كشف الهجوم الذي أطلقته الفصائل الإسلامية المتشددة على ريف اللاذقية قبل يومين، مدى ارتباط قيادة هذه الفصائل بأجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية، وعلى نحو خاص مدى ارتباطها بجهاز الاستخبارات التركي
كشف الهجوم الذي أطلقته الفصائل الإسلامية المتشددة على ريف اللاذقية قبل يومين، مدى ارتباط قيادة هذه الفصائل بأجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية، وعلى نحو خاص مدى ارتباطها بجهاز الاستخبارات التركي، الذي كان دوره واضحاً في الإعداد والتخطيط للهجوم على معبر كسب الحدودي، ومن ثم المساعدة في تنفيذ هذا الهجوم عبر التغطية والإمداد والتشويش.
ومما له دلالته في هذا السياق، أن «الأمير العام» لعملية الهجوم هو أبو موسى الشيشاني، الذي يشغل موقع القائد العسكري العام لـ «لواء أنصار الشام» الذي يقود الهجوم بالاشتراك مع «جبهة النصرة» و«حركة شام الإسلام»، إذ من المعلوم العلاقة الوثيقة والتاريخية التي تربط بين الاستخبارات التركية وبين الحركات الإسلامية المتشددة في القوقاز والتي يطلق عليها اسم «المقاومة القوقازية».
وفي ظل التجاذب التركي - الروسي والذي كان أحد تجلياته دعم الأتراك للقوقازيين مقابل دعم الروس للأرمن وقضيتهم، نسجت الاستخبارات التركية علاقات وثيقة مع كبار قادة التنظيمات «الجهادية» التي نشأت في القوقاز، وأخذت هذه العلاقة أشكالاً مختلفة من الدعم والتمويل والاحتضان، ترتفع وتنخفض بحسب الظروف المحيطة والهامش الذي تسمح به مقتضيات السياسة الدولية.
لذلك، لا يبدو غريباً أن نعلم أن بعض قادة الجماعات الشيشانية التي تقاتل في سوريا، كان يقيم في تركيا قبل قدومه إلى سوريا للقتال، وإقامته في تركيا كانت هرباً من ملاحقة السلطات الروسية له بتهم تتعلق بالإرهاب. ومن أهم هذه الأسماء يبرز اسم «سيف الله الشيشاني» الذي كان مقيماً في مدينة اسطنبول لسنوات قبل أن يدخل إلى الأراضي السورية، وينتهي به المطاف «أميراً» لجماعة «جيش الخلافة» التي تتكون في غالبيتها من مقاتلين شيشان. وهنا لا بد من التأكيد على أن سيف الله الشيشاني كان القائد العام للهجوم على سجن حلب المركزي قبل حوالي شهرين، حيث قتل في ظروف ملتبسة، ولا يزال مقتله يثير الكثير من الشكوك خصوصاً في ظل الاتهامات التي يوجهها أنصار «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) إلى بعض قيادات «النصرة» بأنها تقف وراء مقتل الشيشاني وأنها تبتغي تصفية «المهاجرين» إرضاءً للدول الداعمة التي تغير مزاجها في الفترة الأخيرة، أو قررت السير مع تيار الدول الكبرى التي أصابها القلق على مصالحها بعد تفشي «الإرهاب» في الأراضي السورية على نحو ينذر بانتشاره في دول الجوار، بل وحتى في بعض الدول الغربية، الأمر الذي لا يمكن لهذه الدول أن تتغاضى عنه أو تغامر به.
وبعد مقتل سيف الله الشيشاني، تم الاتفاق مع مسلم الشيشاني (أبو الوليد الشيشاني) «أمير» جماعة «جنود الشام»، التي تتكون كذلك من مقاتلين معظمهم من الشيشان، ليقود جبهة القتال في مدينة حلب التي شكلت لها غرفة عمليات خاصة باسم «غرفة عمليات أهل الشام» بالاشتراك بين «جبهة النصرة» و«الجبهة الإسلامية» وبعض الفصائل الأخرى.
ويعتبر مسلم الشيشاني من أبرز القيادات الشيشانية، وكان قبل القتال في الشيشان مجندًا في الجيش السوفياتي في منغوليا، ثم بعد انحلال الاتحاد السوفياتي قاتل ضد الروس في الحرب الأولى، وفي الحرب الثانية كان أحد أعضاء «مجلس الشورى» في عهد أصلان مسخادوف، وشارك مع القائد خطاب (ثامر سويلم) وكان نائبا لأبي الوليد الغامدي في فترة، ثم انتقل إلى «مجموعة جعفر»، ثم عينه أبو الوليد الغامدي «أميرًا» لجبهة إنغوشيا، وسجن مرات عدة، كما كان مقربـًا من حمزة غيلاييف وكان أحد المخططين لعملية «فلاديكفكاز» وقاد عمليات عدة ضد الجيش الروسي منها العملية المسماة بعملية «خير الله». ويشار إلى أن أبا موسى الشيشاني الذي يقود الهجوم على ريف اللاذقية كان مشاركاً في عملية «خيرالله» تحت إمرة مسلم الشيشاني، وما زالت العلاقة بين الرجلين قوية رغم أن كلاً منهما انتسب إلى تنظيم مختلف في سوريا.
وفي حلب أيضاً فإن صلاح الدين الشيشاني هو من يقود حالياً المعركة في منطقة الليرمون، وكان هو من قاد أول هجوم على «اللواء 80» قبل عام ونيف حيث تعرض لإصابة كادت تودي بحياته، إلا أنه نجا منها.
