لم يكن قرار زعيم «جبهة النصرة» أبي محمد الجولاني، الذي اتخذه في مثل هذا اليوم من العام الماضي، برفض قرار أبي بكر البغدادي بالاندماج وتأسيس «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) قراراً سهلاً
عام على «الفتنة الجهادية» في سوريا
عبد الله سليمان علي
لم يكن قرار زعيم «جبهة النصرة» أبي محمد الجولاني، الذي اتخذه في مثل هذا اليوم من العام الماضي، برفض قرار أبي بكر البغدادي بالاندماج وتأسيس «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) قراراً سهلاً أو ارتجالياً.
ومع ذلك يبدو أن الجولاني لم يكن قد وضع في حسبانه كل التطورات الخطيرة التي يمكن أن تترتب على هذا الرفض، بدءاً من تأثيره على حياته الشخصية - حيث كاد «والي الدولة الإسلامية» في الساحل السوري أبو أيمن العراقي يقتله بعد يومين من رفضه، لولا تدخل نائب البغدادي، أبي علي الأنباري وإقناعه له بأن الساحة لا تحتمل مثل هذا الفعل - وانتهاءً بتأثير هذا القرار على ساحة الشام «الجهادية» عموماً، وعلى «جبهة النصرة» خصوصاً، سواء من حيث الصراع المسلح الذي نشأ بين الفصائل «الجهادية» نفسها، أو من حيث تراجع نفوذ «النصرة» التي كانت التقارير الإعلامية تشير إليها، قبل «الفتنة»، على أنها الفصيل الأكثر قوة وتنظيماً في الساحة.
بعد رفض الجولاني، بقيت «جبهة النصرة» لمدة تقارب ثلاثة أشهر شبه مشلولة عسكرياً وإعلامياً، فقد خسرت ما يقارب الثمانين في المئة من عناصرها الذين اختاروا راية البغدادي على راية الجولاني. كما خسرت بعض أهم قياداتها، وعلى رأسهم أبو عبد العزيز القطري، الذي قُتل منذ حوالي ثلاثة أشهر في ادلب، والذي كان يعتبر من مؤسسي «النصرة»، لكنه انشق عنها بعد الخلاف ليؤسس مع مئات من العناصر مجموعة «جند الأقصى».
كما خسرت «النصرة» معظم مقارّها ومستودعات أسلحتها في معظم أماكن وجودها في المدن السورية، باستثناء مدينة درعا التي يغلب فيها وجود «الجهاديين الأردنيين» الذين فضلوا البقاء مع «النصرة» عملاً بفتوى مشايخ التيار السلفي الأردني. وعاشت «النصرة» أصعب مراحل تاريخها خلال تلك الأشهر.
ورغم أن «حركة أحرار الشام» أصدرت بياناً تنتقد فيه مبايعة الجولاني لزعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، معتبرةً هذه البيعة لا تصب إلا في خدمة النظام، إلا أنها سارعت بعد خلاف الجولاني والبغدادي، إلى مد يد العون إلى «جبهة النصرة» كي تقف على قدميها من جديد. كما وصلت في هذا الوقت مجموعة الكوادر القيادية العسكرية والمالية والإدارية التي أرسلها الظواهري إلى الشام لتشارك في قيادة «جبهة النصرة» عملاً بموجبات البيعة ومتطلباتها. ونتيجة ذلك استعادت «النصرة» نشاطها، وعادت إلى تنفيذ العمليات الانتحارية، والمشاركة، وإن بشكل بسيط، في بعض العمليات القتالية الواسعة.
هذه العودة لـ«جبهة النصرة»، وخصوصاً عندما أعلنت عن عودتها إلى مدينة الرقة وافتتاح معسكر لتدريب عناصرها وتسيير دوريات في الشوارع، أثار غضب «الدولة الإسلامية» التي كانت قيادتها تتوقع ألا تقوم قائمة للجولاني ولجبهته، حتى أن بعض الوسطاء في محاولات المصالحة الأولى ذكر أن البغدادي قال بالحرف: «الجولاني أنا صنعته وأنا أنهيه».
ومع ذلك بقي الطرفان يتظاهران بأن الخلاف بينهما ليس أكثر من خلاف فرعي في السياسة الشرعية، وليس خلافاً في المنهج والأصول. وبالفعل تشارك الطرفان في العديد من العمليات العسكرية ضد الجيش السوري، ولكن بوتيرة أقوى ضد قوات الحماية الشعبية الكردية في المناطق الشرقية.
