25-11-2024 02:48 PM بتوقيت القدس المحتلة

زلزال القرم وارتداداته المتوقعة على الشرق الاوسط (1/2)

زلزال القرم وارتداداته المتوقعة على الشرق الاوسط (1/2)

يمثل انضمام -أو ضم- شبه جزيرة القرم الى روسيا واحداً من أكبر الأحداث التي شهدتها أوروبا منذ انتهاء الحرب الباردة رسمياً بين المعسكر الغربي والمعسكر الاشتراكي.

علي عبادي


يمثل انضمام -أو ضم- شبه جزيرة القرم الى روسيا واحداً من أكبر الأحداث التي شهدتها أوروبا منذ انتهاء الحرب الباردة رسمياً بين المعسكر الغربي والمعسكر الاشتراكي. هذه الحرب التي انتهت بتفكك الاتحاد السوفياتي بداية التسعينيات، استؤنفت بصور أخرى ناعمة (أدواتها اقتصادية وسياسية وتكنولوجية) بهدف هضم التركة السوفياتية واجراء انقلاب كامل لمصلحة الغرب من خلال ضم اجزائها المفككة الى حلف الناتو المنتصر والى منظومة الاتحاد الاوروبي.

ولقد كانت مسألة الدرع الصاروخية تمظهراً عسكرياً لانبعاث الصراع مجدداً بين روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي وبين الولايات المتحدة ومعها الغرب الأوروبي، لتعبر عن مدى سعي واشنطن لبسط مظلتها فوق دول العالم شرقاً وغرباً بما يعني عملياً شل قدرات الدول الأخرى على صعيد سلاحي الطيران والصواريخ، وهي أقرب الى ان تكون نسخة أرضية من برنامج "حرب النجوم" الذي اطلقه الرئيس الاميركي رونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي. واتخذت الشكوك الروسية ازاء المد الاميركي بعداً آخر من عدم الثقة مع السعي لضم الدول المحيطة بروسيا الى الفلك الغربي، من جورجيا وجمهوريات البلطيق الى روسيا البيضاء وأوكرانيا. ويبدو أن القيادة الروسية حصلت من عميل المخابرات الاميركية ادوارد سنودن الذي لجأ الى روسيا مؤخراً على معطيات كثيرة مكنت موسكو من تكوين فكرة أوضح عن المخططات الأميركية لإضعاف روسيا والدول المنافسة الأخرى. 

هناك أمثولة تاريخية تؤسس ربما لفهم كيف تبدأ الحروب العالمية. فحالة روسيا اليوم تشبه من بعض الوجوه حالة ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث انتـُزعت منها أراض لمصلحة دول أخرى وفـُرض عليها دفع تعويضات باهظة وقيود على التسلح، وأشعرَ ذلك الكثيرَ من الألمان ، الذين يفخرون بهويتهم القومية بالمهانة، وأفسح المجالَ لتغيرات داخلية والإعداد للإنتقام ممن أذلوا ألمانيا. وكانت الأقليات الألمانية القاطنة في دول مجاورة عنواناً لتبرير الرغبة الجامحة بفرض السطوة والإحترام بل وإظهار التفوق. واليوم يشعر الكثير من الروس بأن بلادهم تتعرض لمحاولات إخضاع بطرق شتى وللإذلال بواسطة دول أقل منها شأناً وكانت بالأمس جزءاً من مجال نفوذهم التاريخي. وإضافة الى ذلك، أضحت الأقليات الروسية عنواناً للتدخل في جورجيا بالأمس، واوكرانيا اليوم، وربما في مولدافيا غدا.    
 
 هذه المقدمة تبدو ضرورية للإضاءة على مشكلة ستترك بصماتها على الساحة الدولية والعلاقات بين روسيا والولايات المتحدة لوقت ليس ببسيط. نتذكر جيداً كيف انطلقت التحليلات التي تتحدث عن عودة روسيا القوية الى "التعملق" دولياً بعد اجتياح قواتها أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عام 2008 وسلخهما عن جورجيا التي ارتضت الانضواء ضمن الحلف الغربي. وظهرت مبادرات روسية عدة تشير الى تصميم موسكو على فرض احترام رأيها في القضايا العالمية وكان من أبرز تجلياتها استخدام الفيتو ثلاث مرات في مجلس الأمن الدولي ضد مشاريع قرارات غربية في حق سوريا، وهو موقف يجب أن يُقرأ من زاوية ليس فقط عودة موسكو الى حلبة الشرق الاوسط بقوة، وإنما ايضا من زاوية تراجع نفوذ وهيبة الولايات المتحدة التي أخفقت في العراق وأفغانستان وفي إقرار تسوية للقضية الفلسطينية وفي إخضاع ايران.

 


هناك في القرم إذاً أزمة دولية كبرى من شأنها أن تنقل ثقل التجاذب الدولي - في الوقت الحالي على الأقل- من الشرق الأوسط الى أوروبا، وتفتح الباب أمام مواجهة غير محددة المعالم حتى الآن. لكن ذلك لا يمنع من بقاء الشرق الأوسط ساحة لتبادل الرسائل في ظل الأزمات التي تعصف بهذه المنطقة وارتباطها بصراعات القوى الكبرى.

من الآن، بدأ حلفاء أميركا من العرب والاسرائيليين وبعض الأوروبيين حضّ الادارة الأميركية على إظهار قدرتها على القيادة ووضع حد لروسيا، وإلا فإنه لن تكون لكلمتها أي تأثير او مفعول في طول الشرق الاوسط وعرضه، بعدما تحجّمَ دورها كثيرا بسبب إرثها الثقيل من الحروب ومشاكلها الاقتصادية وانقسامات أهلها من السياسيين.

مأزق السياسة والطاقة والجغرافيا    



تدرك واشنطن أن عليها أن توازن في تحركها لاحتواء القفزة الروسية الكبيرة بين تحقيق قدر مدروس من الضغط يكفي لدفع موسكو الى مراجعة حساباتها قبل أية خطوة أخرى، وبين تجنب حشرها في الزاوية والوصول الى نقطة اللاتراجع، وهي نقطة قد تضع البلدين النوويين على حافة صِدام خطير. كما تدرك واشنطن في الوقت نفسه أن روسيا ليست في وارد التراجع عن تعزيز نفوذها في محيطها الاقليمي ولن تقبل بعد اليوم تعريضها لتهديدات من أي نوع، وهي قد تـُقـْدم على خطوات إضافية اذا لمست الحاجة الى ذلك او رأت تراخي الغرب في التعامل معها.   


فرض التحدي الروسي في القرم نفسَه على الادارة الاميركية واوروبا الى حد قد يدفع الملفات الساخنة في الشرق الأوسط الى المقام الثاني او حتى الثالث في اهتماماتها. لكن الخيارات ليست واسعة، وبعضها يحمل أضراراً اقتصادية للغرب الذي تعيش العديد من بلدانه مرحلة الخروج من التعثر او خطر الإفلاس.

لكن وقف إمدادات الغاز الروسي الى اوروبا واوكرانيا خيار مُرّ للطرفين: إذ ان اوروبا تستورد من روسيا 30 % من احتياجاتها في مجال الغاز الطبيعي، وهو بمثابة سلاح اقتصادي في يد روسيا قد تستخدمه حين الضرورة ومن شأنه ان يؤدي الى اغلاق المصانع في العديد من انحاء القارة العجوز والى اضطراب دورتها الاقتصادية. وأي ضرر اقتصادي يصيب اوروبا سيصيب الاقتصاد الاميركي حتماً بفعل ترابط الاقتصادات الكبرى. وهذا بحد ذاته قد يدفع الى تروي الغرب في التعامل مع التحدي الروسي. هنا يقول محللون غربيون ان اللعبة تنتهي عند هذا الحد وان فلاديمير بوتين سيفوز مرة أخرى.

في السياق، ثمة نقطة هامة أيضاً في لعبة المصالح الكبرى وهي ان أزمة القرم قد تتدحرج لتعيد تشكيل خارطة الطاقة والسياسة على الساحة الدولية. ففي حال قرر الغرب تقليص اعتماده الجزئي على النفط الروسي، سيترتب على اميركا زيادة اعتمادها مجددا على نفط الشرق الاوسط بعدما كانت تخطط لتخفيف هذه التبعية الى أدنى حد. كما قد يدفع ذلك روسيا الى تحويل قسم هام من صادراتها من النفط الى الصين، خصوصا بعد اتفاقهما مؤخراً على توريد ما قيمته أكثر من 350 مليار دولار من النفط الخام الروسي الى الصين في السنوات القليلة المقبلة. وهذه الصورة – المزيج من الصراع السياسي ومبادلات الطاقة قد تسهم في تشكّل محاور دولية جديدة تكوّن بموجبه روسيا والصين ثقلاً هاماً أكثر ترابطاً في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها. ونلاحظ أنه في الوقت الذي يشتد التجاذب بين أميركا وروسيا حول اوكرانيا، ترفع الصين لهجتها في القضايا الجغرافية- السياسية الناشبة مع اليابان وكوريا الجنوبية. وإضافة الى ذلك، سيستعيد الشرق الأوسط دوره القديم الذي لعبه خلال الحرب العالمية الثانية في كونه الساحة الخلفية كممر ونقطة إمداد للقوى الكبرى في صراعها من أجل البقاء على قمة قيادة العالم.

إشارة الى انه برغم ما يقال عن طفرة الصخر الزيتي في الولايات المتحدة، فإنها لا تزال تخطط لاستيراد 40 في المئة من احتياجاتها من النفط الخام، بما يوازي 10.6 مليون برميل يوميا. وبالمناسبة، تورد أرقام وزارة الطاقة الاميركية ان الولايات المتحدة استوردت من روسيا في عام 2013 زهاء 167 مليون برميل من النفط الخام والمنتجات النفطية.

خيارات أميركا

عبّر الرئيس الاميركي باراك اوباما عن مأزق الغرب الحالي في صعوبة الجمع بين مصالحه السياسية والاقتصادية، فأشار من بروكسل الى ان العقوبات ضد روسيا يمكن أن تضر الاقتصادات الأوروبية التي لا تزال هشة، مُقراً بأن "الوقت الحالي ليس مناسباً للتهديد"، وقال أوباما "إن الوضع في أوكرانيا، مثل الأزمات في أجزاء كثيرة من العالم، لا يملك إجابات سهلة ولا حلا عسكريا". لكنه حض الأوروبيين على مواجهة "التوسع" الروسي من خلال توحيد الكلمة مع اميركا ووقف الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية والتوقف عن خفض الإنفاق الدفاعي بين بعض الدول الأعضاء من جانب حلف شمال الأطلسي التي تمر في ضائقة مالية.



وقررت الإدارة الاميركية إجراءات عقابية على موسكو تتراوح بين فرض قيود على التأشيرات، وتجميد أصول مالية، إضافة إلى قيود تجارية واستثمارية، وفرض عقوبات على البنوك المملوكة للدولة. وردّت موسكو على هذه الاجراءات بخطوات مضادة، ما يشير الى تصميمها على ردّ التحدي وعدم التراجع.
حتى تعليق عضوية روسيا في مجموعة الدول الثماني الكبرى (الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان وكندا وروسيا) ونقلُ مكان قمتها التي كانت مقررة في مدينة سوتشي الروسية في حزيران/ يونيو المقبل الى بروكسل لا يبدو فعلاً مُقْنعاً للعديد من الدوائر الأميركية التي ترى أنه ليس لدى الولايات المتحدة خطة استراتيجية فعالة تفرض تبعات وعواقب على روسيا. زيادة على ذلك، فإن تعزيز الحكم في اوكرانيا ضد روسيا، تبدو كلفته عالية جداً (يقدّر المسؤولون في كييف احتياجات بلادهم للنهوض الاقتصادي بـ 35 مليار دولار)، وبالتأكيد لن تكون المليار دولار التي وعدت الولايات المتحدة بمنحها لأوكرانيا عبر صندوق النقد الدولي إلا جزءاً بسيطاً من هذه الاحتياجات في بلد ينخره الفساد والانقسامات السياسية والقومية، واستنفد قبل ذلك المساعدات الاقتصادية الروسية.

هكذا تتحول الأزمة في أوكرانيا، التي سعت واشنطن الى قلب الأوضاع فيها لمصلحتها، عبئاً عليها من النواحي كافة وباتت تطرح تحديات جسيمة عليها وعلى حلفائها الغربيين، وهي لم تقدّر - كما يبدو- ردة فعل موسكو القوية التي ذهبت الى مراجعة و"تصحيح" الخريطة الجغرافية التي أرسيت بعد الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن دفع الوضع باتجاه احتمال انهيار أوكرانيا كدولة موحدة من الداخل وتشكيل نموذج تفتيتي يمكن ان يكون لاحقاً مثالاً يحتذى في دول أوروبية عدة تعاني من مشكلة الإنقسام القومي او الثقافي.  

في واشنطن لا أحد يحب سماع لغة التهديد باستخدام "الخيارات المفتوحة" ضد روسيا، والدعوات تنصبّ على عدم إطلاق تهديدات لا يمكن ترجمتها على أرض الواقع. وإزاء الإحساس بالعجز، تنطلق تعليقات تهكمية كتلك التي أدلى بها مايك روجرز رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب في تصريحات لقناة "فوكس" بقوله: "أعتقد أن بوتين يلعب الشطرنج، بينما نقوم نحن بلعب الحجلة"، في إشارة إلى ما وصفه بـ"التخبط" في سياسة أوباما تجاه روسيا. كذلك يقول السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام لـشبكة CNN إن أوباما يجب أن يقوم بأكثر من مجرد التهديد، بينما يقوم بوتين بنشر قواته في القرم.

خيارات روسيا

يدرك الروس جيدا ان العقوبات الاقتصادية الغربية ستكون مؤلمة وقد تؤدي الى هروب استثمارات تقدر بعشرات مليارات الدولارات. ومع ان التلويح الغربي بالتوقف عن استيراد الغاز من روسيا يمثل مشكلة للطرفين، من المهم أن نعلم أن العائدات من العملات الأجنبية التي تجنيها روسيا من صادرات الغاز تمثل ثـُمن إجمالي عائدات صادراتها.
والقيادة الروسية عاقدة العزم – كما يبدو- على عدم التراجع عن موقفها في القرم، وهي تدرك أن أي ثمن ستدفعه مقابل ذلك لا يوازي المكاسب التي ستحصل عليها من خلال البقاء على ضفاف البحر الاسود والحفاظ على مكانة روسيا واكتساب قوة ردع اقليمية ودولية، والأهم حماية وحدة روسيا المعرَّضة دوماً لمحاولات اختراق اميركية من الداخل سياسياً واجتماعياً وامنياً. كما يدرك الروس ان اوكرانيا هي مجرد عبء اضافي على اوروبا والولايات المتحدة لن يكون في وسعهما تحمله من دون تعاون روسيا التي تحتفظ بنفوذ في شرق اوكرانيا ولها حدود طويلة معها. وموسكو ترسل إشارات مستمرة على أنها توشك ان تتحرك لحفظ حقوق الأقليات الروسية في خاركوف ودونتسيك في شرق أوكرانيا.

ما هي آثار زلزال القرم على الشرق الأوسط وقضاياه المفتوحة على صراعات عسكرية وأمنية تهدد هي الأخرى جوهر خريطة سايكس – بيكو التي أقرت بعد الحرب العالمية الأولى؟ سنحاول مقاربة الموضوع في مقالة لاحقة.

 
للتواصل مع الكاتب : aliabadi2468@yahoo.com