24-11-2024 10:02 PM بتوقيت القدس المحتلة

الإخاء الديني في سيرة الإمام علي (ع)

الإخاء الديني في سيرة الإمام علي (ع)

يوقّع بيمينه على وثيقة حماية المسيحيين :"لا يُضاموا، ولا يُظلموا، ولا ينتقص حق من حقوقهم فأموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا".ثم ّ ينهي (ع) عن فقه التمييز الطائفي فيأمر بجعل دية المسيحي كدية المسلم

السلام عليك يا أمير المؤمنين علي بن أبي طالبماذا يقال في الإمام علي(ع) وهو الذي لم يرفع يده بغضب السيف على باغ من الباغين عليه، إلا وقد بسط كلتا يديه قبل ذلك للسلام..؟!. ثم يقول لمناجزه :"‘إني لأكره أن أريق دمك.." وهو الذي أسسّ لمحو مصطلح الثأر الجاهلي من قاموس العرب وعداوات العرب .. 

زينب عثمان/ مجلة المعارج

فكان مؤسساً بحق لآدب المفاوضة في كل خلاف، ومن ثم أدب الخصومة في كل نزاع فصدف بعقله عن خصومات فعل الغرائز ورد الفعل عليها بالغرائز ليلفت إلى أن الجهل والغضب هما المثيران لطغيان الخصومة فلا تفضّ إلا بالمعرفة ومحبة الهدى بوصفهما معيار النقد فيقول :"إنني أكره لكم أن تكونوا سبّابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر وقلتم مكان سبّكم إياهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم وأهدهم من ضلالهم حتى يعرف الحق من جهله".

لقد خاصم الإمام (ع) وفاوض وسالم وتسامح، ولكنه لم يداهن قط في دينه ولم يعط الدنية في أمره ولم يكره شيئاً كراهيته لشن الثارات الجاهلية وسفك الدماء وعنده أن الغالب يمثل هذا الشر مغلوباً. ولأول مرة يؤسس لثقافة الإعتذار اقتلاعاً لألغام الفتن والقتال فيؤدب الجميع على معنى الاعتذار والانتصار لعقل المودة بين الناس :"اقبل عذر من اعتذر إليك".."وقاتل هواك بعقلك تسلم لك المودة".

وعنده أن المؤمن لا يدخله غضبه في باطل، ولا يخرجه رضاه عن الحق، فيقول (ع) : شيعتنا إن غضبوا لم يظلموا ..بركة على من جاوروا سلم من خالطوا". فإذا كانت لغة الإمام لغة إنسانية وإذا كان فكر الإمام فكراً بحجم الحضارة الإنسانية، وعنده أن الفتن التي تؤججها قواقع الأسلحة بالغيظ لا ترد إلا بالصلح الذي يحقن الدماء، فإن في الصلح دعة للجنود وراحة من الهموم وأمناً للبلاد.

ولأول مرة يلفت الإمام علي (ع) إلى فتنة من فتن المفاوضات مع العدو فيحذّر من كتابة الاتفاقات بلغة ملتبسة تحتمل التأويل والتفسير لأن مثل هذه اللغة من شأنها أن تغري المتفاوضين بلعبة الاحتيال على الألفاظ والكلمات، تماماً كما حدث في وثيقة قرار مجلس الأمن الدولي لانسحاب "إسرائيل" من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967، فقد عمد الإسرائيلي إلى مخادعة القانون الدولي بالقول إن نص الوثيقة يدعوه إلى الإنسحاب من أراض وليس من الأراضي، أي أن حذف حرف واحد من القرار الوثيقة انتهى إلى تزويرها وابتلاع الأرض العربية في واضحة النهار.. فيقول الإمام علي (ع) :"ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل ولا تعولن على لحن قول إلا بعد التأكيد والتوثقة".

ولأن السلام ثقافة فإن أبجدية هذه الثقافة مركوزة في حروف العدالة، ولأن العدالة مشروطة بوحدة الميزان فإن معركة السلام والعدالة هي معركة العلماء بوصفهم المناء على اعتدال الميزان بالحق فيقول :" وقد أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم... وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد.."

ولأول مرة يفتح مفهوم الإخاء الديني على مفهوم الإخاء الإنساني بنظرية المساواة في المواطنة وفي الكرامة وفي الحقوق والواجبات.. فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، ولا تندمن على عفو ولا تبجحن بعقوبة.

ولأول مرة يتمّ التأسيس لحوار الأديان على قاعدة الدين الواحد فيروي الإمام (ع) عن خاتم الأنبياء (ص) قوله :"لا تستصغرن عبداً من عبيد الله فربما يكون وليه وأنت لا تعلم". والجوهر في دين المتدينيين هو الزهد يراه في أخلاق المسيحيين الأوفياء لمنهاج المسيح (ع) فيصفهم :"أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً وترابها فراشاً وماءها طيباً ثم قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح (ع).

وما معنى من معاني الإمامة إلا وهو متصل أوثق الإتصال بروح على واسم علي (ع) سواء منها ما دلّ على الإمامة القانون :"وكل شيء أحصيناه في إمام مبين" ( يس : 21). أو على الإمام القدوة والمثل الأعلى :"قال إني جاعلك للناس إماماً" (البقرة : 124). أو على الإمامة المعرفة المحيطة بكلام الله كله في التوارة والإنجيل والقرآن وهو القائل :"لو ثبت لي وسادة، فجلست عليها لحكمت في أهل القرآن بقرآنهم حتى تركت كل كتاب ينطق من نفسه".. لقد صدق علي (ع).

السلام عليك يا وليد الكعبةوشرف المرأة المسيحية عنده كشرف المرأة المسلمة فيغضب على سفيان بن عوف عشية انتهاكه لحرمات المسيحيين والمسلمين في العراق فيقول :"ولقد بلغني أن الرجل كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجابها ... ثم يقول :"فلو أن امرءاً مسلماً مات من بعد هذا آسفاً ما كان به ملوماً". ثمّ يوقّع بيمينه على وثيقة حماية المسيحيين :"لا يُضاموا، ولا يُظلموا، ولا ينتقص حق من حقوقهم فأموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا". ثم ّ ينهي (ع) عن فقه التمييز الطائفي فيأمر بجعل دية المسيحي كدية المسلم. ويحذّر الإمام من فتنة التعصب للدين أو القومية أو السياسة لأن التعصب لا يتغذى إلا من جهل أعمى أو سفاهة عمياء ... في حين أن الإيمان والإخلاص لقيم الدين والقومية والسياسة يجب أن تصدر عن إرادة الوعي وعياً معرفياً بفضائل الأعمى للأفكار والأشخاص، فيقول :" ولقد نظرت فيما وجدت أحداً من العالمين بتعصب لشيء من الأشياء ألا من علة تحتمل تمويه الجهلاء او حجة تليط بعقول السفهاء"..

ولكي لا تغدو العلاقة بالدين ورموزه علاقة ضحية يؤسس الإمام لنظرية العصبية المحبوبة بقوله :"فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحاسن الأمور والأخلاق الرغيبة والأحلام العظيمة والأثار المحمودة والأخذ بالفضل والكف عن البغي والإنصاف للخلق واجتناب المفاسد في الأرض"..

والسؤال :كيف ينهض الوطن بمرآة هذا الوطن الذي يجسد في بنيانه المرصوص كامل تلك الفضائل ؟.. وكيف ينهض الوطن بمرآة هذا الإنسان الذي يختصر الوطن في رجل بملء العين وملء العقل وملء الروح؟!..