وقبل ذلك، كان عمر الشيشاني هو القائد العام لعملية اقتحام مطار منّغ العسكري في ريف حلب الشمالي، وقد اكتسب شهرة واسعة بعد نجاحه في اقتحام المطار والسيطرة عليه، وأصبح يشار إليه على أنه لا يضاهى من حيث عقليته العسكرية.
والملاحظة المهمة التي لا تخلو من دلالة على ارتباط «الأمراء» الشيشانيين بالاستخبارات التركية، أن غالبية الجماعات الشيشانية في سوريا تأسست قريباً من الحدود السورية - التركية، سواء في ريف اللاذقية أو ريف حلب، لسهولة الانتقال والتواصل بين الطرفين. وثمة شواهد على أن ضباطاً من الاستخبارات التركية كانوا يدخلون إلى الأراضي السورية للاجتماع مع الأمراء الشيشان أو قادة جماعاتهم، إلا أن غالبية هذه الاجتماعات كانت تتم داخل الأراضي التركية.
وهنا تبرز حادثة أبو مصعب الجزائري الذي كان بمثابة نائب لقائد «جيش المهاجرين والأنصار» (قبل انقسامه) عمر الشيشاني، حيث أمر الشيشاني بإلقاء القبض عليه بعد خروجه من اجتماع مع ضباط استخبارات أتراك وأحاله إلى المحكمة الشرعية التي قررت عزله وطرده من «الجيش»، وذلك بحسب رواية «الشرعي العام لجيش المهاجرين والأنصار» السعودي راكان الرميحي. ورغم تفاهة العقوبة إلا أنها على الأغلب كانت بمثابة رسالة إلى الاستخبارات التركية مفادها أن «جيش المهاجرين والأنصار» خرج من كنفكم.
ولا يخفى أن «جيش المهاجرين والأنصار» منذ ذلك الحين، تعرض لكثير من الهزّات التي من المتوقع أن يكون للاستخبارات التركية يد فيها رداً على رسالة عمر الشيشاني، لا سيما أن عمر الشيشاني أرسل رسالته بعد وقت قصير من قيامه بمبايعة «داعش» الذي اتسمت علاقته مع الطرف التركي بالسوء وعدم التفاهم، بل وصلت في منعطفات عدة إلى درجة قيام القوات التركية بقصف مواقع وأرتال لـ«داعش» كما حدث في أعزاز وفي الراعي بريف حلب.
وانشق عن «جيش المهاجرين والانصار» سيف الله الشيشاني مع حوالي 300 مقاتل وشكل «جيش الخلافة» ومن ثم بايع «جبهة النصرة» قبل شهر من مقتله، وكذلك انشق صلاح الدين الشيشاني مع حوالي 600 مقاتل واتخذ لنفسه اسم «جيش المهاجرين والأنصار» وبقي مستقلاً من دون مبايعة أي فصيل آخر، لكنه أقرب إلى «جبهة النصرة» و«الجبهة الإسلامية»، بينما حافظ عمر الشيشاني على القسم الأكبر من المقاتلين الشيشان الذين بلغ تعدادهم حوالي 3500 مقاتل في إحصاء قديم وتخلى عن مسمّى «جيش المهاجرين والأنصار» ليصبح القائد العسكري العام لـ «الدولة الإسلامية في العراق والشام» بل إن البعض يطلق عليه لقب «وزير حربية الشام».
ومؤخراً أعلنت مجموعة شيشانية تعرف بإسم «كتيبة صبري» نسبة إلى اسم قائدها الذي قتل في وقت سابق، مبايعتها لزعيم «داعش» أبي بكر البغدادي وقد تلقّى البيعة نيابة عنه عمر الشيشاني.
وبذلك تكون خريطة التنظيمات الشيشانية قد انقسمت إلى قسمين: القسم الأول يدور في فلك «جبهة النصرة» و«الجبهة الإسلامية»، مثل «جيش الخلافة» و«جنود الشام» و«جيش المهاجرين والأنصار»، بينما يدور الثاني في فلك «الدولة الإسلامية» مثل عمر الشيشاني و«كتيبة صبري».
وبينما تزداد الدلائل على قرب القسم الأول من الاستخبارات التركية وتنسيقه معها، تتسع الفجوة بين هذه الاستخبارات وبين «الدولة الإسلامية» وهو ما أحدث الكثير من التأثيرات على التطورات الميدانية للصراع بين القسمين، حيث بدا واضحاً أن السلطات التركية سعت إلى إبعاد «الدولة الإسلامية» عن حدودها ولو استلزم الأمر أن تقوم بمهمة القصف والمواجهة بنفسها، كما حدث قبل أسابيع في الراعي بريف حلب عندما قصفت طائرات تركية رتلاً تابعاً لـ«داعش» كان يتجه للسيطرة على البلدة. وفي المقابل لا تبدي هذه السلطات أي اعتراض مهما اقتربت مقارّ «جبهة النصرة» من حدودها.
وفي الختام، فإن العلاقة بين الاستخبارات التركية والفصائل الشيشانية لا تقتصر على الدعم والتمويل، بل تمتد إلى تأمين الحماية وحتى الحصانة من الملاحقات القضائية، كما حدث مع أبو البنات قائد كتيبة شيشانية كانت تحمل اسمه وتنشط في ريف حلب قبل انحلالها قبل أكثر من عام. ورغم أن أبا البنات متهم بخطف رجال دين مسيحيين وذبح بعضهم وارتكاب العديد من المجازر، وهي موثقة بأشرطة مصورة، إلا أن السلطات التركية منعت ملاحقته قضائياً رغم تواجده وإقامته على أراضيها بعد أن هرب من سوريا.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه