ألمانيا تستخدم اكثر من ٧٦٪ من استهلاكها للغاز من روسيا كذلك بالنسبة لحاجتها من البترول إذ إنّ اكثر من ٨٤٪ من النفط تستورده ألمانيا من روسيا،
قد يكون تأثير العقوبات الدولية الإقتصادي العشوائي وآثارها الإنسانية السلبية من أسباب سعي العديد من البلدان وفي طليعتها سويسرا في تطبيق هذا الحظر بصورة اكثر تحديداً وكفاءة. هذا مع العلم انها تحظى بتأييد متزايد وأصبحت عنصراً اساسياً في الدبلوماسية المتعددة الأطراف.
لكن ما قد ينطبق على دول العالم من حظر وعقوبات وما قد تتبعه الدبلوماسية الدولية في حق بعضها لا ينطبق على جميع الدول ولا سيما على واحدة من الدول العظمى (وتبقى عظمى مع رئيس مثل بوتين)، وما يصح من نتائج في حق ايران والعراق وليبيا وغيرها قد لا يصح مع روسيا، ليس فقط لأنها دولة عظمى بل لأنّ اقتصادها ورغم ضعفه في العديد من النقاط يبقى مترابطاً بشكل كبير مع العديد من الدول خصوصاً أوروبا، وإذا ما أرادت الولايات المتحدة فرض عقوبات على روسيا في محاولة منها لردعها عن ضمّ شبه جزيرة القرم ومهاجمة أوكرانيا لن يكون ذلك من السهل أن يفعله الإتحاد الأوروبي، وما يصح مع أميركا لا يصح بالمطلق على دول الإتحاد الأوروبي ولا سيما المانيا (الدولة الأقوى في هذا الاتحاد)؛ فاقتصاد روسيا والاتحاد الأوروبي هو أوثق اتصال وهكذا عقوبات خطيرة قد تضر في نهاية المطاف اقتصادات دول رئيسة كألمانيا على سبيل المثال.
لذلك، هكذا عقوبات وجب أن تنفّذ بشكل حذر كون ارتداداتها ستؤثر سلباً في اقتصاد أوروبا بشكل عام. وبالتأكيد لن يكون من السهل أن تفرض هكذا عقوبات نظراً للعواقب المحتملة لأوروبا بالذات من خفض في معدل العمالة الى فقدان الكثير من العقود واضطرار لخفض الإعتماد على المحروقات الروسية.
والجدير ذكره هو أنّ ألمانيا تستخدم اكثر من ٧٦٪ من استهلاكها للغاز من روسيا كذلك بالنسبة لحاجتها من البترول إذ إنّ اكثر من ٨٤٪ من النفط تستورده ألمانيا من روسيا، وقد يكون البديل التحوّل الى الغاز الصخري الذي تنتجه الولايات المتحدة او قطر في انتاج الغاز الطبيعي المسال.
وحسب ألكسندر شوخين رئيس الإتحاد الروسي للصناعيين ومنظمي الأعمال قد تضطر أوروبا لأخذ تدابير غير متوقعة مثل تخفيف العقوبات على نفط ايران ما يؤدي الى تغيير جذري من ناحية العرض ويمكن أن يتسبب في انخفاض الأسعار. لذلك وحسب شوخين «لن يكون لهذه العقوبات تأثير كبير بلا تكاليف كبيرة ستتكبدها هذه الدول».
والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما اذا كانت هذه العقوبات ستضرّ بالإقتصاد الروسي فقط او أنّ ما ينطبق على روسيا ينطبق أيضاً على أوروبا، وللعلم فإنّ روسيا هي اكبر مصدر للطاقة الى أوروبا وهي أيضاً واحدة من اكبر ثلاث دول منتجة النفط في العالم وأكبر شريك تجاري للإتحاد الأوروبي، إذ إنّ التبادل التجاري مع أوروبا قد بلغ مئات المليارات من الدولارات سنوياً على عكس التجارة الثنائية بين روسيا والولايات المتحدة وهو اكثر حساسية منه ما بين أوروبا وروسيا لذلك جاء كلام ميركل دقيقاً غير متهور.
وجاء قرار المجموعة الأوروبية مكتفياً بتعليق مشاركة روسيا في قمة G8 التي من المفترض أن تجتمع في حزيران المقبل في سوتشي في روسيا هذا مع العلم انّ الدول منفردة قد لا توافق على أيّ عقوبات تعرّض فيها اقتصادها للخطر، خصوصاً من ناحية عقوبات اقتصادية واسعة على روسيا.
هكذا كان الوضع في بريطانيا كون لندن ملاذاً آمناً للعديد من الأثرياء الروس إذ إنه وفقاً لإحدى الدراسات الحديثة اشترى الروس ٨،٥٪ من الممتلكات البريطانية والتي تبلغ قيمتها ٤،٣ مليارات دولار ما بين آذار ٢٠١٢-٢٠١٣ ما خلق فقاقيع ممتلكات في عاصمة المملكة المتحدة.
أما فيما يتعلق بالمصارف فلا بدّ من الإشارة هنا الى انّ المصارف الفرنسية وكذلك النمساوية تتأثر وبشكل كبير بالسوق الروسية وقد لحظت مجلة الـ»ايكونوميست» انّ مشروع اقتراح لحظر الأسلحة على روسيا قد أُلغي بسبب اعتراضات من فرنسا والتي لديها مشاريع دفاعية مهمة مع روسيا، لذلك نرى أوروبا منقسمة الى ثلاثة معسكرات فيما يخصّ العقوبات على روسيا:
١- بولندا ودول البلطيق والسويد وهولندا أظهرت عن خوفها الشديد من تحركات بوتين وتريد اتخاذ إجراءات قوية.
٢- بريطانيا وفرنسا وألمانيا تربطها بروسيا علاقات اقتصادية قوية ولكنّ هذه الدول تميل الى موقف اكثر صرامة اقتناعاً بأنّ التقاعس عن هكذا أمر سوف يشكل سابقة خطيرة.
٣- اليونان وإسبانيا وإيطاليا وقبرص وبلغاريا والتي تعتمد على الطاقة الروسية والتجارة قد تقاوم هكذا عقوبات كونها ستنعكس ارتفاعاً داخلياً في الأسعار مع ما يتأتى عن ذلك من اضطرابات سياسية في الداخل، لذلك قد يكون موقفها ضعيفاً تجاه تلك القرارات.
هذه المواقف المتباينة واجهتها روسيا بمواقف حازمة قائلة حرفياً: «إنّ ايّ توسيع للعقوبات امر غير مقبول ولن يبقى دون نتائج». علماً انّ الروس يلعبون دوراً مهماً في مختلف القطاعات الإقتصادية الأوروبية من صناعة السيارات في ألمانيا الى صناعة الموضة في إيطاليا الى الخدمات المالية في لندن. كذلك بالنسبة الى السياحة في اليونان. بالإضافة الى ذلك هنالك بلايينٌ من الدولارات في الإستثمارات الأجنبية في روسيا يجب اخذها بعين الإعتبار اذا ما أراد الروس الإنتقام من العقوبات الغربية.
وبالنسبة لأوروبا، ألمانيا هي الأقوى اقتصادياً وتعدّ اكبر شريك تجاري لروسيا وعدد كبير من سكانها هم من المهاجرين الروس، لذلك وجب الأخذ بعين الإعتبار هذا الأمر كونها سوف تواجه تحديات كبيرة لقطاعاتها الصناعية تحت ايّ نظام عقوبات أوسع نطاقاً.
ووجب على الأوروبيين الأخذ بعين الإعتبار وبجدية التهديدات الروسية بالإنتقام من ايّ نظام عقوبات اقتصادية نظراً لتاريخ روسيا في تأميم الشركات ذات الإستثمار الأجنبي وعدم احترامها لحقوق المساهمين. ولدى موسكو العديد من الأساليب للضغط على تلك الإستثمارات مثل الضرائب او الإنتهاكات البيئية ما قد يجعل هذه الشركات غيرمربحة.
ولمن فاته الامر، القطاع المصرفي سوف يكون الأكثر تضرراً إذ إنه عملية ذات اتجاهين، فالتقديرات تعطي فكرة عن مديونية الشركات الروسية للخارج ولا سيما لأوروبا (603 مليارات دولار من الديون الخارجية)، لذلك فإنّ ايّ صدمة مالية في روسيا سوف تؤثر في النظم المصرفية بأوروبا والولايات المتحدة. كذلك ايّ قرار سلبي تتخذه شركات الطاقة الروسية له عواقبه خصوصاً بالنسبة لأوروبا، فماذا سيحدث لسعر الغاز اذا قرّرت Gazprom «غاز بروم» الحدّ من امداداتها على سبيل المثال.
وفي النهاية إنّ مجال المناورة لأميركا والإتحاد الأوروبي محدود للغاية وقد يقتصر على عقوبات دبلوماسية، وأيّ عقوبات اقتصادية لا تزال مستبعدة ومن جهة الإتحاد الأوروبي تحديداً.
لذلك وفي هكذا وضع يبدو انّ الميزان الإقتصادي ومنطقه يطغيان وبشكل كبير على مسألة سياسية بحتة قد يكون او لا يكون لها مبرراتها، في حين أنّ القرارات الإقتصادية لها ارتداداتها وقد تكون موجعة في كثير من الأحيان.