لا يُعكِّر فرحة أهالي طرابلس سوى اقتناعهم بأنّ وقف إطلاق النار الحالي ليس دائماً، ولم يأت نتيجة الخطّة الأمنية، وإنما بموجب تسوية أنتجت هدنة مؤقتة قد تهتز في أي لحظة
رضوان مرتضى
لا يُعكِّر فرحة أهالي طرابلس سوى اقتناعهم بأنّ وقف إطلاق النار الحالي ليس دائماً، ولم يأت نتيجة الخطّة الأمنية، وإنما بموجب تسوية أنتجت هدنة مؤقتة قد تهتز في أي لحظة، وربما يكون الاستحقاق الرئاسي أحد منعطفاتها.
عادت طرابلس مدينةً تضجُّ بالحياة، لكنّ أحداً من أهلها لا يُصدّق أنّ جولات الاشتباكات فيها انتهت إلى غير رجعة. المدينة التي تنفض عن نفسها غبار عشرين معركة أو يزيد، تعيش فرحة غير مسبوقة. لا يُعكّر صفوها سوى ترقّب حذر تتسبب به «الخطة الأمنية البتراء».
ووصفها بالبتراء، أو الناقصة، سببه أن الجيش لم يوقف، حتى اليوم، أحداً من المشاركين الأساسيين في اشتباكات باب التبّانة ــــ جبل محسن، ولم يُنفِّذ أي عملية دهم لمخزن أسلحة في أي من المنطقتين، رغم تأكيد المصادر الأمنية «تنفيذ عمليات دهم لجميع الأماكن المشتبه في استخدامها مخازن للأسلحة»، والإشارة إلى أنّ «محتوياتها كانت قد أفرغت منها لتوزّع بالمفرّق على عشرات المنازل».
في باب التبّانة، حتى قادة المحاور لا يزالون في أماكنهم. لم يدهم منزلُ أحدٍ منهم. حالهم على حاله، باستثناء تجنّبهم الظهور في وسائل الإعلام. يُسجّل إلى جانب ذلك، وقفهم الاستعراضات المسلّحة التي كانوا يُنفّذونها سابقاً. على سبيل المثال، يُنقل أن سعد المصري شوهد منذ يومين وحده يزور أحد المنازل معزِّياً بشاب قُتل على خلفية ثأر قديم بين عائلتي الليزا والأسود، فيما سُجّل ظهور لزياد علوكة في الحارة البرّانية. كما خرج هذان، إلى جانب كل من السلفي أسامة منصور ومحمود الحلّاق، المطلوبين بموجب مذكرات توقيف، في تظاهرة تطالب بالعفو العام. وكل ذلك يوضع في خانة تطمينات تلقّوها بأنهم لن يُمسّوا إن التزموا التهدئة. ورغم وضع إمام مسجد التقوى الشيخ سالم الرافعي ذلك في خانة عُربون «حُسن النية» بأنّ غاية الجيش سلام التبّانة وأمنها وليس الصدام مع أبنائها، إلّا أن ذلك يترك الباب مفتوحاً أمام احتمال تجدد اندلاع الاشتباكات في أي لحظة.
لم يتوار عن الأنظار غير حسام الصبّاغ. عاد الرجل إلى «غيبته الصغرى». ترك منزله ومزرعته منتقلاً إلى مكانٍ ما. ربما المكان نفسه الذي قضى فيه نحواً من خمس سنوات إثر تسطير مذكرة توقيف بحقه عام ٢٠٠٧ (على خلفية اتهامه بتشكيل مجموعة مسلّحة لإرسال مقاتلين إلى العراق).
الجيش سينفذ عمليات دهم لتوقيف المطلوبين البارزين
كل ما سبق، لا يُلغي أن قادة المحاور كانوا كبش الفداء، ولو إعلامياً، على الأقل حتى هذه اللحظة. لم تطل نار مذكرات التوقيف لاعبين رئيسيين على الساحة الطرابلسية. دعاة الحرب والمحرّضون والممولون الذين عبأوا رؤوس قادة المحاور وغيرهم من المسلّحين وفاقموا من شعورهم بمظلومية أهل التبّانة وحمّلوهم مسؤولية حمايتهم والذود عن الدين، صاروا بين ليلة وضحاها دعاة سلام. لا بل قاد بعض هؤلاء المصالحة بين التبّانة وجبل محسن. وتُرك حملة السلاح الذين هبّوا للدفاع عن منطقتهم في مهب ريح التسوية. حال باب التبّانة لا تختلف عن حال بعض أبناء جبل محسن. إذ يخامر هؤلاء شعور بأن داعميهم باعوهم في إطار تسوية.
في موازاة ذلك، تعيش أحياء باب التبّانة هدوءاً غير مسبوق. حركة الناس فيها تشي بارتياحٍ عام. لم يُعكّر صفوه على مدى الأيام الماضية سوى دوي قنبلتين انفجرتا ليلاً. الحادثة وضعتها الأجهزة الأمنية في خانة السعي الفاشل لتوتير الوضع، ولا سيما أن جنود الجيش يُعربون عن صدمتهم حيال انقلاب حال الناس. يقول أحدهم: «بين ليلة وضحاها تحوّلنا من مستهدفين في بيئة معادية إلى أبناء وأصدقاء لأهل التبّانة». يُضيف آخر، «تبيّن أن العالم بدها مين يفشخ فشخة أمامها كي تُكمل وحدها وهذا ما لم نكن نقرأه جيّداً». ويردف عسكري ثالث: «بغمضة عين، حوّل المشايخ خطابهم، فتحوّلنا من أعداء إلى أبناء». العلاقة بين الجيش وأهالي التبّانة في أحسن أحوالها اليوم، لكن تتردد معلومات تُفيد بأنّ الجيش في صدد تنفيذ عمليات دهم محدودة خلال الأيام القليلة المقبلة لتوقيف عدد من المطلوبين البارزين. بين هذه الأسماء، يحضر كل من خالد الراعي وعلي هاجر وأسامة منصور المعروف بـ«أبو عمر» وشقيقه جلال. يُستحضر هؤلاء بوصفهم يقودون أكثر المجموعات الإسلامية تشدّداً في المدينة. تكشف المصادر أن «خطة الجيش الأمنية يستحيل أن تستثني توقيف هؤلاء أو ملاحقتهم»، مؤكدة أنّ «هذه المجموعة تشكّل الخطر الأكبر ضد الجيش والسلم على حد سواء في مدينة طرابلس». بناءً على ما سبق، يُنتقص من قدر الخطة الأمنية. لا يعتبر هؤلاء أنهم دخلوا مرحلة الأمان. يصفها أحدهم بأنّها «مرحلة لاحرب، ليس إلا». إذ كيف يعقل أن تنعم المدينة بالهدوء في ظل وجود أكثر من عشرة مطلوبين أحرار يتجوّلون بحرية هنا وهناك، وسطّرت بحقهم عشرات مذكرات التوقيف، لطالما شكّلوا حالة رعب وتهديداً لأبناء المدينة. وهنا بيت القصيد. إذ كيف بإمكان الأجهزة الأمنية النوم على حرير وهم يعلمون أن قاتلاً أو أكثر، يتجوّلون في أزقة المدينة وأحيائها، ويمكن أن يرتكبوا جريمة قتل أو سلب في أي لحظة من دون رادع.
وفي مقابل هدوء الميدان النسبي، تحتدم المعركة على المستوى السياسي. وفيما يُعيد أفرقاء طرابلس التموضع مجدداً في معسكرات متقابلة، تتكشّف معالم مواجهة بين كل من الرئيس نجيب ميقاتي ووزير العدل اللواء أشرف ريفي. تعزّز هذا الاستنتاج حملة بدأها تيار المستقبل على ميقاتي. تكشف المصادر أنّ «قرار الهجوم اتُّخذ في اجتماعات التيار الداخلية وخرجت مفاعيله إلى العلن في وسائل إعلامه». يُنقل أن المستقبل نقل المواجهة من كونها ضد حزب الله مستبدلاً عدوّه بالرئيس ميقاتي. وتستدل المصادر بالحملة التي تحاول ترويج اتهام ميقاتي بتمويله الاشتباكات وحمايته المسلّحين في مقابل تظهير ريفي كالرجل الذي أعاد الأمن والأمان إلى المدينة، علماً بأنّه في الآونة الأخيرة كاد يُصبح المموّل الأوحد لمعظم المسلّحين في المدينة.
في عاصمة الشمال، كما في كل مكان، لا يُمكن فصل الميدان عن السياسة. العلاقة متلازمة بينهما. وعلى وقع الترقّب الحذر، يعدّ أهالي طرابلس أيام الهدوء بتوجّس. الأنظار كلّها موجهة نحو الاستحقاق الرئاسي بوصفه امتحاناً مرتقباً للهدنة التي اصطُلح على تسميتها «خطة أمنية».
http://www.al-akhbar.com/node/204114
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه