فتيات وسيدات تركن منازلهن، ليس نزوحاً، ولكن نحو... خطوط النار. أتين من مناطق مختلفة وخلفيات متباينة، ليقاتلن في الساحل السوري... «إذ إننا لن ننتظر جالسات في منازلنا من يدخلها ليأخذونا سبايا»
مرح ماشي
فتيات وسيدات تركن منازلهن، ليس نزوحاً، ولكن نحو... خطوط النار. أتين من مناطق مختلفة وخلفيات متباينة، ليقاتلن في الساحل السوري... «إذ إننا لن ننتظر جالسات في منازلنا من يدخلها ليأخذونا سبايا»
بالقرب من خطوط التماس في مصيف كسَب السياحي، تحمل لامار سلاحها إلى جانب عدد من الرجال، في معركة يسمونها «معركة الوجود».
مشهد الفتاة الثلاثينية بعيد عن الأضواء وفضول وسائل الإعلام. لامار اسمها الحركي. لا تفسح المجال لابتسامة عند ترداد اسمها. يلفت أسلوب تخاطبها مع زميلاتها ومع رفاق سلاحها من الرجال. «رفيق»، تنادي على أحد المقاتلين، فيأتيها الجواب: «إي رفيقة».
تقطع مع زميلاتها مسافات طويلة سيراً على الأقدام. في ظل حرب طحنت رحاها العديد من رجال الساحل، كان لا بد من أن تشارك فتياتها في سدّ أي فراغ «محتمل» للدفاع عن قضيتهن ووجود شعبهن. تدرّبت لامار على العمل في الخطوط الخلفية، بتقديم الدعم الطبي واللوجستي للمقاتلين على الخطوط الأمامية، إلا أن إمطار منطقتها بعدد من القذائف الصاروخية «كشف» قدراتها القتالية، مع رفيقاتها. اليوم، كلّ منهن تتمترس خلف ساتر ترابي، وتختفي بين الأشجار، فلا يظهر إلا سلاحهن اللامع بين الحشائش. قذيفة تلو الأخرى، ورشقات رصاص قريبة، ترفع جاهزيتهن لدفع الخطر القريب.
الفتاة السورية البسيطة ترتدي قلادة عليها العلم السوري، تقول إنها رفضت أن تجلس في منزلها في انتظار «اجتياح المسلحين المستبيحين الأعراض». تعتبر نفسها عنصراً فاعلاً على الأرض. تقول إنها شاركت في أكثر من اشتباك منذ أشهر، وكانت على الخطوط الأمامية بين رفاقها الذين لم يخشوا عليها، لأنها «مدرّبة مثل بقية المقاتلين».
لا تتجاوز أيام الدورة التدريبية التي خضعت لها الشابة 15 يوماً، إلا أن رفاقها ساعدوها في التطبيق العملي حتى أصبحت تضاهي بعضهم في قدراته. عن العلاقة مع الشبان المقاتلين تقول إنها «أخوية ورفاقية»، لافتة الى حالات قليلة لزيجات تمت بين «رفيقات ورفاق مقاتلين في الصفوف الأمامية». عائلة لامار تدعم خيارها منذ البداية، وأصبح «من الصعب أن يسحبوا هذا الدعم بعد الخطر الذي يتهدد البلاد»، بحسب تعبيرها.
شاركت لامار في أكثر من اشتباك وكانت في الخطوط الأماميّة
(الأخبار)
الحجاب ليس عائقاً
أيام كثيرة منذ بدء اشتباكات كسب أمضتها الفتيات من دون نوم أو راحة. القلق كبير، والرجال يجابهون الخطر بمفردهم، فيما تمارس النساء وظيفة الانتظار المعتادة. تهديد الشريط الساحلي أرخى بظلاله على الفتيات اللواتي لم يتخيّلن أن ينتهي الأمر بهن «سبايا»، تحت سلطة تدّعي الشرعية باسم الدين، حسب قول مريم. مريم مُقاتلة أخرى، حجابها ليس عائقاً دون تنفيذ واجبها. تفاخر الفتاة بحمل السلاح في جبال اللاذقية للدفاع عن بلادها. وتحاول ألا تثير استفزاز جيرانها في منزلها الكائن ضمن حيّ محافظ. تخرج من منزلها باللباس المدني، وترتدي لباسها العسكري في مقر الانطلاق إلى الميدان، عكس رفيقاتها اللواتي يخرجن باللباس العسكري الكامل من بيوتهن. تناضل الفتاة من أجل وطنها، ويساعدها رفاقها في «تمويه نشاطاتها القتالية، ضمن بعض أحياء المدينة التي لا تتحمس لمثل هذه الأنشطة». مريم ليست جديدة على أجواء التدريب والقتال، وتوضح الأمر بقولها: «بدأتُ ضمن منظمة شبيبة الثورة التابعة لحزب البعث بالالتحاق بدورات التدريب على الإسعاف وحمل السلاح. وانتهى بي الأمر متطوعة ضمن صفوف المقاومة السورية لتحرير لواء إسكندرون». وحول سبب اختيارها هذا التنظيم تحديداً، ترى أنّه «يشمل سوريين من كل الأطياف ويرحّب بالاختلاف». «الكثير من الشبّان يقاتلون. لا يوجد أي نقص في العدد، إلا أننا مدرّبات وجاهزات في أي لحظة نُطلب فيها لأداء الواجب»، تقول لـ«الأخبار». وتضيف: «لدي أختان فقط، وليس لدي إخوة شبان. الأمر دفعني إلى أن أكون في جاهزية كاملة للدفاع عن نفسي وبلدي. وعائلتي تدعم خياري في المقاومة».
لا تخشى الفتاة من معرفة أهل حيّها بنشاطها الحالي، وتبتسم قائلة: «إنهم لا يتابعون ما ننشره عبر الانترنت من تسجيلات مصوّرة لنشاط تنظيمنا في صدّ هجمات المسلحين ضمن أراضي الريف الشمالي». ورغم أنها لا تتمنى أن يراها أي منهم تقوم «بواجبها»، لكنها «مستعدة للدفاع عن خيارها أمام أي تحدٍّ».
بعض الفتيات يهتممن بجمالهن كسائر النساء. يعترض بعض المقاتلين على تبرّج أي مشاركة في المعارك، وينتقدون الأمر علناً. إلا أن ميريتا التي تشارك في المعارك، بالتصوير الميداني «لتسليط الضوء على الإنجازات العسكرية على الأرض»، تؤكّد أن الاهتمام بالمظهر لا يؤثر على أداء أي امرأة... رغم أنّها لم تعد تهتم بذلك كعادتها. تركت أدوات تجميلها في المنزل، وأصدقاءها في المقهى، وارتدت لباسها العسكري وحملت سلاحها ليبدو جزءاً منها. ميريتا التي تحمل آلة التصوير في الميدان، تضع سلاحها على كتفها، استعداداً لأي مفاجأة غير محسوبة.
... والطبيبة مقاتلة
«أخت رجال»، هكذا يصف المقاتلون بانة صالح. الطبيبة الشجاعة جاهزة لتلبية نداء الواجب في أي وقت. تجري العمليات الجراحية تحت النار. «أنا أناوب في نقطة لا تبعد عن خط الاشتباكات أكثر من 5 دقائق بالسيارة. قريبة من أي منهم فيما لو تعرّض لأذى»، تقول. في عينيها الكثير من العزم، وابتسامة رضى عن الذات تبعث الراحة والطمأنينة في نفوس المرضى والأصحاء. تصرّ على ارتداء اللباس العسكري، إيماناً منها بأنها مقاتلة مثل الجندي تماماً، وبكون اللباس المموّه يساعدها على التحرك بين الجبال. تتباهى الطبيبة بما لديها من أدوات ومستلزمات تساعدها في إجراء أي عمل جراحي. تساعدها ريم، الممرضة الشقراء ذات النظرات الجدية. منذ سنة ونصف السنة وضعت الفتاة خبرتها في التمريض في تصرف المقاتلين، وعملت مع الأطباء لتخفيف أوجاع الجنود، وتضميد جراحهم. رفضت الجلوس بانتظار مجريات الأحداث، وقررت الذهاب إلى موقع الحدث لتقديم المساعدة، فيما لدى سمر، المرأة الأربعينية وعالمة التربة، أخوان مقاتلان، تطوعت إلى جانبهما لتكون قريبة إن احتاجا إلى المساعدة. وهي ورفيقاتها يشاركن في دعمهم على الخطوط الخلفية للمعركة.
كل الفتيات اللواتي بحثن عن دور لهن في المعركة مررن بالخطوات ذاتها.
ميريتا، مثلاً، تقول: «زرتُ مقر المقاومة السورية المعلن عنه. قدمتُ طلب انتساب مع 3 صور شخصية. انتظرتُ حتى اتصلوا بي لإخباري بالقبول، بعد إجراء الدراسة الأمنية والأسئلة المختصة بالسمعة والأخلاق». وتتابع: «العلاقات بيننا قائمة على المحبة والاحترام. أمس زارتنا إحدى الرفيقات المتزوجات من رفيق مقاتل. جاءت مع زوجها من شهر العسل ووضعا نفسيهما تحت تصرف القيادة خلال المعارك الدائرة». ميريتا ترى أنّه لا نقص في أعداد الشبان المقاتلين، لكن من حق كل فتاة وواجبها أيضاً أن تحمل مسؤوليتها... «بدي احمل مسؤوليتي متل خيّي ورفيقي. الأرض أرضنا والحرب عنّا».
بوتين الساحل
لا يمكن لمن يقاتل على الجبهة الشمالية في ريف اللاذقية عدم معرفة «أبو علي بوتين». يعود من الخط الأمامي للجبهة مع عدد من رفاق سلاحه. شبهه الكبير بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين جعله محط أنظار الجميع، مع الاحتفاظ بملامح شرقية أبرزتها سمرة خفيفة لوّحت بها شمس الساحل على جبهته. رأسه المميز لا يُنسى، إذ يعرفه عناصر الحواجز ويدللون عليه قبل رمي التحية، ثمّ يهمسون لمن لا يعرفه: «إنه بوتين الساحل». بوتين قيادي محارب على جبهة اللاذقية، ترك عمله متعهد بناء منذ أول رصاصة أطلقت في الساحل السوري. يقود عدداً من المقاتلين المدربين ضمن تنظيم «المقاومة السورية». أسباب كافية لتجعل صفحات المعارضة المسلحة «تطلب رأسه».
وصلت شهرته إلى وسائل الإعلام الروسية التي سألته إحداها: «لماذا تطلق على نفسك اسم الرئيس الروسي؟»، فأجاب: «أنا لم أطلق على نفسي أي اسم. رفاقي سموني بوتين لأسباب تتعلق بالشبه لا أكثر». لـ«الرفيق بوتين» صفات يسارية، يرويها عنه رفاقه، لا علاقة لها بالرئيس الروسي أيضاً. صفات يمكن أن تلمسها في تصرفاته وكلماته. لعل أبرزها علاقته غير الجيدة بغالبية رجال الدين. يتحرك من الجبهة نحو المستشفيات الميدانية. يطمئنّ على بعض الرفاق، ويطمئِن عائلاتهم. يتحدث عن المعركة بشفافية مطلقة، تجعل محدّثه يفكر في ما قد ينقله عنه، بهدف عدم إثارة قلق الناس «عند تسمية الأمور بمسمياتها».
http://al-akhbar.com/node/203814
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه