فبوركن من كنز دنيوي زرعن حب الله ورضاه في زوايا الأرض، ويحصدن نتاجهن حلماً، هدية جميلة في عيدهن.
كل عام وكل الأمهات بألف ألف خير..