وفي رمضان الماضي، اجتمع العشرات من عناصر الطرفين على مائدة إفطار واحدة تحت شعار «النصرة والدولة إخوة»، لكنه كان آخر اجتماع بينهما، حيث شهدت الأسابيع والأشهر اللاحقة تصعيداً ساخناً في العلاقة بينهما، لا سيما بعد توقيع «جبهة النصرة» مع فصائل أخرى البيان «رقم 1» الذي سحب الشرعية من «الائتلاف الوطني السوري» المعارض و«الحكومة المؤقتة». وأطلق إعلاميو «الدولة الإسلامية» على موقعي البيان اسم «مشروع الصحوات»، لأنهم شعروا بأن البيان يستهدف «داعش» أكثر مما يستهدف «الائتلاف».
وكان أول دم يسيل بين الطرفين هو دم السعودي عطية مفضي العنزي الذي قُتل في السابع من كانون الأول العام الماضي، على أحد حواجز «النصرة» في أطراف مدينة الرقة. وكان مقتله إشارة واضحة إلى أن السيل بين الطرفين بلغ الزبى، وأن عودة الاقتتال لن تطول، وهذا ما حدث بالفعل بعد أقل من شهر على مقتله، حيث اندلعت الاشتباكات في منطقة الأتارب في الرابع من كانون الثاني الماضي، لتشعل شرارة الحرب «الجهادية» بين الفصائل بعضها ضد بعض، بمشاركة كل من «جيش المجاهدين» و«جبهة ثوار سوريا» و«الجبهة الإسلامية». وكانت مشاركة «النصرة» في هذه الاشتباكات غير معلنة رسمياً.
لكن الاشتباكات اتسعت حتى امتدت من ريف حلب إلى ريف إدلب، وصولاً إلى المنطقة الشرقية في دير الزور والحسكة. وعرض الجولاني بعد أسبوع من المعارك مبادرة لوقف القتال والاحتكام إلى محكمة مستقلة، ثم تدخل العديد من الوسطاء، كان أبرزهم الشيخ السعودي عبدالله المحيسني الذي عرض ما أسماه «مبادرة أمة»، لكن الأمور كانت تتجه إلى المزيد من التصعيد.
في هذه الأثناء كانت تغييرات جذرية تدخل على خريطة توزع الفصائل «الجهادية» على الأرض، حيث انسحب تنظيم «الدولة الإسلامية» من ريف اللاذقية ومن كل مناطق إدلب ومن دير الزور ومن ريف حلب الشمالي، ليحافظ على مواقعه ومراكزه في ريف حلب الشرقي (منبج وجرابلس) وريف الحسكة (تل حميس والشدادي)، وينتزع السيطرة على كل محافظة الرقة. ويبدو أن الجولاني قرأ انسحابات «داعش» على أنها مؤشر على الضعف والانهزام، فخرج أواخر شباط الماضي متوعداً ومهدداً بأنه سيقضي على «الدولة الإسلامية» ليس في الشام وحسب بل في العراق أيضاً، وكانت هذه ذروة القوة التي وصلت إليها «جبهة النصرة» بعد أشهر الخلاف الصعبة التي أصابتها بالشلل.
ورغم أن الانسحابات المتبادلة وإعادة التموضع التي نفذتها الفصائل المتقاتلة قد أدت إلى انحسار الاشتباكات في ما بينها، بعدما ارتسمت خطوط تماس محددة بين المناطق التي يسيطر عليها كل طرف، إلا أن الجبهة الشرقية، وتحديداً ريف دير الزور في منطقة مركدة ومحيطها، لم تهدأ وشهدت معارك طاحنة انتهت بعودة «الدولة الإسلامية» إلى مدينة دير الزور التي كانت قد انسحبت منها قبل شهرين. كما سيطرت على بعض المناطق الأخرى، مثل بلدة البصيرة، ووصلت إلى أطراف بلدة غريبة على مدخل مدينة دير الزور، لتفرض بذلك طوقاً محكماً حول المدينة، وتقترب أكثر من مدينة الشحيل التي يعتقد أن الجولاني ومسؤوله الشرعي موجودان فيها.
فهل يتمكن أبو أيمن العراقي، الذي يقود عناصر «الدولة الإسلامية» من تنفيذ ما منعه الأنباري من تنفيذه في بداية الخلاف؟
http://www.assafir.com/Article/1/345843
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه