قالت «الست»: من شاء من الدروز أن يقاتل الانتداب، فليذهب إلى سوريا. قول تردد منذ عام تقريباً. قاعدة ذهبية، من دونها لا تفهم السياسة في لبنان. اذهبوا إلى سوريا، أو «تعالي» إلينا يا سوريا.
كان يا ما كان:
سيدة المختارة، الست نظيرة جنبلاط، لها مع الثورة السورية الكبرى قصة تروى، ولها ما يشبهها في أيامنا الراهنة، وفي ما سيلي من سنوات. وشيء يشبه ما حدث في قديم الزمان، أنشأه السيد حسن نصر الله. في ما أقدم عليه، بمشاركته في الحرب السورية ما يثبت أن في لبنان قواعد اشتباك واتفاق، ونتائج مبرمة.
نصري الصايغ/ جريدة السفير
فلنروِ الحكاية.
اندلعت الثورة السورية الكبرى، ضد «الانتداب» الفرنسي، بقيادة سلطان باشا الأطرش. دفع الجيش الفرنسي في الميادين ثمناً باهظاً. خسر فرقاً عسكرية. قُتِلَ خيرة القادة من الضباط. استعملت الطائرات في القصف، وما أفلحت. دانت القوى السياسية السورية المعارضة للانتداب، وهي من ديانات ومذاهب متباينة، وذات حضور أكثري، لهذا القائد الذي كان منبوذاً سياسياً من عائلته، وخارجاً على طاعة كبار رجال الدين في طائفته آنذاك. ولقد بلغت المعارك غوطة دمشق مراراً، وتسللت مجموعات واقتحمت مقر المندوب الفرنسي، في قصر العظم. نجا المندوب، بسبب غيابه يومذاك.
وجه شبه بين ذلك الزمان وهذا الزمان.
خاف نظام الانتداب من تداعيات الثورة السورية على لبنان. الثورة تخوض معارك في وادي التيم وفي أطراف جبل عامل، وينازلها الفرنسيون بجيوشهم، وبالأقليات المحسوبة عليهم... وهذا مفهوم ولا يحتاج إلى شرح. فقد وأدت فرنسا ثورة العشرين في لبنان في جبل عامل، بقوتها قليلاً، وبالفتنة الطائفية التي حسمت المعركة.
وادي التيم يغلي، ولكنه في «الأطراف»، فكيف يمكن تفادي قلب لبنان من تداعيات الثورة السورية، وتحديداً في جبل لبنان، أو بالأخص، في جبل الدروز في الشوف؟
المختارة، لم تكن محظية فرنسية. سبق أن كانت على «صداقة» وحماية مع بريطانيا، منذ ما قبل فتنة الستين. تطلع دو جوفنيل إلى الست نظيرة، التي تجرأت بعد مصرع زوجها، على الخروج من خدرها، متحدية التقاليد، لتولي زعامة عريقة، ينافسها في ذلك، البيت الإرسلاني، المعطوف عليه انتدابياً، بحيث روّج ودفع إلى تزوير عمر المير مجيد إرسلان، ليتسنى له أن يصبح نائباً وريثاً لعمه. بشطحة قلم، صار عمر المير مجيد 25 سنة، وصار نائباً حتى مماته.
هذا درس لبناني، على اللبنانيين أن يتعلموه. الخروج عليه أضغاث أحلام.
فتحت المندوبية الطريق إلى المختارة، والهدف إقناع الست نظيرة، بمخاطر انتقال الثورة إلى لبنان، وما ينتج من ذلك من فتن، في جبل شديد الحساسية... الطلب صعب، ولكن الفتوى العبقرية التي اجترحتها «الست»، أنقذتها من تهمة الخيانة، إذ كيف يمكن أن تمنع مشاركة بمقاتلة محتل، الدروز في الجبل، وماذا ستكون العاقبة.
كان يا ما كان... مثل هذا الزمان.
قالت «الست»: من شاء من الدروز أن يقاتل الانتداب، فليذهب إلى سوريا. قول تردد منذ عام تقريباً.
قاعدة ذهبية، من دونها لا تفهم السياسة في لبنان.
اذهبوا إلى سوريا، أو «تعالي» إلينا يا سوريا.
إن نأيت بنفسك أو تمنَّعت، فالنتيجة واحدة. بين دمشق وبيروت الطرق كلها سالكة، ذهاباً وإياباً. وعليه، لا إمكانية لعدم انخراط الفرقاء اللبنانيين، مع أو ضد، في الأحداث السورية. ولا «عفة وطنية سيادية» عند أحد، لعدم الاستعانة بسوريا لحسم الصراع. من كانوا ضد سوريا من الانعزاليين استنجدوا بحافظ الأسد، لنجدتهم، ضد «الحركة الوطنية» و«الثورة الفلسطينية».
ومع أنه ليس في السياسة قدر، إلا أن ما بين لبنان وسوريا قدراً ثقيل الوطأة، لا مفر منه ولا نجاة منه إلا به.
كان هذا من زمان. وبالأمس، نصح «السيد» القوى اللبنانية على عدم الرهان على التغيير في المنطقة، لمصلحة مشروع سياسي إقليمي دولي يستهدف المقاومة في لبنان، ومحورها الممتد في بيروت إلى طهران... فهل ينتصح «زعماء» لبنان؟
نصيحة «السيد» في نقل المعركة إلى سوريا، منذ عام تقريباً، وتحييد أرض لبنان عن القتال، لم تكن متطابقة مع الواقع، فتدفق العمليات الانتحارية وانتشار العنف وتكرار الجولات، وضع لبنان على كف عفريت. غير أن ما بعد معارك القلمون بات مختلفاً. فلبنان، يكاد ينجو من العنف المصدّر إليه من التكفيريين. واقتنع فريق «14 آذار» (ربما!) بأن التغيير في سوريا لم يعد وارداً، وان كانت الحرب ستستمر، فكانت الحكومة ثم البيان الوزاري ثم الثقة ثم الخطة الأمنية لعرسال وطرابلس و...
تأسيساً على المستجدات الميدانية في سوريا، باتت المقاومة على ثقة بأن ما قامت به من دعم لنظام كان يتداعى، جاء لينقذ المقاومة في لبنان. فحرب المقاومة في سوريا، كانت دفاعاً عن المقاومة أولاً وعن حليف المقاومة. ولو حصل العكس، لأصبح خطاب رئيس الجمهورية الذي خسر التجديد، وهو خطاب اليأس، جدول أعمال فريق 14 آذار، وبلا تنازلات أبداً.
لا جديد في لبنان. ما حدث من زمان يحدث الآن.
عندما خسرت الثورة السورية بقيادة الأطرش، وتحديداً بعدما تخلت عنها قوى إقليمية داعمة، صعد نجم الست نظيرة، وباتت الرقم الصعب لدى الانتداب، فيما القيادات الدرزية الأخرى المهزومة، انسحبت من الحياة السياسية نهائياً... فالخاسر في سوريا أو مع سوريا يخرج من لبنان.
لو نجحت الثورة السورية، في العام 1925، لدفعت المختارة ثمناً باهظاً، ولكان ورثها الثوار الذين قاتلوا الانتداب. خسارة سلطان باشا الأطرش في سوريا، توّج الست نظيرة في المندوبية، كسيدة لها حق الامرة. ومن المعروف أن قادة لبنان عندما اعتقلتهم سلطة الانتداب بعد إعلان الاستقلال، كانوا يتقصّون حركة «الست» من معتقل راشيا، خوفاً منها.
من الست نظيرة إلى السيد حسن. بعض من تاريخ لبنان ودروسه.
انتخابات الرئاسة تندرج في خانة نتائج الميدان السوري على لبنان وإيران والسعودية وأميركا وتركيا. ولكن على لبنان أولاً. «حزب الله» ذهب إلى سوريا، كي لا يخسر في لبنان. وفريق «14 آذار» في سوريا كي يربح في لبنان. «حزب الله» حقق الكثير، و«14 آذار»، اكتسبت واقعية مستجدة، فاكتفت بأن تكون شريكاً، بعد ان كانت تطمح لأن تكون وحيدة، عبر خوف «حزب الله» من الحكم والسلطة و...
إحدى أهم فضائل التاريخ، أنه قابل لأن يكون أمثولة، بشرط أن يقرأ اللبنانيون، ما أفتت به الست نظيرة وما أبرمه السيد حسن.
فما صلح في قديم الزمان، يصلح لكل آن في لبنان.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه